إرهاب الشوارع

عبد المحسن بن عبد الرحمن القاضي

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/إحصائيات حول الحوادث المرورية 2/أهمية الحديث عن الحوادث المرورية 3/من وسائل التقليل من الحوادث 4/رسالة هامة للشباب 5/عظم مسؤولية الآباء تجاه أبنائهم

اقتباس

أخي الشاب: رفقاً بقيادتك للسيارة.. رفقاً بأمٍ جاثية وأبٍ مشفق ينتظرونك عائداً وأنت لاهٍ بجوالٍ ومسرع.. ليست المهارةُ في السرعةِ والتفحيط ولكنَّ القيادَةَ في حُسنِ التَصرفِ والهدوءِ والرويّةِ وتجنّبِ الوقوعِ في المهالكِ...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله دل على الخير والرشاد، وحذَّر من الظلم والفَساد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ربُّ العباد وأشهدُ أن محمداً عبده ورسوله دلَّنا طريقَ السداد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأمجاد وسلم تسليماً إلى يومِ الحشر والمعاد..

 

أما بعدُ: فاتقُوا الله -أيُّها العباد-.

 

كان الإنسان يسافر شهراً على الإبل بعناء، فسخّر الله لنا اليوم مراكبَ، وسياراتٍ مريحةٍ سريعةٍ تقطعُ المسافاتِ بوقتٍ قصير،  في نعمٍ من الله بتهيئة ما نقضي به مصالحنا، وتخيَّل حالَك فقدْتَّ هذه النعمةَ؛ فللِّه وحدَه الحمدُ والشكر..

 

والسيارةُ وسيلةٌ مجلبةٌ للخير والنفع، وليست مفتاحَ شرٍّ أو مصدرَ قلقٍ وإزعاج أو أذى وضرر؛ فهي لم تُصَنَّعْ إلا لخدمةِ الإنسانِ ونفعهِ، وإذا أُحسنَ استعمالُها والتزمَ السائق بالطريقةِ المثلُى والنظام السليم في قيادتِها.

 

أيها الإخوة: جولةٌ بسيطةٌ في شوارعِنا لا تحتاجُ لعناءٍ لنعترف بالتقصير ولنجدَ مخالَفاتٍ مروريّة هائلة وحوادث مقلقة؛ فهذا مستخدمٌ للجوال أثناء القيادة، وذلك مُسرِعٌ -بل الأغلبيّة مُسرِعون-، وذلك مُعاكس للسّير، وهذا وقوف خاطِئ أو في وسط الطريق، وآخرُ مجرم قاطعٌ لإشارَة المرور، وأحدٌ لا يعرِفُ حرمةً لإشارات الوقوف، وهؤلاء مراهِقون يفحطّون، وآخرون مزعجون بأصوات سياراتهم التي غيّروا فيها وبدلوا ودراجات نارية مزعجة؛ فماذا أَنتجت لنا هذه التصرفات؟!

 

اسمعوا الأرقام التي لولا الله ثم نظام ساهر والضبط المروري لاستمرت بالارتفاع مع أنها لا زالت أرقام مهولة!!..

 

تقولُ الإحصاءات المرورية الأخيرة في بلدِنا: أن سبعة عشر إنساناً يموتُ، ومائة وخمسون مصاباً يومياً من الحوادث المرورية؛ أي في السنةِ يموتُ لدينا أكثرُ من ستة آلاف شخص والمصابون ستون ألفاً وخلالَ عشرِ سنواتٍ مضت توفي في الحوادث المرورية لدينا أكثرُ من ستين ألفاً، وأصيبَ حوالى أربعمائة ألف بإصاباتٍ أو إعاقاتٍ دائمة وتقدَّرُ الخسائرُ الماديةُ بحوالى العشرين مليار ريال.. ولدينا ثمانين ألف معاق من الحوادث!! إحصائيات تعدّت بأرقامها ضحايا حروبٍ بالعالم حتى بتنا من أعلى الدول في حوادث المرور.. وعالمياً يموت مليون ومائتين ألف سنوياً والمصابون أربعون مليوناً أكثرها في دول العالم الإسلامي مع الأسف، وأما لماذا أصبحت الحوادث لدينا أعلى النسب في العالم؟! فلأننا حتى الآن -صراحةً- لم نعطِ الموضوع أهميته بيوتاً وأُسراً ومساجد ومدارسا وإعلاما ونظاما.. أهم شيء عندنا نسلم للولد سيارة ثم لا نعلم عن ممارسته! تجد إعلامنا يتفرغ لأسابيع وأيام لقضية أقل أهمية أو يُثيرُ موقفاً ويركز عليه لكنه يغفل عن تناول هذه الحوادث المرورية وضحاياها بالآلاف عندنا والتوعية والتحذير عنها.. وكذلك في المدارس والمساجد بتقدير النظام والاهتمام به من الجميع!!

 

إنَّ إحصاءات الحوادث تُلِقي التبعةَ على مطبِقِّي النظام ليحزموا فيه، والواجب أن يتحدَّثَ الواعظُ والخطيبُ بها.. والغفلةُ عنها تُنذر بخطرٍ داهم، فهذه الدماء ليست هينة؛ فكم من عائِلة فقَدَت أبناءَها أو تيتَّم أولادها أو هم معاقون فقدوا البصر والأطراف، وآخرون دفنوا بباطن الأرض. لو كنا في معركة حربيّة أو وباء فتاك وكنا نفقد هذه الأعداد لكانت فاجعة، حرَّكَت همَّتنا لحلِّها ونحنُ لسنين نفقدُ عشَرات الألوف تحتَ حدِيدٍ لا يرحم!! أنفلونزا الطيور والكورونا وغيرها من الأوبئة اهتمَّ الإعلام بها، وضحاياها أفراد -كفانا الله شرها- بينما حوادث تُميتُ الآلاف، والحديثُ عنها قليلٌ، والنظامُ يطبَّقُ على استحياء وكلٌ بحسبه؛ فالحلُّ -إخوتي- أن نَبدأَ بأنفسنا فنخطّئها، ونلزمَ أنفسَنا باتباعِ قواعدِ المرور وتعليماتِه وهي واجباتِ مَنْ خالفَها فهو آثم، ويكبرُ الإثمُ بعِظَمِ الخطأ. أفتى بذلك العلماءُ؛ فالطرقُ مسالكُ الناسِ لشؤونِهم، وتعليماتُ المرور مبنيةٌ على دراساتٍ واحتياطاتٍ، ومخالفَتُها سببُ مصائب، والمسلمُ ينبغي أن يكفَّ أذاه عن الناسِ، وبعضُ السائقين يُؤذي غيره حين يقودُ بتهوّر أو يُجرمُ بقطعِ الإشارةِ؛ سواءٌ نتجَ عن هذا حادثٌ أو لا، وكذلك من بعكسِ اتجاهِ السير أو تغييّر صوت السيارة ليؤذي الناس، أومن وقفَ وقوفاً خاطئاً أو بمحل ذوي الإعاقة ومن يمارسُ التفحيط آذى نفسَه وغيرَه وإن ماتَ يعدُّه البعضُ منتحراً..

 

والإيذاء بالسيارة للناس سيئاتٌ تكتبُ على العبد؛ فالسكينةَ السكينةَ -يا صاحب السيارة-؛ فخطأٌ واحد يكلّفُ مآسي لا تندمل..كم فقدنا من شبابٍ وكبار ونساءٍ وصغار! أحزنُوا أسراً ويتَّموا أسراً ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله..

 

إن حجمَ حوادثِ السيرِ والقتلى عندنا يستدْعي منا بذلَ الجهد في تقليلِها وضبطِ نظامِها؛ فأجهزةُ المرور نريد منها مزيد جهدٍ وتوعيةٍ مع تطبيقٍ حازم للنظام للحدّ من هذا النزيف لحوادث السيارات، وإنزالِ العقوباتِ الصارمةِ والأنظمةِ القائمةِ، وتكثيف دوريات المراقبة..

 

البلديةُ مسؤولةٌ عن إصلاح الشوارعِ والإشاراتِ والطرق، ووضعِ السُبل الكفيلة للسلامة، ودورُ التعليمِ في توعية الطُلاب منذ صغرهم بقيادة السيارة وأدبها ونظامها!

 

الإعلامُ والمسجدُ والإمامُ والمثقف مشتركون معهم، والآباءُ مسؤولون عن إعطاء أبنائهم سيارات وهم دون السن القانونية، وعن معرفتهم بأساليب القيادة وضبط السيارة، وتصرفاتهم مع الحوادث ومراقبتهم، وكيف يفعلون بسياراتهم؟ كي لا يتورطوا بأذية غيرهم.. وهناك غفلةٌ كبيرة من الأسر عن أبنائهم مع السيارات والعبث بها، ولا يمنع -إخوتي- أن نصطحبَ أولادنا وتلاميذنا لقسمِ السلامةِ بجهاز المرور؛ لتعليمهم أساليب القيادة، أو دعوتهم لأحيائنا للتثقيف؛ فهم متعاونون ويُرحبونَ بكل ما من شأنه التوعية المرورية..

 

أخي الشاب: رفقاً بقيادتك للسيارة.. رفقاً بأمٍ جاثية وأبٍ مشفق ينتظرونك عائداً وأنت لاهٍ بجوالٍ ومسرع.. ليست المهارةُ في السرعةِ والتفحيط ولكنَّ القيادَةَ في حُسنِ التَصرفِ والهدوءِ والرويّةِ وتجنّبِ الوقوعِ في المهالكِ أو إيقاعِ الآخرين بها، والذوقُ يتجلّى في إكرامِ الآخرين حينما تتركُ حقَّك في العبور لغيرك؛ ليكونَ خلقاً لك.

 

ومن الأخلاق الوقوفُ الصحيح، وعدمُ الإقفالِ على الآخرين لاسيما في المساجد.. لو خرجنا الآن لرأينا كيف أقفلنا بسياراتنا على الناس ونحن جئنا للصلاة وطلب الأجر، قبل أسبوعين وقف أحدهم هنا بنصف الطريق بعد الصلاة ب 20 دقيقة وهو جالس بالمسجد يريد الأجر والناس يدعون عليه لتعطيله!! بعضُهم يُضيقُ الطريق أو يُغلقُ المكان على سيارةٍ أخرى، يريد القرب كيلا يمشي خطواتٍ بسيطة! هذا في المساجد فما بالكم بغيرها!

 

كم سببت السرعةِ وقطعُ الإشاراتِ وعدمُ تفقدِ السيارةِ والتهاونِ بإصلاحِها من مآسي وآثام؛ فالنفسُ إذا أُتلفتَ بالموت لحادثِ سيارة، وكان صاحبُها سبباً بموت غيره وحرمانِه من أهلهِ ومجتمعهِ منه، أو ترميلِ زوجتهِ وتيتيمِ أَولاده فقد أثم، وإن كان البعضُ قد استرخصُوا الدماءَ وأصبحت لا تهمُّهم ولا يأبهون لها؛ لأن قريبهم سيدفعُ الدية! فيبقى حقُّ الله الذي لا يمكن التنازلُ عنه بالاستهتارِ.. أليس مؤسفاً اعتيادُ التجمهر لمشاهدة الحوادث وتصويرها وقد يكون فيها نساء، ليس للعبرة وإنما للشهرة والحكاية، في ظاهرة تخلّفٍ واضحةٍ ولو طُلبَ من أحدهم مساعدة لما فعل..

 

من الخطرِ أيضاً عدمُ وجودِ إشاراتِ مرورِ في التقاطعاتِ الخطرة؛ ومحاولةُ إلغائِها بلا فائدة.. والاهتمامُ واجبٌ بأمنِ الطرق وضبطِ السرعات.. ثم نحرصُ بقيادتِنا على قراءةِ الأورادِ والأدعيةِ الحافظةِ لنا ولأولادنِا واللهُ خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين..

 

فاتقوا الله -عباد الله-، اعكسوا جمال الإسلام بتصرفاتكم؛ فنحنُ المسلمون أحقُّ بالأخلاقِ من غيرنا، ويا شباب: اهتمُّوا بقيادة السيارة وقدّروا نعمتها، كونوا شباباً تفخرُ الأُمةُ بكم وبأخلاقِكم.. كفى قتلاً لأنفسِكم وللناس كفى تهوراً!! أصبحَ الخارجُ منكم مفقودا، والداخلُ للبيتِ مولودا حوادثُ مفجعةٌ ومميتةٌ، لا يمر أسبوع إلا ونصلّي على جنازة جرّاء حادث.. سرعةٌ هائلة داخلَ الأحياء والمدن وخارجهَا، قطعٌ للإشارات، تفحيطٌ ينتهي بكارثة؛ فمن المستفيد من هذه الفوضى؟! أين عقولُكم؟! أليس بقلبِكُم رحمةٌ لآبائِكم وأمهاتِكم ممن تقطّعت قلوبُهم خوفاً عليكم ألا ترونَ من ماتَ منكم؟! ألا تخافونَ عقابَ الله حين يتعدَّى ضرُركم للغير؟! أخاطبُ عقولكم أخاطب شهامتَكم أخاطب نخوتَكم دعونا نعيش بسلام دعوا والديكم ينامون قريري العين..

 

فلنتكاتف -عباد الله- جميعاً لإيقاف إرهاب الشوارع ونزيفِ دمائها الذي أقضَّ مضاجعنا وقضى على شبابنا، نريدُ أنظمةً تُطبّق ولا يُتهاون بها فإننا نرى المسافر للخارج ملتزماً بالنظام ولا يتعدّاه وفي بلاده فوضى؟!

 

نسأل الله جلَّ وعلا أن يحفظ شبابنا من كل سوء، ويحمي شوارعنا من هدر الدماء، ويرحم موتانا ويشفي مرضانا ويصلحَ أحوالنا (جَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) [الزخرف:13].

 

أقول ما تسمعون..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

 

قال تعالى: (وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا * وَابْتَلُواْ اليَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ) [النساء:6] آية نَزلت في الوليِّ على اليتيم، لكنها تشملُ كلَّ الصبيان؛ فالعبرةُ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب؛ فالله يطلبُ منا عدم دفع أموالنا للسفهاء، والسفيهُ مَنْ لا يُحسنُ التصرَّفَ ولا شك أن السيارات من الأموال، ودفعهُا للصغار مخالفةٌ صريحة للقرآن؛ لأن السفيهَ لن يُحسنَ التصرَّفَ بالسيّارةِ غالباً؛ فعادته سرعةُ وتفحيطٌ وتهورٌ بالقيادة أو فقدانُ سيطرة على السيارة في المواقف المفاجئة أو إهمالُ السيارة؛ ليلحقَها أذىً وضرر، وبعضُ الآباءِ يستهترُ أو بداعي الحاجة يدفع بسياراته لابنه تحت إلحاح الولدِ أو أمّهِ،  ويتسبّبُ ذلك بمصائب أو مضايقات وإزعاج للناس، وأصبحت قيادةُ الصغار للسياراتِ ظاهرةً ملحوظة بدون التأكُّدِ من التزامِه بالنظامِ، وأن لديه حسن تصرّف، وليس المهمُّ اجتيازُ الابنِ اختباراتِ رجالِ المرور، ولكن الأهم كيف يتصرّفُ إذا جلسَ خلف عجلة القيادة، ويُقدِّرُ قيمةَ القيادة وخطورةَ التهورِ، ويحافظُ على نفسِه وعلى ممتلكاتِ الآخرين وأرواحهم، ولا يُؤذي غيره بتصرُّفِه مع السيارات.. والأبُ مسؤولٌ ولا يخاف الله إذا ضيّعَ الأمانةَ بإعطاء الصغار السيارات أو أهمله وسكت عن أخطائه تجاه الغير لتحدثَ المصيبةُ العظمى بالقتل في الشوارع والأمثلة موجودة..

 

فاتقوا الله -أيها الآباء-، أعينوا المسؤولين على حفظ شوارعنا آمنةً بلا إرهابِ القتل والإيذاء، وأوقعوا العقوبةَ على المخالف..

 

نسأل الله جل وعلا أن يحفظ شبابنا من كل سوء، ويحميَ شوارعنا من هدر الدماء، ويرحم موتانا ويشفي مرضانا ويصلح أحوالنا وأحوال المسلمين في كل مكان؛ إنه سميع مجيب.

 

وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المرفقات

إرهاب الشوارع

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات