الرجاء

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/حقيقة الرجاء وعلامته 2/الفرق بين الرجاء وبين التمني والغرور 3/مكانة الرجاء وأهميته 4/آثار الرجاء الإيمانية والسلوكية 5/علاقة الرجاء بالخوف من الله

اقتباس

وإذا لم يرجو العبد ربه ويطمع في ثوابه فإنه أبعد ما يكون عن طاعة الله، أولئك هم المعرضون عن الاستجابة لداعي الإيمان المستكبرون عن الحق، قال الله عنه: (إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ)...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله: للقلب منزلة كبيرة لا يبلغها كثير من الأعضاء في أداء وظيفة التعبد لله -تعالى-؛ والتي من أجلها خلق الإنسان, وأعمال القلوب "أفْرَضُ على العبد من أعمال الجوارح, وعبوديَّةُ القلب أعظَمُ من عبوديَّة الجوارح"(ابن القيم), ومن عبادات القلب العظيمة الرجاء.

 

والرجاء: هو الطمع في فضل الله ورحمته, والاستبشار بجود وفضل الرب -تبارك وتعالى- والثقة والارتياح لمطالعة كرمه -سبحانه-, قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[البقرة:218], سئل أحمد بن عاصم: ما علامة الرجاء في العبد؟ فقال: "أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر راجياً لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا والآخرة, وتمام عفوه عنه في الآخرة", وقيل: "علامة صحة الرجاء حسن الطاعة".

 

ومن هنا ندرك الفرق بينه وبين التمني والغرور, إذ التمني يكون مع الكسل وترك العمل ولا يسلك صاحبه طريق الجد والاجتهاد، وأما الرجاء فيكون مع العمل والطاعة, وبذل الجهد وحسن التوكل, قال –تعالى-: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا)[الكهف:110], وأما الغرور فهو تمنٍ مع انخرام أسبابه والعمل بالضد, قال يحيى بن معاذ: "من أعظم الاغترار عندي التمادي في الذنوب مع رجاء العفو من غير ندامة، وتوقع القرب من الله -تعالى- بغير طاعة", ويصدق على ذلك قول الشاعر:

ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها *** إن السفينة لا تجري على اليبس

 

أيها العبد المؤمن: حسبك بالرجاء مكانةً ومنزلةً أنه من عبودية الأنبياء, قال إبراهيم -عليه السلام- كما ذكر الله -تعالى-: (وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)[الشعراء:82], وهو من سمات أهل العلم العارفين بالله- عز وجل-، قال -تعالى-: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ)[الزمر:9].

 

وهو صفة من صفات المؤمنين المجاهدين، قال المولى -سبحانه-: (وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيما)[النساء:104]. قال ابن كثير-رحمه الله-: "أي أنتم وإياهم سواءٌ فيما يصيبكم وإياهم من الجراح والآلام، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله -صلى الله عليه وسلم- وهو وعد حق وخبر صدق وهم لا يرجون شيئاً من ذلك فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه وفي إقامة كلمة الله وإعلائها".

 

والراجون ثواب الله هم أهل الطاعة, الذين يؤدون ما أمر الله به وينتهون عما نهى الله عنه، قال -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ)[فاطر:29].

 

أيها المؤمنون: إن الرجاء عبادة قلبية تظهر آثارها على إيمان المسلم وسلوكه, فمن آثارها الإيمانية: ما ذكره ابن القيم -رحمه الله- حين ذكر فوائد الرجاء والتي منها: "إظهار العبودية والفاقة والحاجة إلى ما يرجوه من ربه ويستشرفه من إحسانه وأنه لا يستغني عن فضله وإحسانه طرفة عين. ومنها: أن الرجاء يطرحه على عتبة المحبة, فإنه كلما اشتد رجاؤه وحصل له ما يرجوه ازداد حبا لله -تعالى- وشكرا له ورضى به وعنه. ومنها: أنه يبعثه على أعلى المقامات وهو مقام الشكر, الذي هو خلاصة العبودية فإنه إذا حصل له مرجوه كان أدعى لشكره. ومنها: أنه يوجب له المزيد من معرفة الله وأسمائه ومعانيها والتعلق بها فإن الراجي متعلق بأسمائه الحسنى متعبد بها وداع"(مدارج السالكين, بتصرف), قال -تعالى-: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً)[الإسراء:57].

 

ومن آثار الرجاء السلوكية: أن أهله أكثر الناس تأسياً بالحبيب محمد-صلى الله عليه وسلم-, قال -تعالى-: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً)[الأحزاب:21].

 

ومن آثاره السلوكية: أن من رجى الله حسُن ظنه به - عز وجل-, وحُسن الظن يرفع درجة العبد عند ربه ومولاه، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -تعالى-: أنا عند ظن عبدي بي"(متفق عليه).

 

ومن آثاره: أن الرجاء يدفع العبد إلى التوبة والرجوع إلى الله، والتوبة من أحب الأعمال إلى الله -عز وجل- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لو يعلمُ المؤمنُ ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحدٌ، ولو يعلمُ الكافرُ ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد"(أخرجه مسلم).

 

فليس بين المذنب وبين رحمة ربه إلا أن يقلع عن الذنب ويندم على ذنوبه، ويعزم على أن لا يعود فيها، ويستغفر الله، عند ذلك يدخل في قوله -تعالى-: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُورًا رَّحِيمًا)[النساء:110], وقال سول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره فيقول: أتعرف ذنب كذا أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب حتى إذا قرره بذنوبه ورأى في نفسه أنه هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم"(أخرجه البخاري).

 

ولله در الإمام الشافعي حين قال:

ولَّما قسا قلبي، وضاقت مذاهبي *** جَعَلْتُ الرَّجَا مِنِّي لِعَفْوِكَ سُلّمَا

تعاظمني ذنبي فلَّما قرنتهُ *** بعفوكَ ربي كانَ عفوك أعظما

فَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ *** تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّة ً وَتَكَرُّمَا

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

 

أيها المؤمنون: إن الرجاء لا يكون إلا مع خوف الله -تعالى-؛ فهما كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا صار الطائرُ في حدِ الموت ووقع, وقد ورد في كتاب الله -عز وجل- الكثير من الآيات الكريمة التي جمع الله فيها بين الخوف والرجاء، وبين الرحمة والعذاب, مما يبعث على أن يكون الإنسان بين الخوف والرجاء، فقال الله -تعالى-: (فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)[الأنعام:147], وقال الله -تعالى-: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ), وقال -تعالى-: (قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف:156], وقال الله-تعالى-: (إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ)[الأنعام:165], وقال -تعالى-: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر:3].

 

ولهذا أمر الله الإنسان بطاعته, يرجو رحمته ويخاف عذابه, قال-تعالى-: (وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً)[الأعراف:56], "أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوف وتأميل لله -عز وجل- حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان"(القرطبي).

 

وقال ابن القيم -رحمه الله-: "الخوف مستلزم للرجاء, والرجاء مستلزم للخوف, فكل راجٍ خائفٍ, وكل خائفٍ راجٍ؛ ولأجل هذا حسن وقوع الرجاء في موضع يحسن فيه وقوع الخوف, قال الله -تعالى-: (مَّا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً)[نوح:13] قال كثير من المفسرين: المعنى: مالكم لا تخافون لله عظمة، قالوا: والرجاء بمعنى الخوف. والتحقيق: أنه ملازم له؛ فكل راجٍ خائفٍ من فوات مرجوه، والخوف بلا رجاء يأس وقنوط، وقال -تعالى-: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كَانُوا يَكْسِبُونَ)[الجاثية:14] قالوا في تفسيرها: لا يخافون وقائع الله بهم كوقائعه بمن قبلهم من الأمم"(مدارج السالكين).

 

عباد الله: فليكن رجاؤنا في الله وحسن ظننا به -سبحانه-, أعظم من نظرنا واعتمادنا على أعمالنا وطاعاتنا, فإن رحمة الله وكرمه أعظم مما نظن, بل لن تبلغه ظنونا, فأحسن الظن بربكم وارجوه وأبشروا وأملوا.

 

يا رَبِّ إِن عَظُمَت ذُنوبي كَثرَةً *** فَلَقَد عَلِمتُ بِأَنَّ عَفوَكَ أَعظَمُ

إِن كانَ لا يَرجوكَ إِلّا مُحسِنٌ *** فَبِمَن يَلوذُ وَيَستَجيرُ المُجرِمُ

أَدعوكَ رَبِّ كَما أَمَرتَ تَضَرُّعاً *** فَإِذا رَدَدتَ يَدي فَمَن ذا يَرحَمُ

ما لي إِلَيكَ وَسيلَةٌ إِلّا الرَجا *** وَجَميلُ عَفوِكَ ثُمَّ أَنّي مُسلِمُ

 

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...

 

المرفقات

الرجاء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
أحمد سرور
05-06-2020

الرجاء مراجعة قول الإمام الشافعي: تعاظمني ذنبي فلَّما قرنتهُ *** بعفوكَ ربي كانَ عقودكَ* أعظما عقودكَ => عفوكَ جزاكم الله خيرا

سلمت أخي أحمد

عضو نشط
زائر
13-06-2022

الحمد لله رب العالمين الذي لا يحمد على مكروه سواه