التبرك

خالد بن محمد بابطين

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/تعريف التبرك 2/حكم التبرك بذوات الأشخاص 3/من الأخطاء الواقعة في التبرك 4/كيفية التبرك بالأماكن المقدسة والمباركة 5/الأزمنة والأطعمة المباركة

اقتباس

لقد انصرف كثير من الناس إلى التبرك الممنوع، وتركوا أبوابًا من التبرك المشروع، والتي منها التبرك بذكر الله تعالى؛ كالتسمية في ابتداء الأقوال والأفعال والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غير ذلك من أنواع الذكر الأخرى...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

أيها الإخوة: إن من القواعد المقررة في الشريعة، والتي ينبغي للمسلم معرفتها: أن أي قربة أو عبادة لا تقبل إلا بشرطين أساسين:

 

أولهما: الإخلاص لله -تعالى-. والثاني: المتابعة للنبي-صلى الله عليه وسلم. يقول الله -تبارك وتعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110].

 

وثمة قاعدة أخرى، وهي: أن العبادات الأصل فيها المنع، حتى تثبت مشروعيتها بالدليل الصحيح؛ فعن عائشة -رضي الله عنها-:  قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو ردٌّ"(رواه البخاري ومسلم).

 

إذا تقررت هاتان القاعدتان واتضحتا، فنقول: إن من المسائل التي أخطأ فيها كثير من الناس مسألةَ التبرك بالأشخاص، أو الجمادات، أو الأمكنة، أو الأزمنة. وقد ترتب على ذلك بدع ومحدثات ما أنزل الله بها من سلطان.

 

أيها الإخوة: التبرك هو طلب البركة، والبركة: كثرة الخير، وزيادته، واستمراره، وإذا كان كل مسلم حريصًا على طلب البركة في ماله وعمره ووقته وولده، فنبغي أن يُعلم أن التبرك عبادة توقيفية فلا يتبرك المسلم إلا بالأمور المشروعة، ومن هنا يُعلم أن التبرك بذوات الأشخاص لا يجوز إلا بما ورد في الشرع الإذن فيه! والمأذون فيه شرعًا في هذا الباب هو: التبرك بالنبي -صلى الله عليه وسلم- في حياته، وقد ثبتت بذلك الروايات الكثيرة أن الصحابة تبركوا بشعره وببصاقه، وسؤره ووَضوئه وعرقه، وما استعمله من آنية أو ملابس؛ لما جعل الله فيه من البركة مما يُستشفى به، ويرجى بسببه الفائدة في الدنيا والآخرة، وهذا النوع من التبرك قد انتهى، حيث مرت سنوات وقرون، فأصبح من المستحيل إثبات وجود شيء منها على وجه القطع واليقين.

 

مع الاعتقاد في ذلك كله أن واهِب هذا الخير ومعطيه، هو رب السماوات والأرض، وأن هذا لا ينفع إلا المؤمنين بالله المتبعين لرسوله صلى الله عليه وسلم.

 

وثمة أمر مهم متعلق بما سبق، فقد يقال: هل يُقاس غيره من الصالحين عليه في التبرك بذاته أو آثاره؟

 

قال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "التبرك بآثار الصالحين غير جائز، وإنما يجوز ذلك بالنبي- صلى الله عليه وسلم- خاصة لما جعل الله في جسده وما مسه من البركة.

 

وأما غيره فلا يقاس عليه لوجهين:

 

1- لأن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يفعلوا ذلك مع غير النبي -صلى الله عليه وسلم-.

2- لسد ذريعة الشرك؛ لأن جواز التبرك بآثار الصالحين يفضي إلى الغلو فيهم" ا. هـ.

 

لكن يجوز التبرك بالصالحين بمجالستهم حيث تحصل فيه أنواع من البركة؛ كالانتفاع بعلمهم، والاستماع إلى وعظهم ونصحهم، والانتفاع بدعائهم، وتحصيل فضل مجالس الذكر لمن جالسهم، وإن لم يكن منهم.

 

أما التبرك بالأماكن التي مشى فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- أو جلس فيها أو أمسكها بيده، أو صلى فيها اتفاقًا، أو تحنث فيها قبل البعثة فلم يثبت مشروعية التبرك بها، أو الصلاة فيها قصدًا أو زيارتها، لا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا في عهد خلفائه الراشدين، وبعد نزول الوحي على النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يصعد إلى غار حراء ولم يذهب لغار ثور، ولم يطلب من أصحابه فعل ذلك.

 

ولم يفعل ذلك الصحابة في عهد الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-، بل لقد قطع عمر بن الخطاب الشجرة التي في الحديبية التي تمت البيعة تحتها حينما رأى الناس يتبركون بها، ونهى الناس عن تحرِّي الصلاة في مكان صلى به النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو عائد إلى المدينة.

 

أيها الإخوة: ومن الأخطاء الواقعة في هذا الباب: التبرك بقبر النبي -صلى الله عليه وسلم-، وشد الرحال إليه، وكم تحصل من أمور منكرة؛ كمن يطلب الدعاء، أو الشفاعة منه، أو يؤدي بعض العبادات عند قبره؛ كالدعاء وقراءة القرآن، أو يتمسح بالقبر أو يقبّله، أو يتعمد استقباله في الصلاة، ونحو ذلك.

 

وفي النهي عن هذه الأمور وما شابهها وردت أحاديث كثيرة؛ منها:

 

عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تجعلوا قبري عيدًا ".

 

وعن عطاء بن يسار -رضي الله عنه-: أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اللهم لا تجعل قبري وثنًا يُعبد".

 

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في مرضه الذي لم يقم منه: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد".

 

ومن التبرك الممنوع: التبرك بليلة مولد الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث يعتقد فيها طائفة من الناس البركة، ومثل هذا أيضًا ما يحصل من أهل البدع وأرباب الطرق الصوفية من التبرك بليلة الإسراء والمعراج، وذكرى الهجرة وغير ذلك، وكل ذلك من التبرك الممنوع ولا شك.

 

أيها الإخوة: لقد انصرف كثير من الناس إلى التبرك الممنوع، وتركوا أبوابًا من التبرك المشروع، والتي منها التبرك بذكر الله -تعالى-؛ كالتسمية في ابتداء الأقوال والأفعال والصلاة على النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى غير ذلك من أنواع الذكر الأخرى المقيدة والمطلقة المبثوثة في كتب السنة والصحاح، وهي من أعظم ما ترجى بركته، ويحظى قائلها بغفران الذنوب، ودخول الجنة، وتفريج الكربات، وكثرة الرزق والذرية، والشفاء من الأسقام والأمراض، إلى غير ذلك من البركات لمن وُفق للقيام بذكر الله على الوجه الشرعي الثابت.

 

نسأل الله -تعالى- أن يوفقنا للطاعة والاتباع، ويجنبنا المعصية والابتداع.

 

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

 

أيها الإخوة: إن التبرك بالأماكن التي ثبتت بركتها بالقرآن والسنة لا يكون إلا بالكيفية الثابتة الصحيحة، فثمة أماكن مباركة؛ كالمسجد الحرام، والمسجد النبوي والمسجد الأقصى، ثم سائر المساجد المبنية بما يوافق الشرع.

 

ولا يكون التبرك بها إلا بما هو مشروع وثابت، فيكون بالصلاة فيها والطواف بالكعبة، وحضور مجالس الذكر فيها، وحفظ القرآن ومدارسته، وطلب العلم الشرعي، وليس بالتمسح بالأحجار، أو التراب، أو تقبيل الشبابيك والأبواب.

 

والتبرك بالكعبة يكون بالطواف حولها، والاتجاه إليها في الصلاة والدعاء، وليس بالتمسح بثوبها، أو بشيء منها.

 

ولا يستلم غير الركنين اليمانيين؛ كما ثبت في السنة الصحيحة.

 

ومن البقاع المباركة: مكة والمدينة والشام، وتحصل البركة لمن سكنها إذا قام بحقوقها ورعاية حدود الله وشرعه في تعامله مع ساكنيها.

 

أما من تعدى وطلب التبرك بها كأن يتمسح بترابها، وأحجارها وأشجارها، فإنه مأزور غير مأجور؛ لأنه سلك في التبرك مسلكًا لم يفعله النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا الخلفاء الراشدون ولا الصحابة -رضي الله عنهم-.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "ليس في شريعة الإسلام بقعة تُقصَد لعبادة الله فيها بالصلاة والدعاء والذكر والقراءة، ونحو ذلك إلا مساجد المسلمين ومشاعر الحج".

 

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "ليس على وجه الأرض موضع يُشرع تقبيله واستلامه، وتُحط الخطايا والأوزار فيه؛ غير الحجر الأسود والركن اليماني".

 

وقال الشيخ عبد العزيز بن باز -رحمه الله-: "التمسح بالمقام أو بجدران الكعبة، أو بالكسوة كل هذا أمر لا يجوز ولا أصل له في الشريعة ولم يفعله النبي-صلى الله عليه وسلم-، وإنما قبَّل الحجر الأسود واستلمه واستلم جدران الكعبة من الداخل لما دخل الكعبة وألصق صدره وذراعيه وخده في جدارها، وكبر في نواحيها ودعا. أما في الخارج فلم يفعل شيئًا من ذلك فيما ثبت عنه...".

 

أيها الإخوة: وثمة أزمنة مباركة خصها الله -تعالى- بزيادة فضل وبركة؛ فمن تحرى الخير فيها، وقام بما شرع له فيها؛ من عبادة ناله الخير والبركات العظيمة، ومنها: شهر رمضان، وليلة القدر، والثلث الأخير من الليل، ويوم الجمعة، ويوما الاثنين والخميس، والأشهر الحرم، وعشر ذي الحجة، ويوم عرفة، ووقت البكور.

 

أيها الإخوة: هناك أشياء قريبة منا وضع الله فيها بركة، من الطعام والشراب، ومن ذلك:

 

- زيت الزيتون: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة".

 

ومنها: اللبن: فإنه طعام وشراب مبارك؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أطعمه الله طعامًا فليقل: اللهم بارك لنا فيه وارزقنا خيرًا منه، ومن سقاه الله لبنًا، فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه، فإني لا أعلم ما يجزئ من الطعام والشراب إلا اللبن".

 

- وكذلك: تمرة عجوة المدينة؛ فقد صح في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من تصبَّح بسبع تمرات عجوة لم يضرّه ذلك اليوم سم ولا سحر".

 

- وكذلك: العسل شراب فيه شفاء للناس، وماء زمزم ماء مبارك؛ طعام طعم، وشفاء سقم، وهو لما شُرب له، وفي الحديث: "خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم".

 

ومنها ماء المطر فهو مبارك، قال الله -تعالى-: (وَنَزَّلْنَا مِنْ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا)[ق: 9]. وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة يتعرضون بأجسامهم وثيابهم وآنيتهم للمطر؛ لأنه ماء مبارك حديث عهد بربه.

 

أيها الإخوة: وحتى يحصل المسلم على البركة من هذه المشروبات والمأكولات عليه التقيد بما ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن صحابته قولا وعملاً، وأن يكون معتقدًا أن كل ذلك بفضل الله ورحمته، فيحمده تعالى على ما أنعم به عليه، ويسأله أن يبارك فيه.

 

نسأل الله أن يبارك لنا في أعمارنا وأعمالنا وأموالنا وأهلينا، وأن يجعلنا من المتبعين لشرعه، المهتدين بهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم-، ونعوذ بالله من سلوك طرق الغواية والضلالة.

 

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..

 

المرفقات

التبرك المشروع والتبرك الممنوع

التبرك

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات