أبدية عذاب النار وحال أهلها

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/أثر تذكّر عذاب النار على حياة العبد 2/حال أهل النار فيها 3/تنوع العذاب في النار والحكمة منه 4/الحذر من النار وأسبابها

اقتباس

إِذَا تَذَكرَ المُؤْمِنُ النارَ تَنَغصَ عَيْشُهُ فِي الدُّنْيَا، وَهَانَتْ فِي نَفْسِهِ مَلَذاتُهَا، وَرَثَى طُلابُهَا، وَشَمرَ عَنْ سَوَاعِدِ الجِدِّ بِالإيمَانِ وَالعَمَلِ لِلنجَاةِ فِي الدارِ الآخِرَةِ، وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِنَا أَنهُ أَنْذَرَنَا النارَ، وَوَصَفَهَا لَنَا، وَعَلمَنَا أَسْبَابَ النجَاةِ مِنْهَا...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ حَق تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُن إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا الناسُ اتقُوا رَبكُمُ الذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَث مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتقُوا اللهَ الذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِن اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد:

 

أيها المؤمنون: كُل إِنْسَانٍ على هذه الأرض رَاحِلٌ، وكل مَنْ طَلَبَهُ المَوْتُ وَجَدَهُ، وَالناسُ -كُل الناسِ- مَسَاكِينُ، يَأْكُلُونَ أَرْزَاقَهُمْ، وَيَنْتَظِرُونَ آجَالَهُمْ؛ فلاَ يَمْلِكُونَ رِزْقًا، وَلاَ يَدْفَعُونَ مَوْتًا، نَوَاصِيهِمْ لَيْسَتْ بِأَيْدِيهِمْ، وَلاَ يَعْلَمُونَ سَاعَةَ احْتِضَارِهِمْ: (قُلْ إِن الْمَوْتَ الذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنهُ مُلَاقِيكُمْ ثُم تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)[الجمعة: 8].

 

أَيُّهَا الناسُ: إِذَا تَذَكرَ المُؤْمِنُ النارَ تَنَغصَ عَيْشُهُ فِي الدُّنْيَا، وَهَانَتْ فِي نَفْسِهِ مَلَذاتُهَا، وَرَثَى طُلابُهَا، وَشَمرَ عَنْ سَوَاعِدِ الجِدِّ بِالإيمَانِ وَالعَمَلِ لِلنجَاةِ فِي الدارِ الآخِرَةِ.

 

وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى بِنَا أَنهُ أَنْذَرَنَا النارَ، وَوَصَفَهَا لَنَا، وَعَلمَنَا أَسْبَابَ النجَاةِ مِنْهَا: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظى * لاَ يَصْلَاهَا إِلا الْأَشْقَى * الذِي كَذبَ وَتَوَلى)[الليل: 14-16].

 

وَهذه النار قد خَافَهَا المَلائِكَةُ لِعِلْمِهِمْ بِهَا؛ فعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- عَنْ رَسُولِ اللهِ -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ- أَنهُ قَالَ لِجِبْرِيلَ -عَلَيْهِ السلاَمُ-: "مَا لِي لَمْ أَرَ مِيكَائِيلَ ضَاحِكًا قَطُّ؟!" قَالَ: مَا ضَحِكَ مِيكَائِيلُ مُنْذُ خُلِقَتِ النارُ (رواه أحمد وصَححَهُ الحَاكِمُ)، وكيف يضحك وهو يرى أوديتها والنار فيها تأكل بعضها، وقد انتشرت فيها العقارب والحيات؟! كيف يضحك وليس فيها سوى الصراخ والعويل؟! كيف تفتر شفتيه بابتسامة وهو يرى أصناف العذاب وألوانه أمام عينيه ولم يبق في النار مكان لغير الحزن والألم؟!

 

هذه هي النار التي حذرنا الله منها، وأرشدنا للابتعاد عما يؤدي إليها، وقد أَكْثَرَ القَوْلَ فِيهَا رَسُولُنَا -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وسلم-؛ نُصْحًا لَنَا، وَشَفَقَةً عَلَيْنَا، وَرَحْمَةً بِنَا؛ فعَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ-: "أَنْذَرْتُكُمُ النارَ، أَنْذَرْتُكُمُ النارَ"، حَتى لَوْ أن رَجُلًا كَانَ فِي أَقْصَى السُّوقِ سَمِعَهُ، وَسَمِعَ أَهْلُ السُّوقِ صَوْتَهُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ وَفِي رِوَايَةٍ: "حَتى وَقَعَتْ خَمِيصَةٌ كَانَتْ عَلَى عَاتِقِهِ عِنْدَ رِجْلَيْهِ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وَهَذَا الإِنْذَارُ الشدِيدُ إِنمَا هو لِشِدةِ عَذَابِهَا وَدَيْمُومَتِهَا؛ فَإِن مَنِ اسْتَوْجَبَ النارَ خَالِدًا فِيهَا لاَ يَخْرُجُ مِنْهَا، وَلاَ يَهْلِكُ فِيهَا، وَلَا يُخَففُ عَنْهُ عَذَابُهَا؛ فَعَذَابُهَا مُتَجَدِّدٌ مُنَوعٌ، يَزْدَادُ وَلاَ يَنْقُصُ، وَجُلُودُ المُعَذبِينَ فِيهَا كُلمَا نَضِجَتْ بُدِّلَتْ، وَالعِلْمُ بِالخُلُودِ فِي العَذَابِ أَشَدُّ مِنَ العَذَابِ؛ فَإِن المُعَذبَ إِذَا رَجَا خَلاصًا مِنْ عَذَابِهِ تَحَملَ العَذَابَ؛ لِمَا يَرْجُو مِنَ النجَاةِ، وَالنارُ لاَ يَحْتَمِلُ عَذَابَهَا أَحَدٌ؛ فكَيْفَ بِالخُلُودِ فِيهَا، أَجَارَنَا اللهُ تَعَالَى وَوَالِدِينَا وَآلَنَا وَالمُسْلِمِينَ مِنْهَا.

 

إِن عَذَابَ النارِ عَذَابٌ مُلازِمٌ لِلْمُخَلدِينَ فِيهَا؛ فلاَ يُفَارِقُونَ النارَ وَلاَ تُفَارِقُهُمْ؛ وَلِذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ عِبَادِ الرحْمَنِ: (رَبنَا اصْرِفْ عَنا عَذَابَ جَهَنمَ إِن عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا)[الفرقان: 65]؛ أَيْ: مُلِحًّا دَائِمًا، لَازِمًا غَيْرَ مُفَارِقٍ، مَنْ عُذِّبَ بِهِ مِنَ الْكُفارِ، وَمِنْهُ سُمِّي الْغَرِيمُ؛ لِطَلَبِهِ حَقهُ وَإِلْحَاحِهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَمُلَازَمَتِهِ إِياهُ، قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "كُلُّ غَرِيمٍ يُفَارِقُ غَرِيمَهُ إِلا جَهَنمَ". وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَقَدْ كَذبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا)[الفرقان: 77]؛ أَيْ: عَذَابًا يَلْزَمُكُمْ لُزُومَ الغَرِيمِ غَرِيمَهُ.

 

وَأَما خُرُوجُهُمْ مِنَ النارِ وَقَدِ اسْتَوْجَبُوا الخُلُودَ فِيهَا بِالكُفْرِ وَالنِّفَاقِ فَلاَ يَكُونُ أَبَدًا، بَلْ هُمْ خَالِدُونَ فِيهَا أَبَدًا، لاَ يَرْجُونَ عَنْهَا حِوَلاً، وقد أَخْبَرَ اللهُ تَعَالَى عَنْ إِقَامَتِهِمُ الدائِمَةِ فِي النارِ فِي مَوَاضِعَ مِنَ القُرْآنِ: (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النار وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[المائدة: 37]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (وَعَدَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفارَ نَارَ جَهَنمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[التوبة: 68]، وَلَما سَخِرَ قَوْمُ نُوحٍ مِنْهُ أَنْذَرَهُمُ العَذَابَ المُقِيمَ، فَقَالَ -عَلَيْهِ السلاَمُ-: (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[هود: 39]، وأُمِرَ نَبِيُّنَا مُحَمدٌ -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ- أَنْ يُنْذِرَ كُفارَ قُرَيْشٍ بِمَا أَنْذَرَ نُوحٌ -عَلَيْهِ السلاَمُ- قَوْمَهُ.

 

فَلاَ أَمَلَ لَهُمْ فِي الخُرُوجِ وَلاَ الاسْتِعْتَابِ كما قال الله: (فَالْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ)[الجاثية: 35]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)[الحج: 22].

 

قَالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَاللهِ مَا طَمِعُوا فِي الْخُرُوجِ، إِن الْأَرْجُلَ لَمُقَيدَةٌ، وَإِن الْأَيْدِيَ لَمُوثَقَةٌ، وَلَكِنْ يَرْفَعُهُمْ لَهَبُهَا، وَتَرُدُّهُمْ مَقَامِعُهَا".

 

وَالإِقَامَةُ الدائِمَةُ فِي العَذَابِ هِيَ أَعْظَمُ الخُسْرَانِ؛ لِأَنهُ لاَ نَجَاةَ بَعْدَهَا أَلْبَتةَ؛ فمَنْ يُورِدُ نَفْسَهُ وَأَهْلَهُ وَوَلَدَهُ هَذَا المَوْرِدَ المُهْلِكَ، (إِن الْخَاسِرِينَ الذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِن الظالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ)[الشورى: 45]، وَبِهَذَا نَعْلَمُ أَن أَكْثَرَ البَشَرِ خَاسِرُونَ، وَلَوْ رَأَيْنَا الدُّنْيَا تَتسِعُ لَهُمْ، وَالمَالَ يَتَدَفقُ عَلَيْهِمْ، وَهُمْ فِي أَحْسَنِ أَحْوَالِهِمْ، وَلاَ يَغْتَرُّ بِالدُّنْيَا إِلا مَغْرُورٌ.

 

أيها الناس: حِينَ أَيِسَ أَهْلُ النارِ مِنَ انْقِطَاعِ العَذَابِ أَوْ تَوَقُّفِهِ، وَحِينَ انْقَطَعَ أَمَلُهُمْ فِي الخُرُوجِ مِنَ النارِ رَجَوْا تَخْفِيفَ العَذَابِ؛ فهم لاَ يَطْمَعُونَ فِي انْتِهَاءِ العَذَابِ، وَلَكِنْ فِي تَخْفِيفِهِ، تَقَاصَرَتْ هِمتُهُمْ مِنْ شِدةِ عَذَابِهِمْ وَإِحْبَاطِهِمْ وَيَأْسِهِمْ، وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يُخَففَ عَنْهُمُ العَذَابُ بَعْدَ أَنِ اسْتَوْجَبُوهُ: (فَلَا يُخَففُ عَنْهُمُ العَذَاب وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ)[البقرة: 86]، (خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَففُ عَنْهُمُ العَذَاب وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ)[البقرة: 162].

 

ثُم تَقَاصَرَتْ هِمتُهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَأَملُوا فِي تَخْفِيفِ العَذَابِ يَوْمًا وَاحِدًا فَقَطْ، وَلَنْ يَنَالُوهُ، سَأَلُوا خَزَنَةَ جَهَنمَ دُعَاءَ اللهِ تَعَالَى بِذَلِكَ: (وَقَالَ الذِينَ فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنمَ ادْعُوا رَبكُمْ يُخَفِّفْ عَنا يَوْمًا مِنَ العَذَاب)[غافر:49]، فَيُجِيبُونَهُمْ بِمَا يَزِيدُهُمْ عَذَابًا وَيَأْسًا وَقُنُوطًا: (قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلَالٍ)[غافر:50].

 

وَحَقٌّ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَقِفَ عِنْدَ هَذِهِ الآيَةِ مَلِيًّا، فَيَنْظُرَ فِي طَلَبِ أَهْلِ النارِ وَبِمَ يُجَابُونَ، لَمْ يُعْطَوْا يَوْمًا وَاحِدًا مِنْ تَخْفِيفِ العَذَابِ، وَمَا يُغْنِي يَوْمٌ وَاحِدٌ فِي خُلُودٍ أَبَدِيٍّ فِي عَذَابٍ لاَ يَنْتَهِي وَلاَ يُخَففُ؟! وَلَكِنهَا النفْسُ المُعَذبَةُ تَأْمُلُ فِي أَيِّ تَخْفِيفٍ وَلَوْ كَانَ قَلِيلاً؛ فلِمَاذَا لاَ نَتعِظُ فَنُجَانِبُ أَسْبَابَ العَذَابِ، وَنَسْعَى فِي تَقْوِيَةِ الإِيمَانِ، بِالعَمَلِ وَالذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ؟! فَإِن النارَ أَمْرُهَا عَظِيمٌ، وَإِن عَذَابَهَا أَلِيمٌ شَدِيدٌ.

 

أيها المسلمون: في النار يَرَى أَهْلُها قُرَنَاءَهُمُ الذِينَ أَضَلُّوهُمْ فِي الدُّنْيَا يُعَذبُونَ مَعَهُمْ، وَلَمْ يَجْنُوا مِنَ اتِّبَاعِهِمْ لَهُمْ إِلا وَبَالاً عَلَى وَبَالِهِمْ، فَيَدْعُونَ عَلَيْهِمْ بِمُضَاعَفَةِ العَذَابِ؛ لِأَنهُمْ هُمُ السبَبُ فِيمَا هُمْ فِيهِ مِنَ الشقَاءِ، وَلَنْ يُغْنِيَ تَابِعٌ عَنْ مَتْبُوعٍ، وَلاَ مَتْبُوعٌ عَنْ تَابِعٍ شَيْئًا: (قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لاَ تَعْلَمُونَ)[الأعراف:38].

 

وَحَرَارَةُ النارِ تَرْتَفِعُ وَلاَ تَنْزِلُ، وَعَذَابُ أَهْلِهَا يَزْدَادُ وَلاَ يَنْقُصُ، وَأَجْسَادُ المُعَذبِينَ لاَ تَأْلَفُ العَذَابَ مَعَ طُولِ الأَمَدِ، بَلْ يَتَجَددُ العَذَابُ لِيَزْدَادَ الأَلَمُ: (الذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَاب بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)[النحل: 88]، (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلا عَذَابًا)[النبأ: 30]، (مَأْوَاهُمْ جَهَنمُ كُلمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا)[الإسراء: 97].

 

عَنِ ابْنِ عَباسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَن الْكَفَرَةَ وَقُودٌ لِلنارِ، فَإِذَا أَحْرَقَتْهُمُ النارُ زَالَ اللهَبُ الذِي كَانَ مُتَصَاعِدًا مِنْ أَجْسَامِهِمْ؛ فلَا يَلْبَثُونَ أَنْ يُعَادُوا كَمَا كَانُوا فَيَعُودَ الِالْتِهَابُ لَهُمْ؛ فالْخَبْوُ وَازْدِيَادُ الِاشْتِعَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَجْسَادِهِمْ لاَ فِي أَصْلِ نَارِ جَهَنمَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا المَعْنَى قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (إِن الذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَاب)[النساء: 56].

 

اللهُم إِنا نَعُوذُ بِكَ مِنَ النارِ وَمَا قَربَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، اللهُم أَجِرْنَا وَوَالِدِينَا وَأَهْلَنَا وَأَحْبَابَنَا مِنَ النارِ.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

 

أيها المسلمون: إن مِنْ عَدْلِ اللهِ تَعَالَى فِي حُكْمِهِ أَنهُ سُبْحَانَهُ لاَ يُحَابِي أَحَدًا فِي نِعِيمِهِ وَعَذَابِهِ، وليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، بَلْ يَجِدُ كُلُّ عَبَدٍ ثَمَرَةَ سَعْيِهِ، وَيُجْزَى بِعَمَلِهِ، وَلَما قَالَتِ اليَهُودُ: (لَنْ تَمَسنَا النار إِلا أَيامًا مَعْدُودَةً)، كَانَ جَوَابُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ: (قُلْ أَتخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة: 80-81].

 

عباد الله: إِن المَوْتَ هُوَ أَكْثَرُ شَيْءٍ يَفِرُّ مِنْهُ الناسُ فِي الدُّنْيَا، وَلَكِن أَهْلَ النارِ يَتَمَنوْنَه، ويدعون الله أن يميتهم؛ وذلك مِنْ شِدةِ العَذَابِ، وَيَا لَهُ مِنْ عَذَابٍ حِينَ يَكُونُ المَوْتُ أُمْنِيَةَ المُعَذبِينَ! لكنهم مع ذلك لاَ يُجَابُونَ، وَلَا يَتَحَققُ لَهُمْ مَا يَتَمَنوْنَ: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنكُمْ مَاكِثُونَ)[الزخرف: 77]، (وَالذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَففُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُل كَفُورٍ)[فاطر: 36].

ومع أن آلاَمُ المَوْتِ تُصِيبُهُمْ فِي النارِ، إلا أنهم لاَ يَمُوتُونَ، وَلاَ تُفَارِقُ أَرْوَاحُهُمْ أَجْسَادَهُمْ، فَحَصَّلُوا عَذَابَ المَوْتِ وَلَمْ يُحَصِّلُوا الَمَوْتَ: فالواحد منهم قال الله عنه: (وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانَ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ)[إبراهيم: 17].

وَالمَعْنَى: أَنهُ يَأْتِيهِ مِثْلُ شِدةِ المَوْتِ وَأَلَمِهِ مِنْ كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ بَدَنِهِ، حَتى شَعْرُهُ وَظُفْرُهُ، وَهُوَ مَعَ هَذَا لاَ تَخْرُجُ نَفْسُهُ فَيَسْتَرِيحُ، وَكَيْفَ يَمُوتُ وَهُوَ مَوْعُودٌ بِالخُلُود فِي العَذَابِ؟! (إِنهُ مَنْ يَأْتِ رَبهُ مُجْرِمًا فَإِن لَهُ جَهَنمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى)[طه: 74]، وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (الَّذِيْ يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى* ثُم لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى)[الأعلى: 12-13].

 

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلمَ-: "إِذَا صَارَ أَهْلُ الجَنةِ إِلَى الجَنةِ، وَأَهْلُ النارِ إِلَى النارِ، جِيءَ بِالْمَوْتِ حَتى يُجْعَلَ بَيْنَ الجَنةِ وَالنارِ، ثُم يُذْبَحُ، ثُم يُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الجَنةِ: لاَ مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النارِ: لاَ مَوْتَ، فَيَزْدَادُ أَهْلُ الجَنةِ فَرَحًا إِلَى فَرَحِهِمْ، وَيَزْدَادُ أَهْلُ النارِ حُزْنًا إِلَى حُزْنِهِمْ"(متفق عليه).

 

فَاحْذَرُوا النارَ وَحَذِّرُوا مِنْهَا، احْذَرُوا أَسْبَابَهَا، وَاعْمَلُوا بِمَا يُنَجِّي مِنْهَا؛ فإِن الجَاهَ يَزُولُ، وَإِن المَالَ يَبُورُ، وَإِن مُتَعَ الدُّنْيَا وَمَلَذاتِهَا لاَ تَبْقَى، وَلاَ يَبْقَى لَنَا إِلا مَا أَوْدَعْنَا فِي صَحَائِفِنَا؛ فلْنُودِعْ فِيهَا مَا يَسُرُّنَا أَنْ نَجِدَهُ أَمَامَنَا، وَلْنَحْذَرْ مِنْ تَسْوِيدِهَا بِمَا يُوبِقُنَا وَيُهْلِكُنَا، (إِن الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَترُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ * وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظالِمِينَ)[الزخرف:74-76].

 

اللهم أجرنا من النار وعذابها، واجعلنا من أهل رضاك وجنتك، وحرم أجسادنا على النار ووالدينا أهلنا ومن نحب يا كريم يا منان.

 

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه...

 

 

المصدر: نار الآخرة (5) أبدية العذاب وشدته؛ للشيخ د. إبراهيم بن محمد الحقيل

 

المرفقات

أبدية عذاب النار وحال أهلها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات