بمناسبة مقدم الحاج وحث الناس على التوبة

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/الفرحة بعودة حجاج بيت الله الحرام 2/قد يدرك بعض المتخلفين عن الحج مثل ثواب من حج 3/أعياد المتقين دائمة 4/من كرمت عليه نفسه هان عليه ما يبذل لعتقها من النار

اقتباس

مَنْ كَرُمَتْ عليه نفسُه هان عليه كل ما يبذل في افتكاكها من النار، اشترى بعضُ السلفِ نفسَه من الله ثلاثَ مرار أو أربعًا يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضةً، واشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسَه من الله بديته ستَّ مرات، تصدق بها، واشترى حبيبٌ نفسَه من الله بأربعين ألف درهم تصدَّق بها...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى- في السر والجهر؛ فإن تقواه سبب لتفريج الكربات وتكفير السيئات ورفعة الدرجات.

 

واشكروه -سبحانه- على ما مَنَّ به عليكم من إدراك مواسم الخيرات.

 

معاشر المسلمين: في هذه الأيام يستقبل الناسُ حجاجَ بيت الله الحرام، بعد أن وضعوا عنهم التعبَ والنصبَ، وقد لاحت على وجوههم آثارُ الحج، ألا إنها متاعبُ ومصاعبُ يعقبها -بإذن الله- الفضل الكبير من الرحمن الرحيم.

 

فإنهم وفد الرحمن وحجاج بيته، أدَّوْا مناسكهم فوقفوا بعرفات فسكبوا فيها العَبَرَات وباحوا بالمكنونات، وكشفوا عن السوآت ثم انحدر بهم الشوق إلى المزدلفة فسكبت عند المشعر الحرام العبرات، فهنيئا لمن رُزِقُوا الوقوفَ بعرفة، وجأروا إلى الله بقلوب محترقة ودموع مستبقة، فلله كم من خائف أزعجه الخوفُ وأقلقه، ومحبّ ألهبه الشوقُ وأحرقه، وراجٍ أحسن الظنَّ بوعد الله وصدَّقه، وتائب نصح لله التوبة وصَدَقَه، كم من مستوجب للنار أنقذه الله وأعتقه، عشيةَ عرفةَ اطلع عليهم أرحمُ الرحماء، وباهى بجمعهم أهلَ السماء، ثم انصرفوا بصحائف بيضاء كيوم ولدتهم أمهاتهم، فهل رأيتُم -عباد الله- قطُّ عراةً أحسنَ من المحرمين، كلا والله؛ فإنها ثياب الوفادة على الرب الرحيم.

 

أيها المؤمنون: إن الحجاج سبقوا الناس إلى عمل عظيم يرجون من الله الثواب عليه، وأي ثواب هو؟ إنه المغفرةُ الظاهرة والباطنة، إنه البدء من جديد في صحائف الذنوب فقد أصبحت بيضاءَ نقيةً لا ذنبَ فيها، ولقد جعل اللهُ للمتخلفين عن الحج عِوَضًا عن ذلك وإن كان لا يبلغ ثواب الحج إلا أنه موسمٌ عظيمٌ، فطوبى لمن سابَق فيه، فما لا يُدْرَكُ كُله لا يترك جله، بل إن بعض المتخلفين قد يكون -باجتهاده- قد سبق بعض الحجاج المفرطين، الذين خرموا حجهم ببعض الذنوب، وقد يدرك البعضُ ثوابَ الحجاج ِ كلَّه؛ وذلك لنيته الجازمة وقد حبسه العذر عن اللحاق بركب الحجاج فهو على طريقهم تهطل دموعهُ، ويعتصر قلبه، وتذوب كبده، من فرط الأسى والحسرةِ على فوات الخيرات، ولئن قعد به عجزُهُ فلقد لحقهم بفؤاده ومشاعره، فهو يطوف معهم بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، ويبيت بمنى، ويقف بعرفات.

 

فلو رأيتَه يوم عرفة لظننتَه مع الناس في أرض عرفات، من حنينه وشوقه، ثم هو يدفع معهم إلى المزدلفة، ويدفع إلى منى، ويرمى جمرة العقبة، ويحلق رأسه وينحر هديه، كل ذلك بقلبه وقد ملأه الشوق إلى مشاعر مكة، هفا قلبُه إلى مغفرة ربه حتى ذاب وذبل من فرط الحزن والأسى، ولكن حبسه العذرُ من كِبَر أو مرض أو قلة نفقة، فوالله لقد شرك هذا وأمثاله الحجاجَ في الأجور بلا نقصان، وهذا من فضل الله الكريم المنان، (أخرج البخاري في صحيحه) من حديث أنس أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- لَمَّا رجع من غزوة تبوك فَدَنَا من المدينة قال: "إن بالمدينة أقوامًا ما سرتُم مسيرًا ولا قطعتم واديًا إلا كانوا معكم. قالوا: يا رسول الله، وهم بالمدينة؟! قال: وهم بالمدينة؛ حبسهم العذرُ"، ألا فلتقر أعينكم -أيها المتخلفون- بتلك النية والعزيمة؛ فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا.

 

عباد الله: لنستشعر تلك المواقف العظيمة التي مر بها حجاجُ بيتِ اللهِ، ومنها الوقوف بعرفة، فوالله ما قدَّر كثيرٌ من الناس حقَّ هذا الموقف العظيم، ولقد كان له عند سلف الأمة الشأن العظيم، كانت أحوال الصادقين في الموقف بعرفة تتنوع: فمنهم: مَنْ كان يغلب عليه الخوفُ أو الحياءُ‏. وقف مطرِّف بن عبد الله بن الشخير وبكر بن عبد الله المزني بعرفة فقال أحدهم: "اللهم لا تَرُدَّ أهلَ الموقف من أجلي"، وقال الآخر: "ما أشرفه من موقف وأرجاه لأهله لولا أني فيهم".

 

ووقف الفضيل بعرفة والناس يدعون وهو يبكي بكاء الثكلى المحترقة، قد حال البكاء بينه وبين الدعاء، فلما كادت الشمس أن تغرب رفَع رأسَه إلى السماء وقال: "واسوأتاه منك وإن عفوتَ". وقال الفضيل أيضًا لشُعيب بن حرب بالموسم: "إن كنتَ تظنُّ أنه شهد الموقفَ أحد شرًّا مني ومنكَ فبئس ما ظننتَ". ودعا بعضُ العارفينَ بعرفة فقال: "اللهم إن كنتَ لم تقبل حَجِّي وتعبي ونصبي فلا تحرمني أجرَ المصيبة على ترككَ القبولَ مني". وقف بعض الخائفين بعرفة إلى أن قرب غروب الشمس فنادى: "الأمان فقد دنا الانصراف".

 

ومن الحجاج مَنْ بالموقف يتعلق بأذيال الرجاء قال ابن المبارك: "جئتُ إلى سفيان الثوري عشيةَ عرفةَ وهو جاثٍ على ركبتيه وعيناه تهملانِ فقلتُ له: مَنْ أسوأ هذا الجمع حالًا؟ قال: الذي يظن أن الله لا يغفر لهم". وروي عن الفضيل أنه نظر إلى تسبيح الناس وبكائهم عشيةَ عرفة فقال: "أرأيتُم لو أن هؤلاء ساروا إلى رجل فسألوا دانقًا -يعني سدس درهم- أكان يردهم قالوا: لا، قال: واللهِ لَلمغفرة عند الله أهونُ من إجابة رجل لهم بدانق".

 

وإني لَأدعو اللهَ أطلبُ عفوَه *** واعلمُ أنَّ الله يعفو ويغفر

لَئِنْ أَعْظَمَ الناسُ الذنوبَ فإنها *** وإن عظمت في رحمة الله تصغر

 

اللهم بلِّغ الحجاجَ ما يرومون من حجهم، وتقبل منا ومنهم يا كريم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

الحمد لله رب العالمين...

 

أما بعد: فيا أيها الناس أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- فمن اتقى الله وقاه، ومن أقرضه جازاه، ومن شكره فمِن وافرِ نِعَمه أعطاه -سبحانه- وهو الكريم المنان.

 

عباد الله: إن أعياد الناس تنقضي، أما أعياد المتقين فدائمة، قال الحسن البصري: كلّ يوم لا تعصي اللهَ فيه فهو لكَ عيدٌ.

 

فيا من حججتَ بيتَ الله وعدتَ بصحائف بِيض كاللبن الصافي، إياكَ أن تُدَنِّسَ صحائفك بسواد الذنوب، ويا من تخلفتَ عن هذا الموسم العظيم، إنَّ لكَ بدائلَ عظيمة فلا تُفوِّتِ الفرصةَ مرة أخرى، ومن أعظم الفرص أن تتأمل ما فاز به الحجاجُ فتحاول اللحاقَ بهم، وطريقة اللحاق بهم هي التوبة والرجوع إلى الله، فإن التوبة الصادقة تمحو الذنوب وتُبَيِّض القلوبَ، وباب التوبة مفتوح لا يُغلق إلا بخروج الروح أو طلوع الشمس من مغربها، (أخرج الإمام أحمد في مسنده) من حديث معاوية قال صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها".

 

وقال الإمام الشعبي -رحمه الله-: "التائب من الذنب كمن لا ذنب له"، ويقول تعالى: (إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)[الْبَقَرَةِ: 222].

 

ويقول جل وعلا: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)[الزُّمَرِ: 53]، وأعظم من هذا أن التائب يُبَدِّلُ اللهُ سيئاتِه إلى حسنات، (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[الْفُرْقَانِ: 70].

 

يا من يطمع في العتق من النار ثم يمنع نفسَه الرحمةَ بالإصرار على كبائر الإثم والأوزار، تالله نصحت نفسك ولا وقف في طريقك غيرك تُوبِقُ نفسَكَ بالمعاصي فإذا حُرمت المغفرة قلتَ: أنى هذا؟ قل هو من عند أنفسكم:

 

فنفسَكَ لُمْ ولا تَلُمِ المطايا *** ومُتْ كَمَدًا فليس لكَ اعتذارُ

 

إن كنتَ تطمع في العتق فاشتر نفسك من الله، (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)[التَّوْبَةِ: 111].

 

مَنْ كَرُمَتْ عليه نفسُه هان عليه كل ما يبذل في افتكاكها من النار، اشترى بعضُ السلفِ نفسَه من الله ثلاثَ مرار أو أربعًا يتصدق كل مرة بوزن نفسه فضةً، واشترى عامر بن عبد الله بن الزبير نفسَه من الله بديته ستَّ مرات، تصدق بها، واشترى حبيبٌ نفسَه من الله بأربعين ألف درهم تصدَّق بها، وكان أبو هريرة يُسَبِّح كلَّ يوم اثني عشر ألف تسبيحة بقدر ديته يَفْتَكُّ بذلك نفسَه.

 

قال ابن القيم: "وله -يعني التائب- فرحةٌ أخرى عظيمةُ الوقعِ عجيبةُ الشأنِ؛ وهي الفرحة التي تُحَصَّل له بالتوبة؛ فإن لها فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة، فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها يزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافًا مضاعفةً لَبَادَرَ إليها أعظمَ من مبادرته إلى لذة المعصية، وسرُّ هذا الفرح إنما يعلمه مَنْ عَلِمَ سِرَّ فرح الرب -تعالى- بتوبة عبده أشدَّ فرحٍ يُقَدَّر، ولقد ضرب له رسولُ مثلا ليس في أنواع الفرح في الدنيا أعظم منه؛ وهو فرح رجل قد خرج براحلته التي عليها طعامه وشرابه في سفر ففقدها في أرض دوية مهلكة فاجتهد في طلبها فلم يجدها فيئس منها فجلس ينتظر الموت حتى إذا طلع البدر رأى في ضوئه راحلتَه وقد تعلق زمامها بشجر فقال من شدة فرحه: اللهم أنتَ عبدي وأنا ربكَ؛ أخطأ من شدة الفرح، فالله أفرح بتوبة عبده من هذا براحلته، فلا ينكر أن يحصل للتائب نصيب وافر من الفرح بالتوبة، ولكن هاهنا أمر يجب التنبيه عليه؛ وهو: أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحات ومضض ومحن، لا تثبت لها الجبال، فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح، وإن ضعف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء". اهـ

 

معاشرَ المسلمينَ: إن التوبة واجبة على جميع المسلمين، قال تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[النُّورِ: 31]، وكل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، (أخرج مسلم في صحيحه) من حديث أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: "لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولَجَاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم".

 

جاء في بعض الآثار أن رجلا أطاع الله عشرين عاما، وعصى الله عشرين عاما، وإنه اطلع يوما في المرآة فرأى في وجهه الشيبَ فساءه ذلك، فندم وقال: "يا رب، إن تبتُ إليكَ فهل تقبلني؟ فنودي: أطعتَنا فشكرناكَ، وتركتَنا فتركناكَ، وعصيتَنا فأمهلناكَ، وإن عدتَ إلينا قبلناكَ".

 

أيها المؤمنون: الرجوعَ الرجوعَ إلى الله الكريم المنَّان قبل فوات الأوان، فالعمر قصير ولا يتسع للَّعب والعبث، ولنعلم أن الإصرار على المعاصي لا يليق بالشباب فكيف بمن شاب في الإسلام؟!

 

اللهم وَفِّقْنَا لهداك، واجعل عملنا في رضاك يا رب العالمين، ربنا اغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، ربنا اكشف اللأواء والبلاء عن إخواننا المسلمين في كل مكان، اللهم عليك بأعداء الملة والدين.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، ربنا لا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا...

المرفقات

بمناسبة مقدم الحاج وحث الناس على التوبة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات