الكرم

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/المقصود بالجود والكرم ومكانته 2/ترغيب الإسلام في الجود والكرم وبعض مظاهر ذلك 3/مظاهر الكرم وصوره 4/بعض فوائد الجود والكرم

اقتباس

مع خُلق آخر من أخلاق الإسلام الفاضلة، وخصلة من خصاله العظيمة، مع خُلُق به تسُود المحبَّة والمودَّة والرحمة في المجتمعات، وبه يكون التآزر والتعاون والتضامن بين الناس، مع خُلقٍ من أخلاق المرسلين، وصفة من صفات الصالحين؛ إنَّه...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

 

معاشر المسلمين: فمع خُلق من أخلاق الإسلام الفاضلة، وخصلة من خصاله العظيمة، مع خُلُق به تسُود المحبَّة والمودَّة والرحمة في المجتمعات، وبه يكون التآزر والتعاون والتضامن بين الناس، مع خُلقٍ من أخلاق المرسلين، وصفة من صفات الصالحين؛ إنَّه الجود والكرم، وما أحوج النَّاس إلى هذا الخُلق العظيم، في زمنٍ فشَت فيه كلُّ مظاهر الأنانية والبخل والشح.

 

الجود -يا عباد الله- صفة تحمل صاحبَها على بذل ما يَنبغي من الخير لغير عِوَض ولا غرض.

 

والكرم إنفاق المال الكثير بسهولة من النَّفس في الأمور الجليلة القدر، الكثيرةِ النَّفع.

 

والجود والكرم أنواع متعددة، وأشكالٌ مختلفة، وكل أحد يجود بما استطاع؛ من إطعام جائع، وقضاء حاجة، وإعانة محتاج، وتعليم ونصح وإرشاد.

 

الجود والكرم خلُق عظيم، وعملٌ صالح جليل، أَمر به ربُّ العالمين، وحثَّ عليه سيد المرسلين.

 

الجود والكرم من صفات الله -عز وجل-؛ فالكريم من أسمائه، والجود والكرم من صفاته، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ)[الانفطار: 6-8]، وعن طلحة بن عبيد الله بن كريز قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "إنَّ الله جواد يحبُّ الجوادَ، ويحب معاليَ الأخلاق، ويكره سَفْسافها"(صححه الألباني).

 

الكرم من صفات الملائكة؛ قال -تعالى- في وصفهم: (كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ * وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)[الانفطار:9-12].

 

الجود والكرم من سمات الأنبياء والرسل؛ قال -تعالى- عن إبراهيم -عليه السلام-: (هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ * فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ)[الذاريات:24-27].

وفي صحيح البخاري عن ابن عمر -رَضي الله عنهما- عن النبيِّ -صلى الله عليه وسلمَ- أنه قال: "الكريمُ ابنُ الكريم ابنِ الكريم ابنِ الكريم؛ يوسفُ بنُ يعقوب بنِ إسحاق بنِ إبراهيم -عليهم السلام-".

 

ونبينا المصطفى -صلى الله عليه وسلمَ- مَثَلٌ لا يُضاهى، وقدوة لا تُسامى في الجود والكرم، فقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه مرتبةَ الكمال الإنساني في حبِّه للعطاء؛ إذ كان يعطي عطاءَ مَن لا يحسب حسابًا للفقر ولا يخشاه؛ ثِقةً بعظيمِ فضل الله، وإيمانًا بأنَّه هو الرزَّاق ذو الفضل العظيم؛ ففي صحيح مسلم عن أنس -رَضي الله عنه- "أنَّ رجلاً سأل النبيَّ -صلى الله عليه وسلمَ- غنمًا بين جبلين فأعطاه إيَّاه، فأتى قومَه فقال: أيْ قوم، أسلِموا؛ فوالله إنَّ محمدًا ليُعطي عطاءً ما يخاف الفقر"، فقال أنس: "إنْ كان الرجل ليُسْلِم ما يُريد إلا الدنيا، فما يُسْلم حتى يكونَ الإسلام أحبَّ إليه من الدنيا وما عليها".

 

عباد الله: الإسلام دين يدعو إلى البَذل والإنفاق، ويرغِّب في الكرَم والسَّخاء، وينهى على الشحِّ والبخل، ويحذِّر من المنع والإمساك، قال -سبحانه-: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:274].

 

روى مسلم في صحيحه عن أبي أُمامة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "يا بن آدم إنَّك أنْ تبذل الفضلَ خيرٌ لك، وأن تمسكه شرٌّ لك، ولا تلام على كفافٍ، وابدأ بمن تعول، واليد العُليا خير من اليد السُّفلى".

 

عباد الله: وحتى نلبي توجيه الإسلام ونتخلق بخلق الكرام نحتاج إلى أن نتعرف على صوره ومظاهره؛ فمن ذلك:

بَذْل المسلم وعطاؤه من مال الله الذي آتاه الله إيَّاه وأنعم به عليه من كل ما ينتفع به المرء؛ من مأكلٍ أو مشرب أو ملبس، أو مسكن أو دواء أو غير ذلك من أنواع الخير والبر والإحسان؛ فعن ابن عمر -رَضي الله عنهما-: أنَّ رجلاً جاء إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: يا رسول الله أيُّ النَّاس أحب إلى الله؟ وأيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أحبُّ النَّاس إلى الله -تعالى- أنفعُهم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله -تعالى- سرورٌ تُدخِله على مسلم، أو تكشِف عنه كُربة، أو تقضي عنه دَينًا، أو تطرد عنه جوعًا، ولأَن أمشي مع أخٍ في حاجة أحبُّ إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد (يعني مسجد المدينة) شهرًا، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورتَه، ومن كظم غيظَه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبَه رجاءً يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجةٍ حتى يتهيَّأ له أثبت الله قدمَه يوم تزول الأقدام"(أخرجه الطبراني وحسنه الألباني).

 

ومن مظاهر الكرم وصوره: بذل المرء وعطاؤه من علمه ومعرفته؛ فالكريم من لا يَكتم علمًا ولا معرفة، بل يُعَلِّم الناسَ ويدلهم على الخير؛ كما روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "من دعا إلى هدًى، كان له من الأجر مثل أجور من تَبِعه، لا يَنقُص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة، كان عليه من الإثم مثل آثام مَن تبعه، لا يَنقُص ذلك من آثامهم شيئًا".

 

ومن مظاهره: بَذل النصيحة لمن هو في حاجة إليها؛ فالكريم لا يَبخل على إخوانه بأي نصيحة تفيدهم وتنفعهم في دينهم أو دنياهم، روى مسلم في صحيحه عن تميم الدَّاري -رَضي الله عنه- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قال: "الدِّينُ النَّصيحة"، قلنا: لمن؟ قال: "لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمَّة المسلمين وعامَّتهم".

 

كما أن من مظاهر الكرم: بذل المرء وعطاؤه من أخلاقه وشِيَمه؛ فالكريم يعطي من مكانته وجاهه، ويعطي من عَطفه وحنانه، ويعطي من طلاقة وَجْهه وابتسامة ثغره وحُلو كلامه، ويعطي من وقته وراحتِه، ويعطي من سَمعه وإصغائه، ويعطي من حبِّه ورحمته، ويعطي من دعائه وشفاعته، عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسولُ الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "أكمَل المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خلقًا، وخيركم خيركم لنسائهم"(أخرجه الإمام أحمد).

 

ومن مظاهر الكرم: إكرام الوالدين والأرب بحسن القول والفعل والخُلق؛ فقد قال -تعالى- مبينا حق الوالدين: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[الإسراء: 23-24].

وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقتَه في رَقبة، ودينار تصدَّقتَ به على مسكين، ودينار أنفقتَه على أهلك، أعظمُها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك".

 

ومن مظاهره: إكرام الجار والضيف؛ كما جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي شريح العدوي -رَضي الله عنه- قال: سمعَتْ أذُناي، وأبصرَتْ عيناي، حين تكلَّم النبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: "مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم جارَه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفَه جائزته"، قال: وما جائزتُه يا رسول الله؟ قال: "يوم وليلة، والضِّيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدَقة عليه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت".

 

بارك الله لي ولكم....

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

 

عباد الله: عليكم بالجود والكرم؛ فإن فوائده عظيمة، ونتائجه جليلة؛ فمن فوائده:

مضاعفة الأجر والثواب؛ قال -تعالى-: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[البقرة:261].

 

ومنها: الأمن من الخوف والحزنِ يوم القيامة؛ قال -تعالى-: (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)[البقرة:274].

 

وعن عقبة بن عامر -رَضي الله عنه- قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "كلُّ امرئ في ظلِّ صدَقته حتى يُفصَل بين الناس".

 

ومنها: زرع المحبة والمودة بين الناس؛ فبالعطاء والسَّخاء تصفو النفوسُ من أمراض الحقد والكراهية، وتمتلئ بالمودَّة والمحبَّة؛ فإنَّ النفوس مجبولة على محبَّة أهل الكرَم والسَّخاء والإحسان، وعلى بُغض أهل البخل والشحِّ والإساءة.

 

ويُظهِر عيبَ المرء في الناس بُخلُه *** ويَستُره عنهم جميعًا سخاؤه

تغَطَّ بأثواب السخاء فإنَّني *** أرى كلَّ عيبٍ والسخاءُ غِطاؤه

 

ومنها: سبب في بركة المال ونموِّه وزيادته، وَعْدٌ من الله الذي لا يُخلف وعدَه أنَّ مَن شَكر الله -تعالى- على نِعمه فوظفها في طاعته، زاده الله -تعالى- من فضله وجوده وإحسانه، قال سبحانه: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم:7].

 

فليَعلمْ كلُّ مُنفِق كريم أنَّ ما أنفقه في سبيل الله باقٍ مدَّخَرٌ له إلى يوم القيامة؛ فعن عائشة -رَضي الله عنها- أنَّهم ذبحوا شاةً؛ فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما بقي منها؟"، قالت: ما بقي منها إلاَّ كتفُها، قال: "بقي كلُّها غيرَ كتفها"(أخرجه الترمذيُّ وصححه الألباني).

 

نسأل الله -تعالى- أن يوفِّقنا لصالح الأعمال، وأن يَهدينا سبلَ الرَّشاد، وأن يجعلنا من عباده المحسنين.

 

هذا وصلُّوا وسلِّموا على من أمركم الله بالصَّلاة والسَّلام عليه بقوله: (إنَّ الله وملائكته يصلُّون على النَّبيِّ، يا أيُّها الذين آمنوا صلُّوا عليه وسلِّموا تسليماً)[الأحزاب:56].

 

المرفقات

الكرم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات