القلوب وأسباب صلاحها واستقامتها

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/اعتناء الإسلام بالقلب 2/أقسام القلوب وأنواعها 3/صفات وعلامات القلب الصالح 4/وسائل صلاح القلوب

اقتباس

ومما يعين على لين القلب ورقته وانقياده للخير تذكُّر الموت، وشهود الجنائز، وزيارة المقابر، يقول صلى الله عليه وسلم: "أكثِرُوا من ذكر هاذم اللّذّات"، يعني الموت، وجَعَلَ اتباع الجنازة من حق المسلم على المسلم؛ ففيها يلين قلبه، ويزهد...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله: إن الإسلام أوْلَى القلب عنايةً عظيمةً، فطهَّرَهُ من الآفات والأمراض بالبر والتقوى، أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب؛ لتطهير القلوب وتزكيتها؛ فبالقلب يعرف العبد ربه، وبالقلب يعبد ربه ويعرف أمره ونهيه، وبالقلب السليم يحب الله ويرجوه ويخافه، وبالعقل السليم ينجو من هول يوم القيامة، (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ* إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)[الشعراء:88-89].

 

والقلب موضع نظر الله من العبد، في الحديث: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، والقلب ملِك الجوارح، فباستقامته تستقيم الإيمان، وتزكوا الأعمال، وتسدد الأقوال، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "ألا وإن في الجسد مضغةً إذا صلحت صلح لها الجسد كله، وإذا فسدت فسد لها الجسد كله ألا وهي القلب".

 

عباد الله: ينبغي لكل مسلم أن يهتم بإصلاح قلبه، والعناية بنفسه حتى يقدم على الله -تبارك وتعالى- يوم يقدم عليه بقلب سليم، عامر بالخير والمحبة والطاعة والإنابة والإقبال على الله -تبارك وتعالى-، لاسيما ونحن نعيش زمانًا فيه الفتن كثيرة، والمحن عديدة، والصوارف عن طاعة الله -تبارك وتعالى- متعددة، جاء في صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- من حديث حذيفة بن اليمان أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تُعرض الفتن على القلوب عرض الحصير عودًا عودًا؛ فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكته بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين، قلب أبيض مثل الصفا، لا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، ويصير الآخر مربادًا، كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا إلا ما أشرب من هواه".

 

فقسّم -صلوات الله وسلامه عليه- في هذا الحديث قلوب الناس عند عرض الفتن عليها إلى قسمين: قلب إذا عُرضت عليه فتنة أشربها القلب كما يشرب الإسفنج الماء، فتنكت فيه عندئذ نكتة سوداء، فلا يزال يشرب كل فتنة تعرض عليه حتى يسود وينتكس والعياذ بالله، وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: "كالكوز مجخيًا" أي مكبوبًا منكوسًا، فإذا اسود وانتكس عرض له بسبب ذلك آفتين عظيمتين ومرضين خطيرين، أحدهما اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يبلغ به الحال فيعتقد المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، والسنة بدعة والبدعة سنة، والحق باطلاً والباطل حقًّا.

 

والمرض الثاني: تحكيمه هواه على ما جاءت به سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيكون دائمًا متبعًا لهواه، معرضًا عن هدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وصراطه المستقيم، هذا قسم.

 

والقسم الثاني: قلب أبيض، وأسأل الله -جلّ وعلا- أن نكون وإياكم جميعًا كذلك، والقسم الثاني: قلب أبيض، قد أشرق فيه نور الإيمان، وأزهر فيه مصباحه، فإذا عرضت عليه الفتنة أنكرها وردّها، فازداد نوره وإشراقه، وقوي إيمانه وثقته بالله، ويكون -بإذن الله- في حفظ وسلامة وأمان وعافية.

 

أيها المسلم: إن القلب الصالح هو القلب الخاشع الوجِل الليِّن لذكر الله، الرحيم بعباد الله، الموعود الأجر والثواب العظيم، يقول الله -جل وعلا-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانَاً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ)[الأنفال:2-4].

 

وذو القلب اللين الرقيق في عباد الله ممن وعدوا بجنة الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسِط متصدِّق موفق، ورجل حليم رقيق القلب على كُلِّ قريبٍ ومسلمٍ، ورجل عفيف متعفِّف ذو عيال".

 

أيها المسلم: إن لِأسباب رقة القلب ولينه وبُعد القسوة والشقاء عنه أسباباً عديدة، فمنها الإيمان، فالإيمان الراسخ إذا تمكن في القلب ووجد العبد حلاوة الإيمان رقَّ قلبه ولان للخير، وكلما قوي إيمان العبد بحقيقة أسماء الله -جل وعلا- وصفاته كلما استقامت حاله، وصلُحت سريرته، وكان دائماً يقبل أوامر الله بالسمع والاستجابة لها، والنواهي بالبعد والترك عنها، فدائماً يقولون: (سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)[البقرة:285].

 

أخي المسلم: تلاوةُ القرآن وتدبُّر معانيه، وتأمُّل ما فيه من أوامرَ ونَوَاهٍ، وما فيه من وعد ووعيد، وترغيب وترهيب، كل هذه تلِّين قلب العبد، وتُذهب عنه قسوته وشقاوته، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)[النساء:82]، (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا)[محمد:24]، فالمعاصي والسيئات تحول بين العبد وبين تدبر القرآن، (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[ص:29].

 

ومما يعين على لين القلب ورقته وانقياده للخير: تذكُّر الموت، وشهود الجنائز، وزيارة المقابر، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "أكثِرُوا من ذكر هاذم اللّذّات"، يعني الموت، وجَعَلَ اتباع الجنازة من حق المسلم على المسلم، ففيها يلين قلبه، ويزهد بالدنيا، ويتفكر في هذا المكان الذي سيسكنه كما سكنه مَن قبله فيزداد رقةً في قلبه وإقبالاً على الله، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الموت"، وفي لفظٍ، "فإنها تذكر الآخرة".

 

ومما يعين على لين القلب وطمأنينته: تذكر الآخرة وأهوالها، والجنة ونعيمها، والنار وأهوالها، فكلما تذكر المسلم ذلك الوعد والوعيد وأهوال يوم القيامة وما يكون فيه من الكربات والشدائد، كلما قوي الإيمان، ورقَّ القلب، وانقاد للخير.

 

أيها المسلم: ومما يزيد قوَّة الإيمان في قلبك ورقّته ولينه الإكثارُ من ذكر الله، فإن ذكر الله عبادةً لله وطاعةً لله يُقوِّي الإيمان، فكلما أكثر العبد من طاعة الله كلما قوي إيمانه، (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)[الرعد:28]، وقال -جل وعلا- مبيناً عظيم الذكر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً)[الأحزاب:41].

 

فالله إليه منقلب العبد، وذكر الله يجعله متعلقاً بالله فيذكر الله في كل أحواله، (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[آل عمران:190-191]، ونبينا -صلى الله عليه وسلم- كان يذكر الله على كل حينه، ويُعد له في المجلس الواحد: رَبّ اغفِرْ لي وتُبْ عليَّ، أكثر من مائة مرة، فإن ذكر الله حياة القلوب، وطمأنينة القلوب وسكينتها.

 

ومن أسباب رقة القلب: تذكر حال المكذبين قديماً وحديثاً، وأن الله يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، (وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ)[إبراهيم:42]، يقول الله،( فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ * أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ)[الحج:45-46].

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

 

أيها المسلمون: ومن أسباب لين القلب: كثرة دعاء الله، والتضرع بين يديه ليحفظ قلبه من الانحراف عن طريق الهدى؛ ولذا ذكَر الله في دعاء المؤمنين: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[آل عمران:8]، وكان -صلى الله عليه وسلم- يكثر أن يقول: "اللهم مقلب القلوب ثبِّتْ قلبي على دينك"، تسأله عائشة عن ذلك، فيقول: "إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا أراد أن يقلب قلب عبدٍ قَلَبَه"، إذا أراد أن يقلب قلب عبدٍ قَلَبَه! وكم من أهل عقول حُرموا التوفيق فلم تنفعهم عقولهم! (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمْ الْغَافِلُونَ)[الأعراف:179]، وكان -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اللهم مصرِّف القلوب اصرف قلبي لطاعتك".

 

أيها المسلم: ومن أسباب لين القلب وذُلِّه لله: رحمة المسكين، واليتيم، والضعيف، أتى رجلٌ للنبي -صلى الله عليه وسلم- يشكو قسوة قلبه، فقال: "أطْعِم المسكين، وامسح رأس اليتيم، فإن في ذلك خيراً كثيراً"، فإن رحمتك للمسكين، ومسح رأس اليتيم، وتسليته، مما يلين قلبك، ويجعلك موفقاً للخير.

 

ومن أعظم أسباب استقامة القلب ولينه: تخلصك من أدران الكبر والحسد والحقد والبغضاء والكبر والخيلاء والتعالي على العباد والتكبر عليهم بأي أمر كان، سواء تكبرت عليهم بكونك ذا علمٍ، أو ذا مالٍ، أو ذا جاهٍ، أو ذا صحةٍ قوية، فالواجب التواضع لله وشكره على إنعامه وأن تكون هذه النعم عوناً لك على استقامة حالك لا على التكبر والظلم والعدوان، (كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى)[العلق:6-7].

 

إن تلذذك -عبد الله- بأداء العبادة، علامة على طمأنينة قلبك وراحة نفسك؛ ولهذا النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "أرحنا يا بلال بالصلاة"، فالمسلم يرتاح في صلاته، ويستأنس بها، وينشرح بها صدره.. يؤدي زكاة ماله، فيؤديها ويزداد راحةً وخضوعاً وسكينة، يصوم ويحج ويبر ويُصَلِّي ويكف الأذى وينشر المعروف، وكلها أسبابٌ للين قلبه، واستقامة حاله.

 

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله ..

 

المرفقات

القلوب وأسباب صلاحها واستقامتها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات