النفاق

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/التعريف بالنفاق والمنافقين 2/بعض صفات المنافقين وأخلاقهم 3/بعض عقوبات المنافقين في الدنيا والآخرة

اقتباس

إنَّ النِّفاق داءٌ خبيث، إذا أصاب الأمة نخرَها، كما تنخر الدودة لحاء الشجر، وليس شيءٌ أضر على الأمَّة مِن أمْر المنافقين، فهم يَهدِمون الدِّين باسْمِ الدِّين، وهم يتكلَّمون بألسنِتنا، قلوبُهم قلوبُ الشياطين، وجُثمانهم..

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله: المؤمن بالله حقًّا، الذي يصدق قولَه فعلُه، يعيش صافي النفس، مطمئن الروح، سعيد القلب، نشيط البدن في طاعة الله، عرف ربه إلهًا واحدًا، فعبده وحده لا شريك له، وآمن بنبيه -صلى الله عليه وسلم- واتبعه في سنن وأقواله وأعماله، فاستقام على الشرع، وانقاد للحق.

 

بخلاف المرء المعوج، الذي لم يطمئن قلبه للإيمان، فزاغ مع الزائغين، وانحرف عن الصراط المستقيم، فأظهر إسلامه وأعلن إيمانه كلامًا بلسانه، دون أن تصل حقيقة هذا الإسلام والإيمان إلى قلبه، فعاش حياته منافقًا، متذبذبًا بين المؤمنين وغيرهم، يحمل قلبًا قاسيًا حاقدًا، ويعيش حياة مليئة بالاضطراب وعدم الاطمئنان، وهذا هو المنافق، فإن النفاق مرادف للكذب، وهو إظهار أمرٍ، وإبطان نقيضه.

 

فالمنافقون يظهرون أمام الناس بمظهر المسلمين، وهم في قرارة أنفسهم يكفرون بالإسلام ولا يؤمنون بالله ولا برسله، قال الله -تعالى-: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)[البقرة:8-9].

 

فإظهارهم لشعائر الإسلام كذب وبهتان، وتزييف وخداع، يقولون بألسنتهم ما تخالفه قلوبهم، ويحسبون أن ذلك يخفى على الله: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)[المنافقون:1].

 

إخوة الإسلام: وإذا النِّفاق في الشرع: معناه إظهارُ الإسلام، وإبطانُ الكفر والشرِّ، فإنه ينبغي أن يُعلَم أن النفاق نوعانِ:

الأول: النفاق الاعتقادي، وهو النفاقُ الأكبر الذي يُظهر صاحبُه الإسلامَ، ويُبطِن الكفرَ، وهذا النوع مُخرِج من الدين بالكلية، مثل: الكفر، وعدم الإيمان، والاستهزاء بالدِّين وأهلِه، والسخرية منهم، والميل بالكليةِ إلى أعداء الدِّين. فالنفاق الأكبر فيه تكذيب الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وبُغْضُه، وبُغْضُ ما جاء به، وكراهية الانتصار له، والسرور بإيذائه.

 

والنوع الثاني: النفاقُ العَمَلي، وهو نابع من اختلاف السر والعلانية في الواجبات، وذلك بعمل شيء من أعمال المنافقين؛ مع بقاء أصل الإيمان في القلب وصاحبه لا يخرج من الملة، ولا يُنفى عنه مطلق الإيمان، ولا مسمى الإسلام، وهو معرّض للعذاب كسائر المعاصي، دون الخلود في النار، وصاحبه ممن تناله شفاعة الشافعين بإذن الله.

 

وهذا النوع من النفاق ينبغي الحذر منه؛ إذ هو مقدمة وطريق للنفاق الأكبر؛ لمن سلكه وكان ديدنه. وأمثلة ذلك: الكذب في الحديث، وإخلاف الوعد، وخيانة الأمانة، والفجور في الخصومة، والغدر بالعهود، وكالرياء الذي لا يكون في أصل العمل، وإظهار المودة للغير والقيام له بالخدمة مع إضمار عكسه في النفس. ودليله قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر"(متفق عليه).

 

ومن سمات المنافقين -أيها المؤمنون- أنهم مخادعون، قال رب العالمين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)[النساء:142]، يحسبون أنهم يخدعون ربهم، ألا ساء ما يظنون!

 

وهم مع ذلك كُسالى عن كلِّ خير، بعيدون عن كل فضيلة، لا ينشطون إلا في المحافل، ولا يعبدون الله إلا مراءاة للناس، وصف الله حالهم مع أم العبادات الصلاة، فقال: (وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا)[النساء:142]، وإذا كان هذا حالهم مع الصلاة وهي عمود الإسلام، فما بالك بتفريطهم في غيرها؟!

 

ومن سمات هؤلاء المنافقين: حب الرياء والتظاهر بالخير وإعلانه، فإذا اجتمعوا بأهل الإيمان كانوا هم العُبّاد الناسكون، والفقهاء المنظرون، وإذا خلوا بأمثالهم تواثقوا على كفرهم وعنادهم: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)[البقرة:14].

 

ومن سوءات هؤلاء المنافقين تحاكمهم إلى القوانين البشرية، ونبذ الاحتكام إلى شريعة الله: (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ)[النساء:60].

 

والمنافقون ينفِّرون الناسَ عن دين الله والاحتكام إليه، ويثبطونهم عن الأعمال الصالحة، ففي يوم الأحزاب لم يصبروا، وأرادوا إشاعة الوهن والتخذيل في صفوف الصحابة الكرام فقالوا: (مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا)[الأحزاب:12]، وحكى الله عن بعض جرائمهم يوم الأحزاب فقال: (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ )[الأنفال:49].

 

والمنافقون حَمَلة راية الإفساد في المجتمعات، فلا تجدهم إلا وهم يحاربون المعروف، ويبغضون التواصي بالحق، ويدعون إلى الرذيلة والفساد: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ)[التوبة:67].

 

المنافقون -عباد الله- ينادون إلى إفساد المجتمع باسم الحضارة، ويسعون لنشر الرذيلة باسم الحرية، وينافحون لنبذ الفضيلة باسم المدنية، ويدعون لنشر الباطل باسم التقدم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ)[البقرة:11-12].

 

ومن سمات المنافقين: دأبهم الاستهزاء بدين الله، والسخرية من شعائر الله، والتندر بالمصلحين، في منتدياتهم وقنواتهم وسائل وتواصلهم: (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ)[التوبة:79]، وقال الله عنهم: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ)[المطففين:29-32].

 

ومن جرائم المنافقين: الاستخفاف بشريعة الله، وعدم تعظيم شعائر الإسلام، فلا يوَقِّرون الصحابة -رضي الله عنهم- ولا يُجِلُّون أئمة الإسلام، ولا يعطوا العلماء قَدْرَهم: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ)[التوبة:64-65].

 

فيا عبدالله: احذر مسالك المنافقين وقنواتهم، وتغريداتهم، وتفطن لما يكتبون في صحفهم، وتفطن لما ينشرونه في حساباتهم، ولا تشارك في منتدياتهم، ولا تحضر مجالسهم، حتى لا تشاركهم إثمهم، ويحل عليك عقابهم: (فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا)[النساء:140].

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

 

عباد الله: فإن الله -تعالى- توعد المنافقين بالهوان في الدنيا والآخرة، وتوعدهم بالعذاب الشديد يوم القيامة، وحكى لنا ربنا في القرآن بعض مواقف الخزي التي يتعرضون لها في عرصات القيامة، فقال: (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)[الحديد:13].

 

وتوعد الله المنافقين بعذاب شديد، فقال جل وعلا: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ)[التوبة:68].

 

وأكد ربنا -سبحانه- أن عذاب المنافقين والكافرين دائم مستمر في عذاب جهنم، فقال سبحانه: (وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[الفتح:6].

 

عباد الله: الله لطيف بعباده، رءوف بخلقه، رحيم بهم، لم يغلق باب رحمته عن أحد، فهو يفتح باب الأمل لمن سلك سبل التوبة، وأناب إلى ربه وبيَّن، وأصلح ما كان أفسد: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)[النساء:145-146]، فمتى تاب المنافق وحقق إيمانه، ونبذ مسالك المنافقين، فيرجى له رحمة رب العالمين.

 

فاتقوا الله -عباد الله-، واحذروا الوقوع في شراك المنافقين، واسلكوا سبل الثبات على دينكم، والْتَفُوا حول العلماء الربانيين الصالحين المصلحين، ولا تنخدعوا بشعارات أهل النفاق والشقاق ودعاوى أهل الهواء.

 

اللهم إنا نعوذ بك من أسباب النفاق والشقاق، وسيء الأخلاق، واجعلنا يا ربنا مؤمنين صادقين، واجعلنا من عبادك المخلِصين.

 

هذا؛ وصلوا وسلموا على رسول الله...

 

المرفقات

النفاق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
24-07-2023

شكرا لك