صوارف العبد عن طريق الحق

علي عبد الرحمن الحذيفي

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/وعد الله حق للطائعين والعاصين 2/ أهم ما يصرِفُ العبدَ عن طريقِ الحقِّ 3/ الحذر من النفس الأمارة بالسوء واتباع الهوَى 4/ للشيطان مع ابن آدم سبعة أحوال 5/ خطورة حب الدنيا والرضا بها عن الآخرة 6/ كيف يتَّقِي العبدُ هذه الأعداء ويفوزَ برِضوان الله تعالى.

اقتباس

ووعدُ ربِّنا حقٌّ لا يتخلَّفُ منه شيءٌ، قال الله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 9]، وقال - عزَّ وجل -: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[آل عمران: 194].

 

الخطبة الأولى:

 

الحمدُ لله، الحمدُ لله بيدِه الخيرُ وهو على كل شيءٍ قدير، قائِمٌ على كل نفسٍ بما كسَبَت، يُوفِّي كلاًّ بما عمِل ولا يظلِمُ مِثقالَ ذرَّة (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 40]، أحمدُ ربي وأشكرُه على فضلِه الكبير.

 

وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليمُ الخبير، وأشهدُ أنَّ نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه البشيرُ النذير، والسِّراجُ المُنير، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ المبعُوث بالكتابِ المُنير، وعلى آله وصحابتِه الذين أعزَّ الله بهم الدِّين، وأذلَّ بهم الشِّركَ الحقير.

 

أما بعد: فاتَّقُوا اللهَ تعالى بالمُسارَعَة إلى الخيرات، ومُجانَبَة المُحرَّمات؛ تفُوزوا بأعلَى الدرجات، وتنجُو من المُهلِكات.

 

أيها المُسلمون: إن الله وعَدَكم وعدَ الحقِّ ولا خُلفَ لوعدِه، ولا مُعقِّبَ لحُكمه، وعَدَ عبادَه الطائِعِين بالحياة الطيبةِ في دُنياهم، ووعَدَهم بأحسن العاقِبَة في أُخراهم؛ يُحِلُّ عليهم رِضوانَه، ويُمتِّعهم بالنعيم المُقيم في جناتِ الخُلد مع النبيِّين والصالِحين الذين اتَّبَعُوا الصراطَ المُستقيم، قال الله -تعالى-: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ)[الأعراف: 96]، وقال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ)[المائدة: 65، 66].

أي: لو أنَّهم آمنُوا بالقرآن وعمِلُوا به، مع إيمانهم بكتابِهم من غير تحريفٍ له؛ لأحيَاهم الله حياةً طيبةً في الدنيا، وأدخلَهم الله جناتِ النعيم في الأُخرى.

 

وقال - سبحانه -، في ترغيب نوحٍ - عليه السلام - لقومِه: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)[نوح: 10- 12].

 

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله -تعالى- قال: من عادَى لي ولِيًّا فقد آذَنتُه بالحربِ، وما تقرَّبَ إلَيَّ عبدِي بشيءٍ أحبَّ إلَيَّ مما افترضتُه عليه، ولا يزالُ عبدِي يتقرَّبُ إلَيَّ بالنوافِلِ حتى أحِبَّه، فإذا أحبَبتُه كنتُ سمعَه الذي يسمَعُ به، وبصَرَه الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشِي بها، ولئِن سألَني لأُعطينَّه، ولئِن استعاذَني لأُعيذنَّه، وما تردَّدتُ عن شيءٍ أنا فاعِلُه تردُّدِي عن نفسِ المُؤمن يكرَه الموتَ، وأنا أكرَه مساءَتَه" (رواه البخاري).

 

والحديث يدُلُّ على أن الله تعالى بلُطفِه وكرمِه ورحمتِه وقُدرته يتولَّى أمورَ عباده الطائِعِين، ويُدبِّرُهم في أحسَن تدبيرِه في حياتهم وبعد مماتهم.

 

ووعدُ ربِّنا حقٌّ لا يتخلَّفُ منه شيءٌ، قال الله -تعالى-: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ) [آل عمران: 9]، وقال - عزَّ وجل -: (رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ)[آل عمران: 194].

 

ووعَدَهم الحقَّ في آخرتهم بقولِه تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[التوبة: 72].

 

والمُؤمنون يُشاهِدُون ما وعَدَهم ربُّهم في حياتهم الدُّنيا، ويتتابَعُ عليهم ثوابُ الله، وتتَّصِلُ به وتترادَفُ عليهم آلاءُ الله، كما قال تعالى: (فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)[آل عمران: 148].

 

وسيجِدُون في الآخرة الأجرَ الموعُودَ، والنعيمَ الممدُودَ، قال الله -سبحانه-: (أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ)[القصص: 61].

 

وكما وعَدَ الله المُؤمنين الطائِعِين، توعَّد الكفَّارَ الجاحِدِين والعُصاةَ المُتمرِّدين، وما أنذَرَهم به من العذابِ واقِعٌ بهم، قال - عزَّ وجل -: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد: 12]، وقال سبحانه: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[الجن: 23].

 

وحياتُهم في الدنيا أشقَى حياةٍ، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه: 124]، ولو أُعطُوا الدنيا فهم في شقاءٍ.

 

وقال تعالى: (فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ)[التوبة: 55].

 

وقد ابتُلِيَ الإنسانُ بما يصرِفُه عما ينفَعُه، ويُوقِعُه فيما يضُرُّه؛ ابتِلاءً وفتنةً تُثبِّطُ عن الطاعات، وتُزيِّنُ عن المعاصِي؛ ليعلَمَ الله من يُجاهِدُ نفسَه، ويُخالِفُ هواه، ممن يتَّبِعُ شيطانَه، وممن يُطيعُ هوَى نفسِه، فيُفاضِلُ الله بين المُهتَدين بالدرجات، ويُعاقِبُ أهلَ الأهواء الغاوِيَة بالدرَكَات، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ)[محمد: 31]، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)[العنكبوت: 69].

 

فالنفسُ من أعدَى الأعداء للإنسان، ولا يدخلُ الشيطانُ إلا من بابِها، قال تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ)[النجم: 23]، وقال تعالى: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الحشر: 9].

والنفسُ بما تتَّصِفُ به من الجهلِ والظُّلمِ تُبعِدُ صاحبَها عن التصديقِ بوعدِ الله، وتُثبِّطُه عن الاستِقامة، وتنحرِفُ بالإنسان عن الاعتِدال.

 

قال الإمام ابن القيِّم -رحمه الله تعالى-: "فمن عرَفَ حقيقةَ نفسِه وما طُبِعَت عليه، علِمَ أنها منبَعُ كل شرٍّ، ومأوَى كل سُوءٍ، وأن كل خيرٍ فيها ففضلٌ من الله مَنَّ به عليها لم يكُن منها، كما قال تعالى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا)[النور: 21]". اهـ.

 

ولا تسلَمُ النفسُ من الجهل إلا بالعملِ النافعِ الذي جاءت به الشريعةُ، ولا تسلَمُ من الظُّلم إلا بالعمل الصالح، ولا بُدَّ للمُسلم أن يرغَبَ إلى الله دائِمًا ويدعُوه لصلاحِ نفسِه.

 

عن زيدِ بن أرقَمَ - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهم آتِ نفسِي تقوَاها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها، أنت وليُّها ومولاها، اللهم إني أعوذُ بك من علمٍ لا ينفَع، ومن قلبٍ لا يخشَع، ومن نفسٍ لا تشبَع، ومن دعوةٍ لا يُستجابُ لها" (رواه مسلم).

 

وروى الترمذيُّ من حديث عِمران بن حُصَين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علَّمَ حُصَينًا كلمتَين يدعُو بهما: "اللهم ألهِمني رُشدِي، وأعِذني من شرِّ نفسِي".

 

فإذا لم تتزكَّ النفس وتتطهَّر بالعلم الشرعيِّ والعملِ الصالحِ، استولَى عليها الجهلُ والظُّلمُ، واتَّحَدَت مع الهوَى، فكذَّب صاحبُها بوَعد الله، واتَّبَع الشهوات، فتردَّى في درَكَات الخُسرانِ والعذابِ والهوانِ، وخسِرَ الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)[القصص: 50].

 

وإذا زُكِّيَت النفسُ وطُهِّرَت بالعلمِ النافعِ والعملِ الصالحِ، تحوَّلَت إلى نفسٍ مُصدِّقةٍ بوَعد الله، مُطمئنَّةٍ مُنيبةٍ إلى ربِّها، تُبشَّرُ بالكرامة عند الموت، قال تعالى: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي)[الفجر: 27- 30].

 

وقاطِعُ سُبُل الخير، والداعِي إلى كل معصِيةٍ وشرٍّ عدوُّ الإنسان الشيطانُ الرجيمُ، الرِّجسُ النَّجِسُ - نعوذُ بالله منه - جعلَه الله فتنةً للمُكلَّفين؛ من أطاعَه كان بأخبَثِ المنازِل، ومن عصَاه كان بأفضلِ المنازِل، لذَّتُه وسُرورُه ونعيمُه في الغوايَةِ والإفساد، يدعُو الإنسانَ إلى التكذيبِ بالوَعدِ والوعيدِ، ويُزيِّنُ له المُحرَّمات، ويصُدُّه عن الفرائِضِ والمُستحبَّات، ويعِدُه الأمانِيَ الباطِلَة، ويغُرُّه بالوسوسة الخبيثة.

 

قال الله تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 6]، وقال - سبحانه - عن إبليس أنه يخطُبُ أتباعَه في النار: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[إبراهيم: 22].

 

وللشيطانِ مع ابنِ آدم سبعةُ أحوالٍ: فهو يدعُوه إلى الكُفر - والعياذُ بالله -، فإن استجابَ الإنسانُ له، فقد بلغَ منه الشيطان الغايةَ، وضمَّه لحِزبِه الخاسِرين، وإن لم يستجِب للكُفر، دعاه للبِدعة؛ فإن نجَا من البِدعة بالاعتِصام بالسُّنَّة، والمُتابَعَة للكتابِ والسُّنَّة، دعاه للكبائِر وزيَّنَها له، وسوَّفَ له التوبةَ فتمادَى في الكبائِر حتى تغلِبَ عليه فيهلِك.

 

فإن لم يستجِب له في الكبائِر دعاه إلى صغائِر الذنوبِ ويُهوِّنُها عليه؛ حتى يُصِرَّ عليها، ويُكثِرَ منها، فتكون بالإصرار كبائِر، فيهلِك لمُجانَبَة التوبة.

 

فإن لم يستجِب له في الصغائِر دعاه إلى الاشتِغال بالمُباحَات عن الاستِكثار من الطاعات، وشغلَه بها عن التزوُّد والاجتِهاد لآخرتِه، فإن نجَا من هذه دعاه إلى الاشتِغال بالأعمال المفضُولَة عن الأعمال الفاضِلَة؛ ليُنقِضً ثوابَه في الآخرة؛ فإن الأعمالَ الصالحةَ تتفاضَلُ في ثوابِها، فإن لم يقدِر الشيطانُ على هذا كلِّه، سلَّط جُندَه وأتباعَه على المُؤمن بأنواع الأذَى والشرِّ.

 

ولا نجاةَ من شرِّ الشيطانِ إلا بمُداومَة الاستِعاذة بالله منه، ومُداومَة ذكرِ الله تعالى، والمُحافظَةِ على الصلواتِ جماعةً؛ فهي حِصنٌ وملاذٌ ونجاةٌ، وبالتوكُّل على الله، ومُداوَمَة جِهادِ الشيطان، والتحرُّز من ظُلم العباد، قال الله -تعالى-: (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[فصلت: 36].

 

ومما يصُدُّ عن الحقِّ والاستِقامة والخير: حُبُّ الدنيا والرِّضا بها من الآخرة، وجمعُها من حلالٍ وحرامٍ، والرُّكونُ إليها، ونِسيانُ الآخرة، قال الله -تعالى-: (إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)[يونس: 7، 8]، وقال تعالى: (أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ)[التوبة: 38].

 

والدُّنيا عدوَّةُ الإنسان، إذا استولَت على قلبِه فاشتغَلَ بها، وأعرضَ عن عمل الآخرة هلَكَ، وأكثرُ أهل الأرض آثَرُوا الدنيا، قال الله تعالى: (بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [الأعلى: 16، 17]، وقال تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ * الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ)[إبراهيم: 2، 3].

 

ولا نجاةَ من شرِّها وضرَرها، ولا وِقايةَ من سُوء أحوالِها إلا باكتِساب مالِها بالطُّرق المُباحَة المشرُوعة، وبالتمتُّع فيها بما أحلَّه الله من غير إسرافٍ، ومن غير بذَخٍ وتبذيرٍ، ومن غير استِعلاءٍ وتكبُّرٍ على الخلقِ، ومن غير فرَحٍ وبطَرٍ بها، ولا يستَطيلُ بقوَّته على حقوقِ العباد.

 

ولا بُدَّ أن يعلَمَ حقيقتَها، وأنها متاعُ الغُرور، سريعةُ الزوال، مُتقلِّبةُ الأحوال، وأن يتذكَّر هذه الحقيقةَ دائِمًا، فذلك صلاحُ قلبِه.

 

عن المُستورِد الفِهريِّ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما الدُّنيا في الآخرة إلا كما يجعلُ أحدُكم أصبعه في اليَمِّ، فلينظُر بِمَاذا يرجِع؟!"(رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجه، وابن حبان).

 

وأن يكون على وجَلٍ من شرِّها وعاقِبَتها، وأن يحذَرَ من أن يقول له الشيطانُ: إنما أعطاكَ ربُّك هذه الدنيا لفضلِك، ولعلمِك بوُجوهِ المكاسِبِ، كما غرَّ قارُونَ بهذا، فكانت عاقِبتُه ما قد علِمتُم.

 

وأمرٌ مُهمٌّ يجبُ عليه فيها: وهو أن يُؤدِّيَ حقَّ الله فيها، ويُؤدِّيَ فيها حقوقَ الخلق الواجِبَة، وهي: أداءُ الزكاة، والنَّفقةُ على الأهل والأولاد، والضَّيف، ومُساعَدةُ المُحتاجين، والنَّفقةُ في أبوابِ الخير بإخلاصٍ، بدون رِياءٍ ولا سُمعةٍ ولا طلَبِ محمَدَة؛ فالرِّياءُ يُفسِدُ العملَ.

 

وكان الصحابةُ الكبارُ لهم أموالٌ، وهم أزهَدُ الناس في الدُّنيا: قال أبو سُليمان: "كان عُثمان وعبدُ الرحمن بن عَوف خازِنَين من خُزَّان الله في أرضِه، يُنفِقَان في طاعتِه"، وكانت مُعاملتُهما لله بقلوبِهما.

وفي الحديثِ: "ازهَد في الدنيا يُحبَّك الله، وازهَد فيما عند الناس يُحبَّك الناسُ"(رواه ابن ماجه عن سهلِ بن سعدٍ).

 

والزُّهدُ فيما عند الناس: ألا يتعدَّى عليهم، ولا يظلِمَهم في حقوقِهم، ولا يتمنَّى زوالَ النِّعَم عنهم، وأن ييأَسَ مما في أيدِيهم، وألا يُزاحِمَهم في دُنياهم.

 

ومن أعظم الزُّهد المدُوح: ألا يُحبَّ الترفُّع في الدنيا، قال الله تعالى: (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[القصص: 83].

 

باركَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، ونفعَنا بهديِ سيِّد المُرسَلين وقولِه القَويم، أقولُ قولي هذا، وأستغفِرُ الله لي ولكم وللمسلمين، فاستغفِروه، إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله، الحمدُ لله لربِّي الحمدُ في الأُولى والأُخرى، له الأسماءُ الحُسنى، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له نصِفُه ونُثنِي عليه بصِفاتِه العُلى، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه المُصطفَى، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه الأتقِياء.

 

أما بعد: فاتَّقُوا الله حقَّ التقوى، وتمسَّكُوا بدينِه الأقوَى.

 

عباد الله: إن ربَّنا قال: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[فاطر: 5].

 

وفي الحديث: "الكيِّسُ من دانَ نفسَه وعمِلَ لما بعد الموت، والعاجِزُ من أتبَعَ نفسَه هواها وتمنَّى على الله الأمانِي".

 

وعن ابن عباسٍ مرفوعًا: "إن للمَلَك لَمَّةً بالقلبِ؛ فلَمَّةُ الملَك تصديقٌ بالوَعد، وتصديقٌ بالحقِّ، وإن للشيطانِ لَمَّةٌ بالقلبِ؛ فلَمَّةُ الشيطان تكذيبٌ بالوَعد، وتكذيبٌ بالحقِّ".

 

والمُسلمُ عليه أن يُحاسِبَ نفسَه، ويُقيمَها على الصراط المُستقيم، ويحذَرَ من كيدِ الشيطان، ومن هوَى نفسِه، ومن الاغتِرار بالدنيا؛ فإن متاعَها قليلٌ.

 

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56]، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".

فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين، وإمامِ المرسلين.

 

اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آلِ إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليما كثيرًا.

 

اللهم وارضَ عن الصحابةِ أجمعين، وعن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديِّين: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن بقيَّة الصحابةِ أجمعين، اللهم وارضَ عن التابِعِين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك وجُودِك يا رب العالمين.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذلَّ الكفرَ والكافرين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين، اللهم أذِلَّ البِدَع التي تُضادُّ دينَك الذي أرسَلتَ به نبيَّك محمدًا - صلى الله عليه وسلم -، اللهم أذِلَّ البِدَع إلى يوم الدين، اللهم أذِلَّها ولا ترفَع لها رايةً يا رب العالمين، وشتِّت شملَ المُبتدِعين الذين يُحادُّونك ويُحادُّون رسولَك - صلى الله عليه وسلم -، اللهم وأذِلَّهم إلى يوم الدين يا ذا الجلال والإكرام، يا شديدَ العقاب، يا سريعَ الحساب.

 

اللهم إنَّا نسألُك الهُدى والتُّقَى والعفافَ والغِنَى.

اللهم أحسن عاقِبتَنا في الأمورِ كلِّها، وأجرنا من خِزيِ الدنيا وعذابِ الآخرة.

اللهم اغفِر لموتانا وموتَى المُسلمين، اللهم اغفِر لموتانا وموتَى المُسلمين، اللهم نوِّر لهم في قبورَهم، وأفسِح لهم في قُبُورهم يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير، ضاعِف حسناتهم، وتجاوَز عن سيئاتهم.

 

ربَّنا اغفِر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلَنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّر لا إلهَ إلا أنت.

 

اللهم إنا نسألُك الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل، ونعوذُ بك من النار وما قرَّبَ إليها من قولٍ أو عمل.

 

اللهم أعِذنا وأعِذ ذريَّاتنا من إبليس وذريَّته وشياطينه وجنوده وأوليائِه يا رب العالمين، اللهم أعِذ المُسلمين من إبليس وشياطينه إنك على كل شيءٍ قدير.

 

اللهم أعِذنا من شُرور أنفسِنا، ومن سيِّئات أعمالِنا، اللهم أعِذ المُسلمين من شُرور أنفسِهم، وسيِّئات أعمالهم.

 

اللهم إنا نسألُك يا ذا الجلال والإكرام، نسألُك يا أرحم الراحمين الجنةَ وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ، ونعوذُ بك من النار وما قرَّبَ إليها من قولٍ وعملٍ.

 

اللهم وفِّق خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعَل عملَه في رِضاك يا رب العالمين، اللهم أعِنه على كل خيرٍ، اللهم انصُر به دينَك يا رب العالمين، اللهم ارزُقه الصحةَ والعافيةَ إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم وفِّق نائبَيه لما تُحبُّ وترضَى، ولما فيه الخيرُ للإسلام والمُسلمين.

 

اللهم احفَظ حُدودَنا، اللهم احفَظ حُدودَنا، واحفَظ أرضَنا يا رب العالمين، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم واحفَظ جنودَنا، اللهم وسدِّدهم إنك على كل شيء قدير.

 

اللهم ألِّف بين قلوبِ المُسلمين، اللهم أطفِئ الفتنَ، اللهم أطفِئ الفتنَ التي اشتعلَت في بلاد المُسلمين.

اللهم إنا نسألُك أن تنصُر المُسلمين في الشام، اللهم انصُرهم على القوم الظالمين، اللهم أنزِل بأسَك وعذابَك وغضبَك وسخطَك يا رب العالمين على الظالمين ففي الشام الذين ظلَمُوا المُسلمين، وعلى الظالمين في كل أرضٍ ظلَمُوا فيها المُسلمين واضطهَدُوهم في دينِهم، إنك على كل شيء قدير.

 

وشتِّت شملَ المُبتدِعين الذين يُحادُّونك ويُحادُّون رسولَك - صلى الله عليه وسلم -، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم أطفِئ فتنةَ اليمن، اللهم أطفِئ فتنةَ اليمن في عزٍّ للإسلام، اللهم أطفِئ فتنةَ اليمن في عافيةٍ للإسلام والمُسلمين يا رب العالمين.

 

اللهم اكسُ عارِيَ المُسلمين، وأمِّن خائِفَهم، وآوِ مُشرَّدَهم يا رب العالمين.

اللهم تولَّ أمرَ كل مُؤمنٍ ومؤمنة، وأمرَ كل مُسلمٍ ومُسلمة.

 

عبادَ الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل: 90].

 

وأقيمُوا الصلاةَ إن الصلاةَ كانت على المُؤمنين كتابًا موقُوتًا. وصلَّى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات