من مفسدات القلب: النميمة

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/حقيقة النميمة وحكمها 2/أسباب النميمة وبواعثها 3/الوسائل المعينة على ترك النميمة 4/ما يستثنى من النميمة.

اقتباس

ومما يساعد على ترك النميمة استشعار عظم الذنب, وسوء آثاره, على النمام نفسه, وعلى الناس من حوله؛ فإذا أحس النمام أن هذا الخلق قد يجر إليه الويلات, ويسبب له ولغيره الكوارث حتما سيتركه ويهجره إلى غير رجعة...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)[الأحزاب:70-71]، أما بعد:

 

معاشر المسلمين: إن من أعظم مفسدات القلب النميمة، ذلك الداء الخطير, والشر المستطير؛ فهي فعل شائن، وخلق عن الأخلاق الحسنة منفصلٌ وبائن، كيف لا، وهي تعمل على هتك أستار العباد، وتنشر العداوات والفساد، وتهدم أواصر المحبة والوداد، وتورث الضغائن والأحقاد، وذلك أن الأشرار بها يدخلون بين أهل الخير والصلاح في صورة النَّصَحة المشفقين؛ حتى يوهمونهم ثم ينقلون إليهم الأخبار الحسنة عن أصدقائهم محرفة مموهة، فإذا تجاسروا عليهم بالحديث المكذوب المختلق صرحوا بما يفسد المودة، ويشوه الألفة، ويثير البغض والضغينة.

 

قال بعض الحكماء: النميمة تهدي إلى القلوب البغضاء، ومن واجهك فقد شتمك، ومن نقل إليك فقد نقل عنك، والسّاعي بالنميمة كاذب لمن يسعى إليه، وخائن لمن يسعى به.

 

أيها المؤمنون: أما النميمة فقد عرفها أهل العلم والديانة بأنها نقل الكلام بين الناس؛ لقصد الإفساد، وإيقاع العداوةِ والبغضاءِ بينهم، وقد جاء في الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم من حديث عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا أُنبِّئُكم ما العَضةُ؟ هي النَّمِيمَة، القَالة بين الناس".

 

قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: "اعلم أن اسم النَّمِيمَة إنما يطلق في الأكثر على مَن ينمُّ قول الغير إلى المقول فيه، كما تقول: فلان كان يتكلَّم فيك بكذا وكذا، وليست النَّميمة مُختصة به، بل حدُّها كشفُ ما يُكره كشفُه؛ سواء كَرِهه المنقولُ عنه أو المنقول إليه، أو كرهه ثالث، وسواء كان الكشف بالقول أو بالكتابة أو بالرمز أو بالإيماء، وسواء كان المنقول من الأعمال أو من الأقوال، وسواء كان عيبًا ونقصًا في المنقول عنه أو لم يكن".

عباد الله: ولقد أجمع المسلمون على حرمة النميمة، بل وعدوها من كبائر الذنوب العظام, والسيئات الجسام, التي يكون في الاستهانة بها هلاك وعذاب, قال الإمام الذهبي -رحمه الله-: "النَّميمة من الكبائر، وهي حرام بإجماع المسلمين، وقد تظاهرت على تحريمها الدلائل الشرعية من الكتاب والسُّنَّة ".

 

قال تعالى: (وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ * هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ)[القلم: 10-13]؛ ففي الآيات الكريمات أورد الله ذكر النمام في أبشع صورة وأقبحها, حيث وصفه بأنه كثير الحلف والأيمان؛ لمعرفته أنه كاذب لا يُصدَّق, ووصفه بالمهانة التي هي ضد عزة النفس ومقابلة لها, كما ذكر أن من صفاته ولوغه في أعراض الناس, وذكر عيوبهم ومثالبهم بالقول والإشارة, وهذا ما تعنيه كلمة "هماز", كما وصفه بصفة مرذولة, وخلة قبيحة, وهي النميمة, وأنه يمشي بين الناس بما يُفسِد قلوبهم.

 

ومن الأدلة الواضحة البينة في تحريم هذه الصفة الدنيئة, والخلة الرديئة قوله تبارك تعالى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ)[الهمزة: 1]؛ قال أهل التفسير الهُمَزَة: النَّمَّام، وقيل في تفسيرها أيضًا: هو الطَّعَّان الذي يَعيب الناس".

 

ومن الأدلة كذلك قول الله تعالى: (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ)[المسد: 4]، قال بعض المفسرين في معنى الآية أن المقصود بالحطب: هي النَّميمة، وإنما سُمِّيت النَّميمة حطبًا؛ لأنها سببٌ لإشعال نار العداوة بين الناس؛ فصارت بمنزلة الحطب الذي يوقَد به النار.

 

وأما السنة الشريفة فقد جاء فيها من النصوص في تحريم النميمة ما تقشعر له الأبدان, وترتجف له القلوب, ومن ذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد من حديث أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال:"ألا أخبركم بشراركم؟" قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "المَشَّاؤون بالنَّميمة، المُفَرِّقُون بين الأحبة، الباغون للبُرَآء العنت".

 

ويكفي أصحاب هذا الخلق السيء رادعًا أنهم شرار الناس؛ لما ينشرونه بين الناس من فتن وإحن, وما يبعثونه من دسائس ومكر؛ فيحيلون الأصدقاء إلى أعداء, والأحباب إلى بغضاء, ويقطعون أواصر المحبة, ويصرمون حبال المودة.

قال قتادة -رحمه الله-: "كان يُقال: إن من شرِّ عباد الله: كلَّ طعَّان، لعَّان، نمَّام".

 

ومن الأدلة النبوية على ذم النميمة ما أخرجه الطبراني, وحسنه الألباني من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن أحبكم إليَّ أحاسنكم أخلاقًا، الموطَّؤون أكنافًا، الذين يَألفون ويُؤلفون، وإن أبغضكم إليَّ المشَّاؤون بالنَّميمة، المُفرِّقُون بين الحبة، الملتمسون للبرآء العيب".

 

وقد ذكر أهل العلم على أن النميمة من كبائر الذنوب، يقول العلامة ابن باز-رحمه الله -: "وهي- أي النميمة - من الكبائر, ومن أسباب البغضاء والشحناء بين المسلمين؛ فالواجب الحذر منها".

 

عباد الله: لكل خلق سيء أو حسن بواعث تدعو إلى التخلق به, والتزيي بزيه, والتدثر بدثاره, وكل ما تمكنت تلك البواعث والدواعي من العبد كلما استمر في تمسكه بالخلق؛ حتى يصير طبعًا من طباعه, وخلة من خلاله, وإن من بواعث التخلق بالنميمة, والوقوع في حبائلها:

نسيان الله والدار الآخرة, وهو سبب لكل علة, وطريق إلى كل زلة؛ فنسيان أن الله القوي القهار, الفعال لما يريد، العالم بكل شيء, والمطلع على السرائر, وما تخفي الأنفس، وكذلك نسيان الدار الآخرة، وما فيها من الأهوال والشدائد، هذا كله سبباً في الوقوع في النميمة. قال الله تعالى: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)[الحشر:19].

قال ابن القيم: "نهى أن يتشبه عباده المؤمنون بمن نسيه بترك تقواه ، وأخبر أنه عاقب من ترك التقوى بأن أنساه نفسه ، أي أنساه مصالحها ، وما ينجيها من عذابه ، وما يوجب له الحياة الأبدية ، وكمال لذتها وسرورها ونعيمها ، فأنساه الله ذلك كله جزاء لما نسيه من عظمته وخوفه ، والقيام بأمره".

 

ومن الأسباب: نشأة الفرد في مجتمع اعتاد على هذا الخلق, حتى صار له عادة؛ فيتطبع المرء بهذا الداء تبعًا للوسط الذي يعيش فيه, فيحاكيهم, ويتأثر بهم.

 

ومن الأسباب كذلك: السعي إلى إظهار محبة المحكي له, والتودد إليه, والتملق له؛ خاصة إذا كان ذا وجاهة وسلطان, أو ريادة وشان, فيتخذ النمام من النميمة سببًا في التقرب إليه, ومركبا للوصول إلى قلبه، حتى وإن كان في ذلك ضرر على غيره.

 

ومنها كذلك: الخوض في الباطل, واستمراء فضول الحديث؛ للترويح عن النفس أو عن الغير؛ فقد يرى بعض الناس أن الخوض في الفضول والباطل، إنما هو من قبيل التنفيس, والترويح عن النفس, فيقوده ذلك إلى عدم التورع عن الوقوع في هذه الآفة.

 

ومن أهم الأسباب وأعظمها: الغفلة عن العواقب المترتبة على هذا الفعل الشائن؛ فمن لا يقدر عواقب الشيء؛ فإنه حتما سيتجرأ عليه، وإن كان في تجرئه هذا دماره وهلاكه.

 

أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسّلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أمّا بعد:

 

أيها المؤمنون: لا بد لكل داء من دواء, ولكل آفة من دافع, ومن أراد أن يصفي قلبه من دخائل الأخلاق السيئة, والصفات المرذولة, فتش عن الدواء, وبحث عن العلاج؛ ليستقيم حاله, وينجو من الهلاك.

 

وبما أننا قد عرجنا على الدواعي والدوافع التي توقع العبد في براثن النميمة, وتلقيه في مستنقعاتها الآسنة فكان لزامًا أن نتطرق للعلاج النافع, ونصف الدواء الناجع؛ فمما يساعد على ترك النميمة:

استشعار عظمة الجبار سبحانه, وقوته, وجبروته, وسرعة انتقامه؛ فمن عظم الله في قلبه هان عليه ترك ما يغضبه, وسعى إلى ما يرضيه, وترك رضا المخلوقين.

 

ومما يساعد على ترك النميمة كذلك: استشعار عظم الذنب, وسوء آثاره, على النمام نفسه, وعلى الناس من حوله؛ فإذا أحس النمام أن هذا الخلق قد يجر إليه الويلات, ويسبب له ولغيره الكوارث حتما سيتركه ويهجره إلى غير رجعة.

 

ومما يساعد كذلك على تركها: تقوية الإيمان بالعلم النافع, والعمل الصالح, واستغلال أوقات الفراغ, والإكثار من الطاعات, ومزاولة القربات؛ فإن الحسنات يذهبن السيئات.

 

ومن الزواجر القوية, والعلاجات الناجعة: معاقبة أولي الأمر للنمامين, وزجرهم, وتخويفهم, فإن لم ينتهوا عزروهم, وحثوا الناس على مقاطعتهم, والابتعاد عنهم, وذمهم؛ فإذا شعر هؤلاء بمقتهم ونبذهم من المجتمع حتمًا سيتركون هذه الخلة, وسيبتعدون عن هذه العادة.

 

روي عن عمر بن عبدالعزيز -رحمه الله- أنه دخل عليه رجل فذكر عنده وشاية في رجل آخر فقال عمر: إن شئت حققنا هذا الأمر الذي تقول فيه, وننظر فيما نسبته إليه؛ فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا)[الحجرات: 6], وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ)[القلم: 11], وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين, لا أعود إليه أبداً.

 

قال الإمام النووي -رحمه الله وهو ينصح من حملت إليه نميمة, وسُعيَ إليه بكلام مكروه عن الغير- قال: :وكل من حملت إليه نميمة، وقيل له: فلان يقول فيك، أو يفعل فيك كذا فعليه ستة أمور:

الأول: أن لا يصدق؛ لأن النمام فاسق.

 

الثاني: أن ينهاه عن ذلك، وينصحه، ويقبح له فعله.

 

الثالث: أن يبغضه في الله تعالى؛ فإنه بغيض عند الله تعالى، ويجب بغض من أبغضه الله -تعالى-.

الرابع: أن لا يظن بأخيه الغائب السوء.

 

الخامس: أن لا يحمله ما حكي له على التجسس والبحث عن ذلك.

 

السادس: أن لا يرضى لنفسه ما نهى النمام عنه؛ فلا يحكي نميمته عنه فيقول: فلان حكى كذا، فيصير به نماماً، ويكون آتياً ما نهى عنه.

 

أيها المسلمون: اعلموا أنه لا يستثنى من حكم النميمة إلا ما كان المقصود منه دفع ضرر, وإبعاد شر, أو إيصال نفع وخير للغير, وهذه قد تكون واجبة وقد تكون مستحبة، قال ابن الملقن -رحمه الله-: "أما إذا كان فعلها نصيحة في ترك مفسدة, أو دفع ضرر، وإيصال خير يتعلق بالغير لم تكن محرمة ولا مكروهة، بل قد تكون واجبة أو مستحبة".

 

عبد الله: اعلم أن من بلِّغ الشر إليك كباغيه لك، وأن من نقل إليك النميمة اليوم فإنه غدا سينمُّ عليك، ولتعلم أن المسلم الحقيقي يُصلح ولا يفسد، ويقرب ولا يبعد، مهمته أن يجمع بين القلوب المتنافرة, والأفئدة المتناحرة, كلما استعرت فتنة سعى إلى إطفائها, وكلما أطلت آفة مضى في استئصالها, يمسك لسانه؛ فلا يقول إلا خيرا، ويَحفظ حسناته؛ فلا يُضيّع منها شيئا.

 

تنح عن النميمة واجتنبها *** فإن النمّ يحبط كل أجر

يثير أخو النميمة كل شر *** ويكشف للخلائق كل سر

ويقتل نفسه وسواه ظلماً *** وليس النم من أفعال حر

 

هذا وصلوا وسلموا على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه ...

 

المرفقات

من مفسدات القلب النميمة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات