فاطمة رضي الله عنها

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ولادة فاطمة وكنيتها 2/زواجها رضي الله عنها 3/صفاتها الخَلقية والخُلقية 4/مكانتها عند النبي الكريم وفضائلها 5/حياؤها في الحياة وبعد الممات

اقتباس

لم يكن حياء ووقار فاطمة -رضي الله عنها- في حال حياتها فقط، بل كان هنالك أمر ظل يؤرقها ويقض مضجعها، وهو أنها كانت تحمل هَمّ خروجها إلى قبرها حينما تحمل على سرير الموت، وأن الملابس التي ستكون عليها مهما كانت، إلا أنها قد تصف جسمها فيراها الرجال وهم يحملونها، يا الله على الأدب! يا الله على الحياء! يا الله على الطهر!..

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

معاشر المسلمين: حديثُنا هنا عن امرأة لا تشبه باقي النساء، عن عظيمة لكنها سيدة العظيمات.

 

حديثنا عن فتاة هي بحق قدوة لكل فتاة مؤمنة، وأسوة لكل امرأة صالحة، عن أنموذج رائع، ومثلا يحتذى في زمان ضاعت فيه القدوات، واختلفت فيه الموازين والمفاهيم.

 

عن فاطمة بنت محمد -رضي الله عنها وأرضاها- حديثنا في هذا اللقاء المبارك، فاطمة بنتُ مَن؟ زَوْجُ مَن؟ أُمُّ مَن؟ ريحانةُ مَن؟.

 

فهيا -أيها المؤمنون- إلى رحاب فاطمة، هيا إلى ظلالها الوارفة، فإننا سنجد هناك عبقًا من ريح محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشذى من أريج النبوة، هيا إلى أشبه الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السمت والأدب، والكلام والشكل، والمشية والتقوى، هيا إلى سيدة نساء العالمين.

 

ولدت فاطمة -رضي الله عنها- قبل مبعث النبي -صلى الله عليه وسلم- عندما كانت قريش تبني الكعبة، وسميت بالبتول؛ لأن الله بتلها أي قطعها عن النساء حسنًا وفضلًا وشرفًا، أو لانقطاعها إلى الله.

 

كانت كنيتها أم أبيها، ومعنى أم أبيها: أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يجد فيها من الحب والحنان والعاطفة ما يجده المرء من أمه وأبيه، فكانت عوضًا له عنهما.

 

وقد حفظ الله بها نسل محمد -صلى الله عليه وسلم-، وبقي فينا أبناؤه، وامتد نسبه، فقد تزوجها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ودخل بها بعد غزوة أحد، وكانت نعم الزوجة الصالحة للزوج الصالح، فولدت له الحسن، والحسين، ومحسنا، وكان لها من البنات: أم كلثوم؛ زوجة عمر بن الخطاب، وزينب؛ زوجة عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. عن حذيفة قال: النبي -صلى الله عليه وسلم-، قال: "إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم عليَّ، ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة". (الترمذي وصححه الألباني).

 

وقد كانت فاطمة -رضي الله عنها- أشبه الناس برسول الله -صلى الله عليه وسلم- خَلقا، قالت عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيت أحدًا أشبه سمتًا ولا هديًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- من فاطمة في قيامها وقعودها، وكان إذا دخلت عليه قام إليها فقبَّلَها وأجْلَسَها في مجلسه". (الترمذي وصححه الألباني).

 

وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: سألْتُ أمِّي عن فاطمة بنت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: "كانت كالقمر ليلة البدر، أو الشمس إذا خرجت من السحاب، بيضاء مشربة حمرة، لها شعر أسود، من أشد الناس شبهًا برسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

 

أيها المسلمون: إن التي تربت في بيت النبوة حقيق أن تكون على خلق عظيم، وأدب كبير، وهذه فاطمة -رضي الله عنها- تصدق ذلك بأخلاقها، فقد كانت صابرة ديِّنة، خيرة صيِّنة، قانعة شاكرة لله.

 

تقول عائشة -رضي الله عنها-: "ما رأيت أحدًا كان أصدق لهجة من فاطمة، إلا أن يكون الذي ولدها. ولو لم يكن لفاطمة إلا حُبُّ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- لكفاها، لكنها ذات خصال حميدة من التقى، والهدى، والخلق الجميل.

 

سئل -صلى الله عليه وسلم- أي الناس أحب إليك؟ قال: "فاطمة".

 

وكانت لها مكانة عظيمة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يعرف ذلك القاصي والداني، ووردت في ذلك قصص عجيبة، منها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- غضب لها لما بلغه أن أبا الحسن هَمَّ بما رآه سائغا من خطبة بنت أبي جهل، فقال: "والله لا تجتمع بنتُ نبيِّ الله وبنت عدوِّ الله، وإنما فاطمة بضعة مني، يريبني ما رابها، ويؤذيني ما آذاها"، فترك عليٌّ الخطبة رعاية لها؛ فما تزوج عليها ولا تسرَّى؛ فلما توفيت تزوَّج وتسرَّى -رضي الله عنهما-.

 

وعن أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في بيتها فأتته فاطمة ببرمة فيها خزيرة، فدخلت عليه، فقال لها: "ادعي زوجك وابنيك". قالت: فجاء علي والحسين والحسن فدخلوا عليه فجلسوا يأكلون من تلك الخزيرة، وهو على منامةٍ على دكان تحته كساء له خيبري، قالت: وأنا أصلي في الحجرة فأنزل الله -عز وجل- هذه الآية: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[الأحزاب:33]. قالت: فأخذ فضل الكساء فغشاهم به، ثم أخرج يده فألوى بها إلى السماء ثم قال: "اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي، فأذْهِبْ عنهم الرجس، وطهِّرْهُم تطهيرا. اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي وخاصتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قالت: فأدخلت رأسي البيت فقلت: وأنا معكم يا رسول الله! قال: "إنك إلى خيرٌ، إنك إلى خير". (أحمد وصحَّحه الأرناؤوط).

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: نظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: "أنا حرب لمن حاربكم، سلم لمن سالمكم". وعن أبي سعيد: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا يبغضنا أهل البيت أحد، إلا أدخله الله النار".

 

وعن أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يمر ببيت فاطمة ستة أشهر، إذا خرج لصلاة الفجر يقول: "الصلاة يا أهل بيت محمد، (إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)[الأحزاب:33]".

 

ومن أعجب العجب، وأروع الروائع هنا، أن أجمل الأحاديث وأمتعها وأحسنها في وصف فاطمة -رضي الله عنها-، والحديث عنها، وامتداحها، روتها لنا عائشة -رضي الله عنها-؛ فلا أدري كيف يسوغ لبعض الناس أن يحب فاطمة ويتغنى بشمائلها، ثم يبغض عائشة -رضي الله عنها- وينال منها؟! وهي من أحسن مَن تحدث عن آل البيت، وأثنى عليهم -رضوان الله عليهم أجمعين-.

 

أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله؛ وبعد:

 

أيها المؤمنون: ولنا مع سيدة العالمين وقفة جليلة جميلة، تنبئك عن الخلق العظيم لبيت النبوة، وتحدثك عن الأدب الرفيع لحبيبة محمد -صلى الله عليه وسلم-، وقفة فيها أحسن الأسوة للمرأة الصالحة، وأجمل القدوة للفتاة المؤمنة؛ فإن فاطمة -رضي الله عنها- قد أوتيت من العقل والدين والرزانة ما يفوق الوصف، وإن وقفتنا هنا مع الزهراء تظهر لنا أجمل وأروع ما يمكن أن يتخيله العقل من حياء المرأة المؤمنة.

 

لم يكن حياء ووقار فاطمة -رضي الله عنها- في حال حياتها فقط، بل كان هنالك أمر ظل يؤرقها ويقض مضجعها، وهو أنها كانت تحمل هَمّ خروجها إلى قبرها حينما تحمل على سرير الموت، وأن الملابس التي ستكون عليها مهما كانت، إلا أنها قد تصف جسمها فيراها الرجال وهم يحملونها، يا الله على الأدب! يا الله على الحياء! يا الله على الطهر!.

 

انظروا إلى فاطمة كيف تجدد لنا سيرة بيوت النبوة، فقد عرفت بيوتهم بالحياء، فبنت شعيب جاءت تمشي إلى موسى على استحياء، ومريم ابنة عمران قالت: (يَا ليْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذَا وَكُنْتَ نَسْيَاً مَنْسِيَّاً)[مريم:23]، وإن كان هؤلاء في قمة الحياء في حياتهن، فإن فاطمة زادت على ذلك بأن كانت في قمة الحياء والخجل مما يحدث لها بعد الوفاة، حينما تُحمَل على النعش!.

 

ثم أقرَّ الله عين الزهراء بأنْ وجَدَتْ لذلك الأمر مخرجًا، قالت -رضي الله عنها- لأسماء بنت عميس: "إني لأستحي أن أخرج غدًا على الرجال من خلف هذا النعش إذا حملت فيه". فقالت لها أسماء: أولا نصنع لك شيئًا رأيتُه يُعمل بالحبشة ويحمل فيه النساء؟ قالت: "أجل، فاصنعيه".

 

فصنعت لها النعش، ثم أخذت من الجريد الرطب فقوسته عليه، ثم جعلت الثوب عليه، فلما رأته قالت: "سَتَرَكِ اللهُ كما سترتني"، وكانت أول من صُنع لها غطاء على نعشها بوصيتها.

 

تقول عائشة أم المؤمنين: "إنا كنا -أزواجَ النبي صلى الله عليه وسلم- عنده جميعا لم تغادر منا واحدة، فأقبلت فاطمة –رضي الله عنها- تمشي، ولا -والله- لا تخفى مشيتها من مشية رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فلما رآها رحب وقال: "مرحبا بابنتي"، ثم أجلسها عن يمينه، ثم سارَّها فبكت بكاء شديدًا، فلما رأى حزنها سارَّها الثانية فإذا هي تضحك! فقلت لها: خصك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالسر من بيننا ثم أنت تبكين، فلما قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سألتها: عمَّ سارك؟ قالت: ما كنت لأفشي على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرّه".

 

فلما توفي قلت لها: "عزمت عليك بما لي عليك من الحق لما أخبرتِني؟ قالت: أما الآن فنعم؛ فأخبَرَتْني، قالت: أما حين سارني في الأمر الأول فإنه أخبرني أن جبريل كان يعارضه بالقرآن كل سنة مرة، وإنه قد عارضني به العام مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري؛ فإني نعم السلف أنا لك! قالت: فبكيتُ بكائي الذي رأيتِ. فلما رأى جزعي سارني الثانية قال: يا فاطمة، ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء المؤمنين؟ أو سيدة نساء هذه الأمة" (البخاري).

 

ولما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- حزنت عليه، وبكته، وقالت: "يا أبتاه إلى جبريل ننعاه! يا أبتاه أجاب ربًّا دعاه! يا أبتاه جنة الفردوس مأواه!"، وقالت بعد دفنه: "يا أنس كيف طابت أنفسكم أن تحثوا التراب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم؟!".

 

أيها المؤمنون: هل كان ذلك السجل الذي ملأته فاطمة -رضي الله عنه- طهرًا وصفاءً، وحياءً وعبادةً، وطاعة وتقوى بعد عمر طويل؟ هل عاشت فاطمة -رضي الله عنها- سبعين سنة أو ثمانين سجَّلَت خلالها ذاك العطاء المبارك؟!

 

لا والله! فقد غادرت الحياة وهي في عمر الزهور، اختارها الله لتكون أول من يلتحق بنبيه -عليه الصلاة والسلام-، رحلت ريحانة المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وعمرها خمسة وعشرون عامًا، ولكن هذه السنوات القليلة كانت أعظم بركة من مئات السنين!

 

وماتت بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيسير، قال الإمام الذهبي: عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قالت: "عاشت فاطمة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ستة أشهر، ودفنت ليلًا -رضي الله عنها وأرضاها، وصلى الله وسلم على أبيها-".

 

فلتكن فاطمة -رضي الله عنها- قدوة لكل مسلمة، فهي باب الحياء، والمثل الأكبر فيه، ومفخرة الطهر، والخير كل الخير في الحياء، وفي الاقتداء بمن خلد الله ذكرهم في كتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

 

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم الكريم ..

 

المرفقات

فاطمة رضي الله عنها

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات