العشر الأواخر من رمضان

سليمان الحربي

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ شهر رمضان أيام معدودات 2/الحث على اغتنام أوقات رمضان الغالية 3/ أبواب القربات في العشر الأواخر 4/شتان بين أحوال الصالحين والمحرومين.

اقتباس

أَيَقَرُّ لعينٍ لاهيةٍ في سُبَاتها والناس عند باب ربها واقفة في ليل طويل تنتظر رحمة ومغفرة من إلهها، فكيف بمن يعاقر المعاصي والآثام أو يؤذي عباد الله في أموالهم وأعراضهم في الأسواق والجوالات وأجهزة الأنترنت؟! يا ويله من غضب الله!..

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فتقوى الله أكرم ما أسررتم، وأجمل ما أظهرتم، وأفضل ما ادخرتم؛ أعاننا الله على لزومها، وأوجب لنا ثوابها.

 

معشر الصائمين: هذه أيام شهركم تتقلص، ولياليه الشريفة تتقضَّى، تتقلص وتتقضى شاهدة بما عملتم، وحافظة لما أودعتم، هي لأعمالكم خزائن محصنة، ومستودعات محفوظة، كما قال الله: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ)[آل عمران:30]، ينادي ربكم -كما جاء في الحديث القدسي في صحيح مسلم-: "يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه".

 

هذا هو شهركم، وهذه هي نهاياته، كم من مستقبل له لم يستكمله! وكم من مؤمل بعود إليه لم يدركه! هلا تأملتم الأجل ومسيره، وهلا تبينتم خداع الأمل وغروره.

 

أيها الإخوة: إن كان في النفوس زاجر، وإن كان في القلوب واعظ، فقد بقيت من أيامه بقيةٌ؛ بقية وأيّ بقية؟!، إنها بعض عشره الأخيرة؛ بقية كان يحتفي بها نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم- أيما احتفاء. في العشرين قبلها كان يخلطها بصلاة ونوم، فإذا دخلت العشر شَمَّر وجدَّ وشدَّ المئزر، وهجر فراشه، وأيقظ أهله، يطرق الباب على فاطمة وعلي -رضي الله عنهما- في السحر كما في الصحيحين قائلاً: "ألا تقومان فتصليان"، ويتجه -صلى الله عليه وسلم- إلى حجرات نسائه في السحر كما في صحيح البخاري آمرًا، وهو يقول: "أيقظوا صواحب الحُجَر؛ فربَّ كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة"، وقالت أُمّنا عائشة -رضي الله عنها-: "لم يكن النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا بقي من رمضان عشرة أيام يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه".

 

أيها المسلمون: اعرفوا شرف زمانكم، واقدروا فَضْل أوقاتكم، وقدِّموا لأنفسكم، لا تضيِّعوا فرصة في غير قُرْبَة. إحسان الظن ليس بالتمني، ولكن إحسان الظن بحسن العمل، والرجاء في رحمة الله مع العصيان ضرب من الحمق والخذلان، والخوف ليس بالبكاء ومسح الدموع ولكن الخوف بترك ما يخاف منه العقوبة.

 

أيها الأحبة: قدِّموا لأنفسكم وجِدُّوا وتضرَّعُوا. تقول عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- كما عند أحمد وغيره: "يا رسول الله! أرأيت إن علمت ليلة القدر ماذا أقول فيها؟ قال قولي: "اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".

 

نعم أيها الإخوة: الدعاء الدعاء. عُجُّوا في عشركم هذه بالدعاء؛ فقد قال ربكم -عز شأنه-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة:168]، إن للدعاء -أيها الإخوة- شأنًا عجيبًا، وأثرًا عظيمًا في حسن العاقبة، وصلاح الحال والمآل والتوفيق في الأعمال والبركة في الأرزاق.

 

أرأيتم هذا الموفق الذي أدركه حظه من الدعاء، ونال نصيبه من التضرع والالتجاء يلجأ إلى الله في كل حالاته، ويفزع إليه في جميع حاجاته، يدعو ويُدْعَى له، نال حظه من الدعاء بنفسه وبغيره، والداه الشغوفان، وأبناؤه البررة، والناس من حوله كلهم يحيطونه بدعواتهم، أحبه مولاه فوضع له القبول، فحسن منه الخُلُق وزان منه العمل، فامتدت له الأيدي وارتفعت له الألسن تدعو له وتحوطه، ملحوظ من الله بالعناية والتسديد، وبإصلاح الشأن مع التوفيق.

 

أين هذا من محروم مخذول! لم يذق حلاوة المناجاة، يستنكف عن عبادة ربه، ويستكبر عن دعاء مولاه. محروم سدَّ على نفسه باب الرحمة، واكتسى بحُجُب الغفلة.

 

أيها الإخوة: إن نزع حلاوة المناجاة من القلب أشد ألوان العقوبات والحرمان. ألم يستعذ النبي من قلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع؟ إن أهل الدعاء الموفَّقين حين يعُجُّون إلى ربهم بالدعاء، يعلمون أن جميع الأبواب قد تُوصَد في وجوههم إلا بابًا واحدًا هو باب السماء. باب مفتوح لا يُغلَق أبدًا، فَتحه مَن لا يرد داعيًا ولا يُخيِّب راجيًا. فهو غياث المستغيثين، وناصر المستنصرين، ومجيب الداعين.

 

أيها المجتهدون: يجتمع في هذه الأيام أوقات فاضلة وأحوال شريفة. العشر الأخيرة، جوف الليل من رمضان، والأسحار من رمضان، دُبُر الأذان والمكتوبات، أحوال السجود، وتلاوة القرآن، مجامع المسلمين في مجالس الخير والذكر، كلها تجتمع في أيامكم هذه. فأين المتنافسون؟!.

 

ألظوا بالدعاء -رحمكم الله- سلوا ولا تعجزوا، ولا تستبطئوا الإجابة. فيعقوب -عليه السلام- فقد ولده الأول، ثم فقد الثاني في مُدَد متطاولة، ما زاده ذلك بربه إلا تعلقًا: (عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف:83]، ونبي الله زكريا -عليه السلام-؛ كَبُرَ سِنّه، واشتعل بالشيب في رأسه، ولم يزل عظيم الرجاء في ربه حتى قال محققًا: (وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبّ شَقِيًّا)[مريم:4].

 

لا تستبطئ الإجابة -يا عبد الله- فربك يحب تضرعك، ويحب صبرك، ويحب رضاك بأقداره، رضا بلا قنوط، يبتليك بالتأخير لتدفع وسواس الشيطان، وتصرف هاجس النفس الأمارة بالسوء، وقد قال نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-: "يستجاب لأحدكم مالم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي"، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الدخان:1-6].

 

بارك الله لي ولك في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه والشكر على توفيقه وامتنانه، وأشهد ألا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأعوانه، أما بعد:

 

معشر الإخوة: أَيَقَرُّ لعينٍ لاهيةٍ في سُبَاتها والناس عند باب ربها واقفة في ليل طويل تنتظر رحمة ومغفرة من إلهها، فكيف بمن يعاقر المعاصي والآثام أو يؤذي عباد الله في أموالهم وأعراضهم في الأسواق والجوالات وأجهزة الأنترنت؟! يا ويله من غضب الله!

 

معشر الإخوة: أمامكم في عشركم ليلة القدر هي خير من ألف شهر؛ قال الله -تعالى-: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)[القدر:2-5]؛ فأخبر الله من فضائلها أنها خير من ألف شهر، أي أفضل من عبادة ألف شهر، تأملوا العدد -عباد الله-؛ خير من عبادة ألف شهر ليس فيه ليلة القدر؛ كما رجحه ابن جرير وابن كثير، فمن قامها فقد حصل له ثواب أعظم من ثواب مَن تعبَّد أكثر من ثمانين سنة ليس فيها ليلة القدر.

 

ولهذا قال السعدي -رحمه الله- عند قوله –تعالى-: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) أي: تعادل من فضلها ألف شهر، فالعمل الذي يقع فيها، خير من العمل في ألف شهر خالية منها، وهذا مما تتحير فيه  الألباب، وتندهش له العقول؛ حيث مَنَّ -تبارك وتعالى- على هذه الأمة الضعيفة القوة والقوى، بليلة يكون العمل فيها يقابل ويزيد على ألف شهر، عمر رجل معمر عمرًا طويلا نيفًا وثمانين سنة.

 

ينزل فيها الروح جبريل -عليه السلام-، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن؛ ففي هذه الليلة من البركات ما لا يخطر على بال، أو ليس من بركتها أنه نزل فيها القرآن؟! ففي هذه الليلة تنزل الرحمة والمغفرة والعتق من النار وتقسم تقدر في ليلة القدر الأرزاق والآجال لعام كامل؛ فهي ليلة القدر من الشرف والتقدير فاستقبلها بطاعة الرحمن.

 

واعلموا -أيها الصائمون- أن سُنَّة الاعتكاف شعيرة عظيمة هي من أفضل الأعمال في العشر الأخيرة، ويشرع لمن نوى اعتكاف هذه العشر أن يدخل معتكفه قبل غروب شمس يوم العشرين كما هي سنة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وأما أقل مدة للاعتكاف فقد اختلف أهل العلم في ذلك؛ فقيل يوم وليلة، وقيل يوم أو ليلة، وقيل يكفي ساعة أن يمكث الإنسان ساعة في المسجد بنية الاعتكاف، قال الإمام النووي: "الصحيح المشهور من مذهبنا أنه يصح كثيره وقليله، ولو لحظة، وهو مذهب داود والمشهور عن أحمد ورواية عن أبي حنيفة".

 

فاجتهدوا في كثرة المكوث في المساجد، والله سمَّى الماكث المتردد عليه معتكفًا فقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ)[الحج:25]؛ فسمَّى المقيم معتكفًا؛ لأنه يتردد عليه، فلا تزهدوا في هذا.

 

ويحرم على الإنسان أن يعتكف إذا ترتب على اعتكافه أمر محرم؛ من تضييع لأولاده أو أهله أو من يمونه، وكذلك لا يجوز الاعتكاف إذا كان والداه يحتاجانه ولم يأذنا له.

 

وختامًا -أيها الإخوة- تذكروا أننا في أيام شريفة، ونحن في آخرها؛ فورب السماء والأرض إن من يتكاسل عن الخير والواجبات ويقع في المعاصي والآثام ولم يقدر هذه الأيام حق قدرها إنه لمحروم غاية الحرمان..

 

وصلوا وسلموا..

 

المرفقات

العشر الأواخر من رمضان

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات