في ظلال قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع...) الآيات

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/الحكمة من الابتلاء 2/وقفات حول قوله تعالى: (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع...) الآيات

اقتباس

سنقف -بعون الله -تعالى- في هذه الجمعة مع قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ..)...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله: إنه لا يخفى عليكم ما نعيش فيه من فتن متلاحقة، فتن داخلية وفتن خارجية، يبتلي الله بها عباده ليُعرف المؤمن الصادق من غيره، وصاحبُ الإيمان الصحيح من مدعيه؛ لأن أيام النعمة والسراء على المؤمنين يدخل فيها بين صفوفهم من ليس منهم، فإذا جاءت الفتن والبلايا أخرجت الغبش وغربلت الصف فخرجت النخالة وبقي ما ينفع الناس، ذهب الخبث وبقي الذهب المصفى أكثر جلاء وصفاء، قال تعالى: (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ)[الرعد:17]، وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الحج:11].

 

وفي غزوة أحد حينما حصل فيها ما حصل من الجروح والقروح أنزل الله -تعالى- آيات فيها بيان لبعض الحكم والدروس العميقة مما حدث، قال تعالى: (وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ * أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ)[آل عمران:139-142].

 

إنها آيات عظيمة الوقع تنزل على القلب المجروح كالبلسم الشافي والدواء الكافي الذي لا يحتاج بعده إلى غيره.

 

أيها المسلمون: إن الله يبتلي بعض عباده بالفتن والمحن جزاء ما اقترفوه من ذنوب ومخالفات، فتكون تلك المصائب تأديباً لهم؛ لكي تردهم إلى الله، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم:41].

 

ومع هذا فإن بعض المسلمين لم يعرفوا هذه الحقيقة؛ فازداد المعرض إعراضاً والمجرم إجراماً، وضعيف الإيمان ضعفاً إلى ضعفه، ولحقه من اليأس والتعلق بالبشر شيء كثير.

 

هناك من الناس لم يعرف أن ما يجري إنما هو نتيجة حتمية من نتائج المعاصي التي طغت وفشت، ومن أعظم تلك المعاصي: إقصاء الشريعة الإسلامية عن إدارة حياة المسلمين، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ)[الأعراف:96].

 

في ظل هذه الفتن التي يتسع مداها ويمتد أذاها ويطول عناء الناس فيها يُطلب من الجميع أن يشارك في حل الأزمة، ومن أعظم حلولها: أن يتوب كل إنسان إلى ربه تعالى من ذنوبه ويدعو الله بالفرج؛ فإن كل إنسان لو رجع إلى نفسه بهذا لحلت الأزمة.

 

أيها الأحبة الأفاضل: إن من الحلول العظيمة: أن نرجع إلى القرآن الكريم فنقرأه بعناية وتفكر، ونسعى إلى العمل به بعد ذلك في واقعنا الخاص والعام.

 

وسنقف -بعون الله -تعالى- في هذه الجمعة مع قوله تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة:155-157].

 

هذه الآيات الكريمات تبين للناس بعض صور الابتلاء والاختبار من الله -تعالى- لعباده المسلمين في أمور حياتهم الدنيوية، وتكشف لهم أن رحمة الله تجلّت في كون الابتلاء في أمر الدنيا لا في أمر الدين، وفي كونه جزئياً لا كلياً، تناول اليسير من حاجات الدنيا ولم يتناول الكثير منها.

 

وتوضح هذه الآيات العظيمة حال المفلحين عند هجوم هذه المصائب عليهم، وتذكر الجزاء الحسن الذي نالوه جراء مواقفهم الصحيحة عند المصائب والمحن.

 

عباد الله: يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ ...)، جاءت هذه الجملة بعد أن قال تعالى للمسلمين قبلها: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ)[البقرة:151-154]. ثم قال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ).

 

فبين تعالى أن الإيمان المجرد لا يكفي حتى يظهر ويثبت بحصول الابتلاء الذي يرسخ التصديق واليقين، ويرفع الدرجات ويكفر السيئات، ويقوي عود الإيمان بعد حصول الصبر على صور البلاء. وقد ابتلي الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون فما زادهم ذلك إلا ثباتاً إلى ثباتهم ورفعة عند الله وعند خلقه.

 

ثم يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ...)، إن الله يبتلي عبده الصالح من المحن والمصائب بقدر إيمانه؛ ليحصل بذلك الغرض المقصود من الابتلاء. فلا يكون الابتلاء مُذهباً للإيمان، وقاضياً على الصلاح ولا على كل أسباب الحياة، بل ينزل من ذلك قدراً محدوداً؛ ولذلك قال تعالى هنا:(بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ...) ولم يقل: "بخوف"؛ فهذا دواء من الله ينيله عبده بقدر دائه. أما العقوبة لمن حاد الله ورسوله فهي شديدة؛ كما قال تعالى: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)[النحل112].

 

وفرق بين الإصابة بالخوف والجوع في هذه الآية وبين سابقتها.

 

أيها الفضلاء، ثم يقول تعالى: (..بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ..)، هذه أول صورة من صور الابتلاء، وهي أن يذهب الله بعض الأمن فيعيش الناس في قلق واضطراب وهلع، فيكون بذلك ذهاب جزء من نعمة الأمن التي هي من أعظم النعم؛ ولذلك يقول تعالى ممتناً على قريش؛ ليدعوهم بذلك إلى الإسلام: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)[قريش:1-4].

 

إن الأمن نعمة عظيمة تستجلب بها خيرات الدين والدنيا، وبذلك ندرك السر في ابتداء الحديث عن نقيضها في هذه الآية، وبعض الناس قد لا يدركها إلا إذا ذهبت، فما أفسح الدنيا بالأمن وما أضيقها بالخوف! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها"(رواه الترمذي والبخاري في الأدب المفرد، وهو صحيح).

 

ومن اهتمام الإسلام بهذه النعمة: أنه أمر بإقامة الحكم والعدل وشرع الحدود لردع الجناة الذين يقلقون السكينة في المجتمع.

 

الصورة الثانية من صور الابتلاء في هذه الآيات: الابتلاء بالجوع فقال: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ...)، إن الجوع عذاب على الأبدان يفقدها حيويتها ونشاطها، وقد يفقدها الحياة كلها؛ لأن الطعام والشراب قوام الحياة والحركة على هذه الدنيا. والابتلاء بالجوع له صور منها: انعدام الطعام والشراب وقد يكون ذلك بسبب الحروب أو ارتفاع الأسعار أو بانقطاع الغيث وحصول الجدب، أو بنزول جوائح على المأكل والمشرب. ومن صوره: قلته بسبب كثرة الآكلين وقلة المأكول الموجود، وبسبب ذهاب البركة.

 

ولأجل إذهاب هذه المصيبة أمر الإسلام بالاستقامة على الطاعة؛ لأنها سبب لحصول نعمة الطعام والشراب، قال تعالى: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ)[المائدة:66].

 

ولأجل إذهابها أيضاً: أمر بطلب الرزق ودفع الزكاة لأهلها وحث على الصدقات وإطعام الجائع، حتى ولو كان حيواناً، عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب ثم خرج فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ثم أمسكه بفيه فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، قالوا: يا رسول الله، وإن لنا في البهائم أجراً فقال: نعم، في كل ذات كبد رطبة أجر"(متفق عليه).

 

عباد الله: والصورة الثالثة من صور الابتلاء: نقصان الأموال، قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ..)، فالمال -أياً كان نقدياً أو عينياً - دم الحياة التي تجري به خاصة في عصرنا هذا، فالابتلاء بنقصانه مصيبة كبيرة تعرض من أصيب بها إلى شدائد ومضايق كثيرة، تؤثر على دنيا المرء ودينه، قال لقمان لابنه: "يا بني، اطلب المال الحلال؛ فإنه ما افتقر أحد إلا أصيب بثلاث خلال: رقة في دينه، وضعف في عقله، واحتقار الناس له".

 

فالابتلاء بنقصان المال قد يكون بسبب الكوارث أو الحوداث المذهبة للمال من احتراق أو ضياع أو تعدٍّ عليه، أو بخسارة تجارية فادحة، أو بمعاملة محرمة؛ كالربا والقمار والغش ونحو ذلك.

 

إن بعض الناس إذا أنعم الله عليه بالغنى نسي من أعطاه هذه النعمة فراح يزهو ويفخر، ويطغى في الأرض بها مرتكباً مساخط من أنعم عليه، محتقراً لمن لا يملك ما يملك، مع أنه قد يكون في ماضيه أشد بؤساً ممن يسخر به.

 

وحتى تحرس نعمة المال بلا ذهاب ولا نقصان: على المسلم أن يطلب المال من حله ويصرفه في حله، ويشكر الله على ما أنعم عليه، ويؤدي حق الله فيه ويحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه، قال تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إبراهيم7].

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين" وفي رواية: "ولا منع قوم الزكاة إلا حبس الله عنهم القطر"(رواه الطبراني ، وهو صحيح).

 

أيها المسلمون: الصورة الرابعة من صور الابتلاء: الابتلاء بنقص الأنفس، قال تعالى: (..وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ..)، إن الإنسان يسعد في عيشه بين أحبابه وخلانه من أقارب وأصدقاء، ويرجو دوام الحياة بذلك، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه، فقد تأتي المنية لتأخذ القريب والحبيب، إما بأمراض أو بحروب أو فجاءة من غير سبب ظاهر، فهذا نقصان الأنفس، والمؤمن أمام هذا الحادث القدري الذي لا يستطيع بذل سبب لمنعه لا يسعه إلا الصبر والاحتساب والرضا بقضاء الله وقدره، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا مات ولد العبد قال الله -تعالى- لملائكته: قبضتم ولد عبدي، فيقولون: نعم، فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي، فيقولون: حمدك واسترجع، فيقول الله -تعالى-: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد"(رواه الترمذي، وهو صحيح).

 

الصورة الخامسة من صور الابتلاء في هذه الآيات: الابتلاء بنقص الثمرات، قال تعالى:(وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ..)، لقد جعل الله رزق الإنسان في هذه الدنيا من ثمرات الأرض من خضروات وفواكه وبقوليات تنبت على الأرض بماء السماء، قال تعالى:(فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً * فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَائِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً * مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ)[عبس:24-32].

 

وهذه نعمة عظيمة، غير أن هذه النعمة قد لا تدوم، فقد تنقص بقلة نتاجها أو بفسادها وعدم صلاحية الأرض لزراعتها أو بقلة توافر أسباب زراعتها، أو بعسر الحصول عليها، وارتفاع أثمانها، بسبب الحروب وغياب المشتقات النفطية كما هو حاصل في بلادنا هذه الفترة.

 

نسأل الله أن يديم علينا النعم، ويذهب عنا النقم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الكريم الرحيم، العليم الحكيم، والصلاة والسلام على النبي الكريم وعلى آله وصحبه.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: لقد بين الله -تعالى- الموقف الصحيح الذي يجب أن يقفه المسلم في هذه الابتلاءات والمصائب، هذا الموقف هو: طاعة الله -تعالى-، ومن صورها: التسليم لقضاء الله وقدره بالصبر على ما حصل، وليس معنى الصبر ترك السعي إلى فعل الأسباب المشروعة لإزالة الأزمة، وإنما معنى الصبر هو عدم الجزع والتسخط على قدر الله. وما أحسن الحث على الصبر في هذه الابتلاءات بهذه الجملة العظيمة: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)، حيث تضمنت هذه الجملة الأمر بالصبر وزيادة بحصول البشارة للصابرين، ولم يذكر الله ما هي مفردات هذه البشارة؛ ليجعل العقل يذهب في تقديرها كل مذهب، فقد يكون التبشير لهم بحسن العوض وبحسن العاقبة، وكثرة الأجر، والسرور بلقاء الله يوم القيامة وقد صبروا على هذه المصائب. فكما أنه تعالى أبهم للتعظيم أجرهم في قوله: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ)[الزمر:10]. أبهم بشارتهم هنا أيضاً.

 

ومن صور طاعة الله في الآيات الماضية عند المصائب السابقة: أن المؤمنين بعد صبرهم يسترجعون فيقولون في قلوبهم وألسنتهم: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي: نحن مملوكون لله يتصرف فينا كيف يشاء وينزل بنا ما يريد فنحن عبيده وهو سيدنا العدل الرحيم. ونحن بالموت راجعون إليه وصائرون إلى ما أعد لعباده الصابرين على بلائه.

 

عباد الله: لقد ختم الله -تعالى- الآيات الكريمات بجوائز وعطايا لعباده الصابرين على هذه المحن فقال: (أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)[البقرة:157].

 

إنه ثواب جزيل وجزاء عظيم من الرب الكريم، ثلاث هدايا تشرئب لها الأعناق، الأولى: الثناء عليهم من الله -تعالى-، وكفى بها عطية سنية، والثانية: رحمة الله بهم، والثالثة: الهداية والتوفيق لما ينفعهم، ومن ذلك: التوفيق للاسترجاع والصبر.

 

فيا أيها المسلمون: رجوعاً إلى الله -تعالى-، وتوبة صادقة بين يديه، وشكراً لنعمه على عبده، ومرابطةً على حصون الطاعة تسلم بذلك النعم وتحفظ، وتندفع النقم وتزول، فإذا حصل البلاء فصبراً جميلاً فما أقرب الفرج وأدنى المخرج!

 

هذا وصلوا وسلموا على خير الورى...

المرفقات

في ظلال قوله تعالى (ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع...) الآيات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات