الصدق

عبدالله بن عمر السحيباني

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/منزلة الصدق ومكانته 2/بعض فضائل الصدق وفوائده 3/وجوب الصدق وشدة الحاجة إليه 4/تفشي داء الكذب والخيانة وخطر ذلك 5/مراتب الكذب من حيث شدة الإثم

اقتباس

الصدق سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته. الصدق روح الأعمال، ومحك الأحوال، وأساس...

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آلعمران:102].

 

أيها المسلمون: لقد اتفق الخلق قديماً وحديثاً على خلق عظيم يعد من بدهيات الفطرة السليمة، جاءت الشرائع مقررة لهذا الخلق، وحاثة عليه، ومحذرة أشد التحذير من ضده، إنه خلق الصدق، الذي أمر به في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ)[التوبة:119].

 

وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقُه: (قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ)[المائدة:119].

 

بالصدق تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، َفِي الصَّحِيحَيْنِ: "ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًاً: إذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اُؤْتُمِنَ خَانَ".

 

الصدق سيف الله في أرضه الذي ما وضع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم ترد صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته.

 

الصدق روح الأعمال، ومحك الأحوال، وأساس الدين، وعمود فسطاط اليقين، ودرجته تالية لدرجة النبوة أعلى درجات العالمين: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النساء:69].

 

الصِّدْقُ -أيها المسلمون- أَسَاسُ الْحَسَنَاتِ وَجِمَاعُهَا، وَالْكَذِبُ أَسَاسُ السَّيِّئَاتِ وَنِظَامُهَا، قال النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًاً، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا".

 

الصدق -أيها الإخوة- تبرم به العهود الوثيقة، وتطمئن له القلوب على الحقيقة، فمن صدق في حديثه كان عند الله وعند الناس صادقا محبوبا، مقربا موثوقا، شهادته بر، وحكمه عدل، ومعاملته نفع، ومن صدق في عمله، بَعُد من الرياء والسمعة، صلاته وزكاته، وصومه وحجه، وعلمه ودعوته، لله وحده لا شريك له، لا يريد بإحسانه غشا ولا خديعة، ولا يطلب به من أحد من الناس جزاء ولا شكورا، يقول الحق ولو كان مُرًّا، لا تأخذه في الصدق مع الله لومة لائم، فصدقه في أقواله وأفعاله، هو مطابقة مظهره لمخبره، وتصديق فعله لقوله: (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا)[الإسراء:80].

 

الصّدقُ فضلٌ ونبلٌ ودَربٌ مضيء، ونَفسٌ سامية، وصاحبُه موفَّقٌ أبدًا لكلِّ خير.

 

وإذا الأمـور تـزاوجت *** فالصدق أكرمهـا نتاجا

الصدق يعقد فوق رأس *** حليفـه بالصدق تـاجا

والصدق يقدح زِندُهُ *** فـي كل ناحيـة سراجا

 

الصِّدق ليس نَافلة ولا خِيارًا، بل هو فريضةٌ على المسلم وسَجيةٌ للمؤمن، والذي يجِب أن يكونَ باطنه وظاهرُه سواءً في الصدق والوُضوح والطهارة والصفاء، ومعَ بساطة هذه الصفةِ وإجماعِ الخَلق عليها إلا أننا اليومَ أحوجُ ما نكون إلى التواصِي بالالتزام بها في خِضَمّ أزمة الأخلاق التي يعاني منها الكثيرُ لأسبابٍ يأتي في مقدمها ضعف الإيمان وضعفُ التربية والتهافتُ على الدنيا.

 

أيها المسلمون: إنكم ترون بأعينكم، كيف تأخر بنا الشوط، وسلب منا المجد، مع كثرتنا العددية على سطح الكرة الأرضية، وما ذاك إلا من قلة صدقنا، وفشوا جهلنا، والله يقول: (فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ)[محمد:21].

 

إن الكذب والخيانة، والطمع والخداع؛ آفات خطيرة إذا استشرت في مجتمع قتلت الثقة بين أفراده، كيف يعيش إنسان في مجتمع مليء بالكذبة، لا يثق بولد، ولا بوالد، ولا يثق بمسؤول أو موظف، ولا يثق بجار ولا قريب، تصوروا كيف تكون الحال حينئذ؟

 

إن تقدم المجتمع المسلم مرهون بشيوع الصدق بين أفراده، وانتشار الثقة بينهم، واضمحلال الكذب إلى أقصى حد ممكن، في تعاملاتهم وعباداتهم وإعلامهم ومدارسهم، وفي شؤون حياتهم كلها.

 

الكذب -يا عباد الله- صفةٌ دنيئة، وخلقٌ لئيم، وقد يكون للبخيل أو الجبان ما يعذره، لكن ليس للكذاب عذر، وما من شيء إذا فكَّرتَ فيه بأذهَبَ للمروءة والجمال وأبعَد بالبهاء منَ الرجال من الكذب، فالكذب جماعُ كلّ شرّ، وأصل كلّ ذنب، وصغيرُه يجرّ إلى كبيره، وقد قالت الحكماء: "مَنْ استحلى رَضاعَ الكذبِ عسُر فطامُه"؛ لذلك كان النبيّ -صلى الله عليه وسلم- يذمّه مهما كان يسيرًا، ويُنفِّر من الكذِب حتى على الصغار، عن عبد الله بن عامرٍ أنه قال: "دعَتني أمّي يومًا ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعدٌ في بيتنا، فقالت: ها تعالَ أعطيك؟ فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "وما أردْتِ أنْ تعطِيه؟" قالت: أُعطيهِ تمرًا، فقال لها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنَّكِ لوْ لم تعطِه شيئًا كُتِبَتْ عليكِ كذِبة" (رواه أبو داود بإسناد حسن).

 

فربوا أبناءكم -أيّها الإخوة- على الصدق، وكونوا لهم قدوة صالحة، فمن لزِم الصدقَ في صغَره كان له في الكبرِ ألْزَم، قال عبد الملك بن مروان لمعلم أولاده: "علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن".

 

عود لسانك قول الصدق تحظ به *** إن اللسان لما عودت معتاد

 

إنّه لا ينبغي التهاون في مبدأ الكذب حتى ولو كان للتسليَة أو المزاح، في الحديث: "ويلٌ للَّذي يحدِّثُ فيكذِبُ ليُضْحِكَ القوم، ويلٌ له، ويلٌ له".

 

 

الخطبة الثانية:

 

تتفاوت درجات الكذب في دنيا الناس بقدر ما يحدثه الكذب من خطر وضرر، فأعظم الكذب وأبشعه: الكذب على الله ورسوله، والقول على الله بغير علم، والجرأة على التحريم والتحليل: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ)[النحل:116].

 

يلي ذلك ما كان ضررُه عامًّا؛ كالكذب الذي يطال مصالحَ الأمة وقضاياها الكبار، أو يحدِث بلبلة في صفوف المجتمع، وينشر الفوضى، ويعدِم الثقةَ، ويُلبس الحقَّ بالباطل؛ سيّما مع وجودِ وسائل النشرِ والإعلام ووسائل الاتصال والتواصل.

 

لقد بلينا في هذا العصر بمصادر للمعلومات المغلوطة، والمليئة بالإشاعات الكاذبة،  فالصدق عزيز وسط هذا الرّكام، وإذا اختلطتِ الحقائقُ صار الناسُ على غير هدى، وقد رأى النبيُّ  عذابَ من ينشُر كِذبتَه فقال: "وأما الرجلُ الذي أتيتَ عليه يُشرْشَرُ شِدْقُه إلى قفاه ومِنْخَرُه إلى قفاه وعَينُه إلى قفاه؛ فإنّه الرجلُ يغدو من بَيتِه فيَكذِب الكذبة تبلغُ الآفاق" (رواه البخاري).

 

وربما جر الكذِب أنواعا من البلاء والضرر لا يعلمها إلا الله، وربما هدِمت بيوتٌ، وشتِّتَت أسر، أو أريقت دِماء؛ لأجلِ نقلٍ كاذب، أو وِشاية غادِرة.

 

وبكل حال: فإن الذين يفترون الكذب ويشيعونه في الناس هم عديمي الإيمان، وهم شرار الخلق عند الله: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ)[النحل:105].

 

المرفقات

الصدق

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات