أبو ذر الصادق الأواب!

عبدالله بن محمد العسكر

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/نبذة عن أبي ذر في الجاهلية والإسلام 2/أبرز ملامح شخصية أبي ذر 3/مواقف لأبي ذر مع النبي -صلى الله عليه وسلم- 4/عبرة وعظة في ساعاته الأخيرة

اقتباس

إن الخلافَ في الرأي والنصحَ للولاة لا يعني الخروجَ عليهم أو منابذتَهم بالسيف، وإنما هو أمر نَدَبَ إليه الشرعُ وحثَّ عليه، وفي المقابل فإنه لا يجوز أن يُرمى الناصحون بأنهم خوارج على الولاة لنصحهم إياهم بشرط أن يكون ذلك النصح وَفْقَ القواعد والضوابط الشرعية...

الخطبة الأولى:

 

دمعةُ الزهدِ فوقَ خدكَ خَرْسَا *** ووجيبُ الفؤادِ يُحدث جَرْسَا

أنتَ مَنْ أنتَ يا مُحِبُّ؟ وماذا *** في حناياك؟ هل تحملتَ مَسَّا؟

شامةُ الزهدِ في مُحيَّاكَ صارت *** قصةً تَطمسُ الحكاياتِ طَمْسَا!

 

إنه أبو ذر، جُندُب بنُ جُنادةَ الغفاريُّ، أحد كبار أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن السابقين الأولين دخولا في الإسلام؛ فقد كان خامسَ رجلٍ دخل في دين الله.

 

قال عنه الذهبي: "وكان رأسا في الزهد والصدق والعلم والعمل، قوَّالًا بالحق لا تأخذه في الله لومة لائم".

 

كان رضي الله عنه نحيفًا طويلًا أسمرَ البشرة أبيض الرأس واللحية.

 

حال أبي ذر الغفاري في الجاهلية: وُلِدَ أبو ذر -رضي الله عنه- في قبيلة غفار بين مكة والمدينة، وقد اشتُهرت هذه القبيلة بالسطو على الحجاج والمسافرين وأَخْذ متاعهم، وكان أبو ذَرّ -رضي الله عنه- كحال قومه يقطع الطريق ويسرق المسافرين، وكان شجاعًا مِقْدَامًا غيرَ هيَّاب! وربما هجم على القافلة منفردًا على ظهر فرسه أو على قدميه كأنه السَّبُع الضاري فيأخذ ما شاء، ويعود أدراجه لم يُمسّ بسوء!
إسلام أبي ذر وقبيلته: في (صحيح البخاري) عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: "قال أبو ذر -رضي الله عنه-: كنت رجلًا من غفار، فبلغنا أن رجلًا قد خرج بمكة يزعم أنه نبيّ، فقلتُ لأخي: انْطَلِقْ إلى هذا الرجل كلِّمه وَأْتني بخبره. فانطلق فلقيه، ثم رجع فقلتُ: ما عندكَ؟ فقال: والله لقد رأيتُ رجلًا يأمر بالخير، وينهى عن الشر. فقلتُ له: لم تشفني من الخبر. فأخذتُ جرابًا وعصًا، ثم أقبلتُ إلى مكة فجعلتُ لا أعرفه، وأكره أن أسأل عنه، وأشرب من ماء زمزم".

 

وفي (رواية مسلم)؛ "وَقَدْ لَبِثْتُ مَا بَيْنَ ثَلَاثِينَ مِنْ لَيْلَةٍ وَيَوْمٍ مَا لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، وَمَا وَجَدْتُ عَلَى كَبِدِي سُخْفَةَ جُوعٍ"، إلى أن قال: "وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى اسْتَلَمَ الْحَجَرَ، ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ هُوَ وَصَاحِبُهُ، ثُمَّ صَلَّى، فَقَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَامِ، قَالَ: وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟، فَقُلْتُ: مِنْ غِفَارٍ، قَالَ: فَأَهْوَى بِيَدِهِ، وَوَضَعَ أَصَابِعَهُ عَلَى جَبْهَتِهِ، فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: كَرِهَ أَنِّي انْتَمَيْتُ إِلَى غِفَارٍ، قَالَ: ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، وَقَالَ: مُذْ مَتَى كُنْتَ هَاهُنَا؟، قَالَ: كُنْتُ هَاهُنَا مِنْ ثَلَاثِينَ بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، قَالَ: فَمَنْ كَانَ يُطْعِمُكَ؟ قُلْتُ: مَا كَانَ لِي طَعَامٌ إِلَّا مَاءُ زَمْزَمَ، فَسَمِنْتُ حَتَّى تَكَسَّرَتْ عُكَنُ بَطْنِي، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّهَا مُبَارَكَةٌ، إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ. فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ائْذَنْ لِي فِي طَعَامِهِ اللَّيْلَةَ، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبُو بَكْرٍ فَانْطَلَقْتُ مَعَهُمَا، فَفَتَحَ أَبُو بَكْرٍ بَابًا، فَجَعَلَ يَقْبِضُ لَنَا مِنْ زَبِيبِ الطَّائِفِ، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ طَعَامٍ أَكَلْتُهُ بِهَا، ثُمَّ غَبَرْتُ مَا غَبَرْتُ -أي: غبتُ عنه مدة من الزمن-، ثُمَّ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ وُجِّهَتْ لِي أَرْضٌ ذَاتُ نَخْلٍ مَا أُرَاهَا إِلَّا يَثْرِبَ، فَهَلْ أَنْتَ مُبَلِّغٌ عَنِّي قَوْمَكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُمُ بِكَ وَيَأْجُرَكَ فِيهِمْ؟ قَالَ: فَانْطَلَقْتُ فَلَقِيتُ أُنَيْسًا -يعني أخاه-، فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ؟ قُلْتُ: صَنَعْتُ أَنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، قَالَ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكِ، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، قَالَ: فَأَتَيْنَا أُمَّنَا، فَقَالَتْ: مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْ دِينِكُمَا، فَإِنِّي قَدْ أَسْلَمْتُ وَصَدَّقْتُ، فَاحْتَمَلْنَا حَتَّى أَتَيْنَا قَوْمَنَا غِفَارًا فَأَسْلَمَ نِصْفُهُمْ وَكَانَ يَؤُمُّهُمْ إِيمَاءُ بْنُ رَحَضَةَ وَكَانَ سَيِّدَهُمْ، وَقَالَ نِصْفُهُمْ: إِذَا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ أَسْلَمْنَا، فَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَدِينَةَ أَسْلَمَ نِصْفُهُمُ الْبَاقِي وَجَاءَتْ أَسْلَمُ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِخْوَانُنَا نُسْلِمُ عَلَى الَّذِي أَسْلَمُوا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: غِفَارٌ غَفَرَ اللَّهُ لَهَا، وَأَسْلَمُ سَالَمَهَا اللَّهُ".

 

أبرز ملامح شخصية أبي ذر: الزهد في الدنيا والتخفف منها: قيل لأبي ذرٍّ -رضي الله عنه-: ألا تتخذ أرضًا كما اتخذ طلحة والزبير؟ فقال: "وما أصنع بأن أكون أميرًا، وإنما يكفيني كلَّ يوم شربةٌ من ماء أو نبيذ أو لبن، وفي الجمعة قَفِيزٌ من قمح".

 

ويبيِّن رضي الله عنه ميزانيته وسياسته المالية فيقول: "كان قُوتِي على عهد رسول الله صاعًا من التمر، فلست بزائدٍ عليه حتى ألقى الله -تعالى-!".

 

مكوِّنات بيت أبي ذر: دخل عليه رجلٌ ذات مرة، فجعل يقلِّب الطرفَ في بيته، فلم يجد فيه متاعًا، فقال: يا أبا ذر، أين متاعكم؟ فقال: "لنا بيت هناك، نُرسل إليه صالحَ متاعنا!". ففهم الرجل مرادَه، وأنه إنما يعني الدار الآخرة، فقال: ولكن لا بدَّ لكَ من متاع ما دمتَ في هذه الدار، فأجاب: "ولكن صاحب المنزل لا يدعنا فيه!".

 

ومن جملة نصائحه للناس قوله: "حُجُّوا حجةً لعظائم الأمور، وصوموا يومًا شديد الحَرّ لطول يوم النشور، وصلُّوا ركعتين في سوداء الليل لوحشة القبور".

 

صدق اللهجة والجرأة في قول الحق: من أبرز صفات أبي ذر صِدْقُ لهجته، وعدم مداهنته في الحق، شهد له بذلك الصادقُ المصدوقُ -صلى الله عليه وسلم- كما في السلسلة الصحيحة عن أبي ذَرّ -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله: "ما تُقلّ الغبراء -وهي الأرض-، ولا تُظِلّ الخضراءُ -وهي السماء- على ذي لهجة أصدق وأوفى من أبي ذَرّ، شبيهِ عيسى ابن مريم! فاعرفوا له". أي: فاعرفوا له حقّه وقدره.

 

الله أكبر، شبيهُ عيسى نبيِّ الله وأحدُ أولي العزم من الرسل؟! يا له من شرف عظيم ومجدٍ أثيل!

 

إعلان إسلامه في قريش: ومما يدلّ على جرأته في الحق وأنه لا يهاب في الله لومة لائم ما كان من خبر إعلان إسلامه، فإنه لما التقى بالنبي -صلى الله عليه وسلم- أولَ مرة في مكة –على ما ذكرنا سَلَفًا– وعرض عليه الإسلام وأسلم قال له صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذَرّ، اكتم هذا الأمرَ، وارجع إلى بلدكَ، فإذا بلغكَ ظهورُنا فَأَقْبِلْ". يقول أبو ذر: "فقلتُ: والذي بعثك بالحق لأصرخَنَّ بها بين أظهرهم!"، فجاء إلى المسجد وقريشٌ فيه. قال أبو ذر: فقلتُ: "يا معشر قريش، إني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فقاموا فضُربتُ لأموت، فأدركني العباس فأكبَّ عليَّ، ثم أقبل عليهم فقال: ويلكم! تقتلون رجلًا من غفار، ومتجركم وممركم على غفار. فأقلَعوا عني، فلما أن أصبحتُ الغدَ رجعتُ فقلتُ مثل ما قلتُ بالأمس، فقالوا: قوموا إلى هذا الصابئ. فَصُنِعَ بي مثلُ ما صُنِعَ بالأمس، وأدركني العباسُ فأكبَّ عليَّ، وقال مثل مقالته بالأمس" (رواه البخاري).

 

علاقته برسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كان أبو ذر ملازمًا لرسول الله يخدمه طول يومه، فإذا جنَّ الليلُ ذهَب إلى بيته الذي لم يكن سوى المسجد! فلا بيتَ لأبي ذر إلا مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولئن فاتت أبا ذرٍّ الدنيا فقد ربح صحبة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويا له من ربح عظيم!

 

ولقد كان عليه الصلاة والسلام يبتدئ أبا ذرٍ إذا حضر ويتفقده إذا غاب!

 

وقد نال أبو ذر -بسبب ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم- خيرا عظيما؛ فكان يستقي من ينبوع توجيهاته، ويرتشف من نمير وصاياه، ويستظِلّ بظلال عطفه وعنايته.

 

وكانت توجيهاته -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر منهجا متكاملا في التربية، فمرةً يعظه بالترغيب، ومرةً بالترهيب، وثالثةً بدعوته للتأمل، ورابعةً بفتوى، وخامسة بتقويم لسلوكه وهكذا.

 

ولو أدرتَ أناملك بين محركات البحث الإلكتروني في كتب السنة وكتبت عبارة: (يا أبا ذر) لانهالت عليك أحاديثُ كثيرةٌ من توجيهاته -صلى الله عليه وسلم- لصاحبه أبي ذر. فَمِنْ ذلك:

 

ما (رواه أبو داود، وصححه الألباني) عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال أبو ذر: يا رسول الله، ذهب أصحاب الدثور بالأجور؛ يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم، ولهم فضولُ أموالٍ يتصدقون بها وليس لنا مال نتصدق به! فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر، ألا أعلمك كلمات تدرك بهن مَنْ سبقك ولا يلحقك مَن خلفَك إلا من أخذ بمثل عملك؟". قال: بلى يا رسول الله. قال: "تكبر الله -عز وجل- دبرَ كل صلاة ثلاثا وثلاثين، وتحمده ثلاثا وثلاثين، وتسبحه ثلاثا وثلاثين، وتختمها بلا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، غفرت له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر".

 

وفي (سنن أبي داود) أيضا وصححه الألباني، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر أنه قال: يا رسول الله، الرجل يحب القومَ ولا يستطيع أن يعمل كعملهم. قال: "أنتَ يا أبا ذر مع من أحببت". قال: فإني أحب اللهَ ورسولَه. قال: "فإنك مع مَنْ أحببتَ". قال: فأعادها أبو ذر، فأعادها رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. وما (رواه أحمد) وصححه الألباني عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: أمرني خليلي -صلى الله عليه وسلم- بسبع: أمرني بحب المساكين، والدنو منهم، وأمرني أن أنظر إلى مَنْ هو دوني، ولا أنظر إلى مَنْ هو فوقي، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت، وأمرني ألَّا أسأل أحدًا شيئًا، وأمرني أن أقول بالحق وإن كان مُرًّا، وأمرني ألَّا أخاف في الله لومة لائم، وأمرني أن أُكْثِرَ من قول: (لا حول ولا قوة إلا بالله)، فإنهن من كنز تحت العرش".

 

وروى (الإمام أحمد في مسنده) عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاتينِ تنتطحانِ فقال: "يا أبا ذر، هل تدري فيم تنتطحان؟" قال: لا، قال: "لكن الله يدري وسيقضي بينهما".

 

وإذا حادَ أبو ذر عن الطريق أدَّبَه -صلى الله عليه وسلم- بأدب ربما يستلزم شيئًا من القسوة، لكنها قسوة المحب الشفيق.

 

(في صحيح البخاري) عن أبي ذر قال: إني ساببتُ رجلًا فعيرتُه بأمه فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر، أعيّرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خَوَلكم، جعلهم الله تحتَ أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليُطعمه مما يأكل وليُلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم".

 

ليلة مقمرة مع رسول الله: يحدثنا أبو ذر عن ليلة مقمرة بديعة جميلة قضاها مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْشِي وَحْدَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ، قَالَ: فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، قَالَ: فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ فَالْتَفَتَ فَرَآنِي فَقَالَ: "مَنْ هَذَا؟". قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ، جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ. قَالَ: "يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَالَهْ" قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً فَقَالَ: "إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمْ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللَّهُ خَيْرًا فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ وَعَمِلَ فِيهِ خَيْرًا". قَالَ: فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً فَقَالَ لِي: "اجْلِسْ هَا هُنَا"، قَالَ: فَأَجْلَسَنِي فِي قَاعٍ حَوْلَهُ حِجَارَةٌ فَقَالَ لِي: "اجْلِسْ هَا هُنَا حَتَّى أَرْجِعَ إِلَيْكَ". قَالَ: فَانْطَلَقَ فِي الْحَرَّةِ حَتَّى لَا أَرَاهُ، فَلَبِثَ عَنِّي فَأَطَالَ اللُّبْثَ، ثُمَّ إِنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ مُقْبِلٌ وَهُوَ يَقُولُ: "وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟"، قَالَ: فَلَمَّا جَاءَ لَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، -جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ- مَنْ تُكَلِّمُ فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ مَا سَمِعْتُ أَحَدًا يَرْجِعُ إِلَيْكَ شَيْئًا؟ قَالَ: "ذَلِكَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَرَضَ لِي فِي جَانِبِ الْحَرَّةِ قَالَ: بَشِّرْ أُمَّتَكَ أَنَّهُ مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: قُلْتُ: وَإِنْ سَرَقَ وَإِنْ زَنَى؟ قَالَ: نَعَمْ وَإِنْ شَرِبَ الْخَمْرَ".

 

وصية رسول الله له بعدم تولي الولايات: ومن وصاياه -صلى الله عليه وسلم- لأبي ذر أنه نهاه عن تولِّي الإمارةَ والولايةَ؛ لأن شخصيتَه لا تناسب ذلك، وهذا من محض النصح والصدق له.

 

عن أبي ذَرٍّ -رضي الله عنه- قال: قلتُ: يا رسول الله، ألا تستعملني؟ قال: فضرب بيده على منكبيّ، ثم قال: "يا أبا ذَرّ، إنكَ ضعيفٌ وإنها أمانةٌ، وإنها يومَ القيامةِ خزيٌ وندامةٌ إلا مَنْ أخذَها بحقها، وأدَّى الذي عليه فيها".

 

وفي (صحيح مسلم) عنه -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر، إني أراكَ ضعيفًا، وإني أُحِبّ لكَ ما أحب لنفسي، لا تَأمَّرَنَّ على اثنين ولا تَوَلَّينَّ مالَ يتيم".

 

اعتزال أبي ذر للناس: وَلَمَّا لحق النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بالرفيق الأعلى لم يُطِقْ أبو ذر صبرًا على الإقامة في المدينة، بعد أن خلت من سيدها ونورها -صلى الله عليه وسلم-، وأقفرت من هَدْيِ مجلسه، فيمَّم وجهَه إلى بادية بلاد الشام، وأقام فيها مدة خلافة الصديق والفاروق -رضي الله عنهم- جميعا، وبعد وفاة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- بايع المسلمون عثمان بن عفان -رضي الله عنه-، واستمرت الفتوحات الإسلامية فتدفقت الأموال من البلاد المفتوحة، واغتنى الناس وكثر ما في أيديهم من الخير، وكان لأبي ذر -رضي الله عنه- رأي فقهي في قضية حفظ المال خالفَه فيه عامةُ الصحابة؛ وهو أنه يرى حرمةَ اكتناز الذهب والفضة مطلقًا، ويستدل بهذه الآية: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ)[التَّوْبَةِ: 34-35]، فصار يُفتي بالتحريم ويجاهر به، فكثر الخلافُ حولَه واجتمع الناس إليه فخشي معاوية -رضي الله عنه- -وكان واليَ الشام حينها- من حدوث فتنة بسبب هذا الاختلاف، فأرسل -من فوره- للخليفة عثمان بن عفان -رضي الله عنه- يخبره بالأمر، فكتب عثمانُ لأبي ذر يستدعيه إلى المدينة، فسمع أبو ذر وأطاع ثم عاد للمدينة وَالْتَقَى بعثمان -رضي الله عنه- وجرى بينهما حوار طويل انتهى بإصرار أبي ذر على رأيه، وحينها قال أبو ذر لعثمان: "لا حاجةَ لي في دنياكم!". وطلب أبو ذر من عثمان -رضي الله عنهما- أن يسمح له بالخروج إلى "الرَّبَذَة"، فأذن له عثمان. (والربذة تقع في الجنوب الشرقي من المدينة المنورة بحوالي مائتي كليو متر).

 

وَلَمَّا خرج أبو ذر من عند أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- بعد الحوار الذي أشرنا إليه آنفا، وربما ارتفعت فيه أصواتهما، فلما خرج أبو ذر خرج متبسما، فقال له من علم بلقائه مع عثمان: ما لك ولأمير المؤمنين؟ كأنهم يسألونه: ماذا ستصنع بعدما حصل ما حصل؟ فقال رضي الله عنه: سامع مطيع، ولو أمرني أن آتي صنعاء أو عدن ثم استطعت أن أفعل لفعلت!

 

هذا واللهِ هو الفقه! إن الخلاف في الرأي والنصح للولاة لا يعني الخروجَ عليهم أو منابذتهم بالسيف، وإنما هو أمر نَدَبَ إليه الشرعُ وحثَّ عليه، وفي المقابل فإنه لا يجوز أن يُرمى الناصحون بأنهم خوارج على الولاة لنصحهم إياهم بشرط أن يكون ذلك النصح وَفْقَ القواعد والضوابط الشرعية.

 

موقف أبي ذر الغفاري من الخوارج: أتى أبا ذر وفدٌ من الكوفة وهو في الرَّبَذَة، يحثونه على الخروج على الخليفة الراشد عثمان بن عفان -رضي الله عنه- لِما زعموه من حصول الظلم في حكمه، فوبّخهم وزجرهم بكلمات حاسمة قائلًا: "والله لو أن عثمان صلبني على أطول خشبة أو جبل لسمعتُ وأطعتُ وصبرتُ واحتسبت، ورأيتُ أن ذلك خيرٌ لي!".

 

عاش أبو ذر -رضي الله عنه- ما بقي من عمره في الرَّبذة وحيدًا ما معه إلا زوجتُه الصالحةُ وشيءٌ من دوابّه في صحراء جرداء، مختليًا بربه، مستأنسًا بمناجاته، قد استوحش الدنيا وأهلَها وأعرض عن متاعها الزائل ورضي منها بما يوصله للدار الآخرة.

 

قال: أزمعتُ هجرةً بيقيني *** قد مللتُ المقام وازددت بؤسا

وأتيتُ الصحراءَ تروي حديثًا *** يتوالى يفيض روحًا وَأَسَى

جاءها يقطع الرمال وحيدًا *** يركب الليلَ يصحب الذئب خمسا

كلما حلَّ قفرةً سار منها *** يتوارى يجُسُّ ممشاه جسا

قال: يا أرضُ يا رمـالُ خذيني *** كفِّنيني إني عشقتكِ رمسا

أنا يا بِيدُ ضقتُ ذرعًا بجسمي *** فاحضنيني يا بيدُ فالأرضُ تعسى

دولتي جُعبتي وكنزي يقيني *** فإذا ما وصلتُ فالكل يُنسى

أنا عاهدتُ صاحبي وخليلي *** وتلقَّنت من أماليه درسا

 

الساعات الأخيرة من حياة أبي ذر: وفي السنة الثانية والثلاثين من الهجرة ينزل أمر الله بأبي ذر وهو في مَهْمَهٍ من الأرض بعيد عن الناس ليكون موعد لقائه مع ربه الذي طالما اشتاق إليه وَأَنِسَ بمناجاته!

 

(في صحيح الترغيب) بإسناد حسَّنه الألباني عن أم ذر قالت: "لما حضرت أبا ذر الوفاةُ بكيتُ، فقال: ما يبكيكِ؟ فقلتُ: ما لي لا أبكي، وأنتَ تموتُ بفلاة من الأرض، وليس عندي ثوب يسعك كفنًا، ولا يدانِ لي في تغييبك؟ قال: أبشري ولا تبكي، فإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لنفر أنا فيهم: ليموتنَّ رجلٌ منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابةٌ من المسلمين، وليس أحد من أولئك النفر إلا وقد مات في قرية وجماعة، فأنا ذلك الرجل، فوالله ما كَذَبتُ ولا كُذِبْتُ، فأبصري الطريق، فقلتُ: أنَّى وقد ذهب الحاجُّ، وتقطعت الطرقُ، فقال: اذهبي فتبصَّرِي. قالت: فكنتُ أسنُد -أي: أصعد- إلى الكثيب أتبصَّر، ثم أرجعُ فأمرِّضُه، فبينا أنا وهو كذلك، إذ أنا برجال على رحالهم كأنهم الرخم تخب بهم رواحلهم، قالت: فأشرتُ إليهم، فأسرعوا إليَّ حتى وقفوا عليَّ فقالوا: يا أَمَةَ اللهِ؛ ما لكِ؟ قلتُ: امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه. قالوا: ومن هو؟ قلتُ: أبو ذر. قالوا: صاحبُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ قلتُ: نعم، ففدوه بآبائهم وأمهاتهم، وأسرعوا إليه حتى دخلوا عليه، فقال لهم: أَبْشِرُوا فإني سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لنفر أنا فيهم: ليموتنَّ رجلٌ منكم بفلاة من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين. وليس من أولئك النفر رجلٌ إلا وقد هلك في جماعة، واللهِ ما كَذَبْتُ ولا كُذِبْتُ، إنه لو كان عندي ثوب يسعني كفنًا لي أو لامرأتي لم أكفن إلا في ثوب هو لي أو لها، فإني أنشدكم الله ألَّا يكفنني رجلٌ منكم كان أميرا، أو عريفا، أو بريدا، أو نقيبا، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد قارف بعض ما قال إلا فتًى من الأنصار قال: أنا يا عمّ، أكفنك في ردائي هذا، وفى ثوبين من عيبتي من غزل أمي. قال: أنتَ فكفِّنِّي، فكفَّنَه الأنصاريُّ، وقاموا عليه، ودفنوه في نفر كلهم إيمان".

 

خفت الصوت في التراب وماتــت *** عزماتٌ كالفجر تَنِــبس نبسا
واختَفـتْ ســــيرةٌ طوتها الليالي *** وتوارت ذؤابــةُ الزهدِ حبسا
استرحْ يا فــؤادُ، يا نفــسُ قَرِّي *** واكتبي قصــتي بسبعين طِرسا!

 

وهكذا طُويت صفحةُ صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وغادر الدنيا ليلقى الأحبةَ محمدًا وحزبَه، لم يتلطخ من الدنيا بشيء، صدق اللهَ فصدَقَه، ومات مودِّعًا الدنيا بعد أن ضرب المثل العليا في الزهد والتقوى والصدق وقول الحق. فرضي الله عن أبي ذر وأرضاه، وجمعنا به دار في الكرامة والنعيم مع رسولنا -صلى الله عليه وسلم- وسائر الأصحاب الأبرار الغرّ الميامين.

المرفقات

أبو ذر الصادق الأواب!

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات