وصايا في خضم البلايا

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: الأحداث العامة
عناصر الخطبة
1/الوصايا بين المسلمين من سنن الهدى 2/حاجة الناس للتواصي فيما بينهم 3/وصايا في خضم البلايا

اقتباس

فمن منطلق معرفة رسالة المسجد السامية وفي خضم هذه الفتن السياسية أوصي إخواني المصلين روادَ المساجد الأفاضل الذين أنعم الله عليهم بلزوم المساجد في الصلوات الخمس: أن يكونوا لحمة واحدة متحابين متآلفين، مجتمعين...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله القادر الحكيم، اللطيف الرحيم، المحمود على كل حال، المطلِّع على جميع الأحوال، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، يبتلي عبادَه بما يشاء بالسراء أو بالضراء؛ ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتفرد بالديمومة والبقاء، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير الأنبياء، وسيد الأصفياء، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما.

 

فأوصيكم-أيها الناس- وإياي بتقوى الله القائل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آلعمران:102]، والقائل: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)[النساء:1]، والقائل: (يَآ أَيَّهَا الَّذِينَ آَمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وقُولُواْ قَولاً سَدِيداً، يُصلِحْ لَكُم أَعْمَالَكُم ويَغْفِرْ لِكُمْ ذُنُوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزَاً عَظِيمَاً)[الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسوله محمد بن عبد الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

أيها المسلمون: إن الوضع الذي تعيشه بلادنا -هذه الأيام- وضع لا يفرح الصديق ولا يحزن العدو، اضطراب سياسي، وتدهور اقتصادي، واختلال أمني، وتفكك اجتماعي، ونتج عن ذلك سفك للدماء، ونهب للأموال، وتعطيل للأعمال، واتساع لرقعة الخوف والقلق؛ فكل يوم تشرق فيه الشمس على الناس يترقبون فيه تطوراً جديداً في قضية البلاد المصيرية.

 

وفي خضم هذه المعضلات نحتاج إلى إرشادات ووصايا منيرات، تخفف عنا ما نزل بنا من الملمات، وتكون طريقاً للحل بإذن الله -تعالى-.

 

إخوة الإسلام: إن أسلوب إيصاء الآخرين طريق مسلوك سلكه القرآن الكريم، ومشت عليه السنة النبوية، ودرج عليه الحكماء والمربون في الأمم؛ فقال تعالى -بعد أن ذكر وصايا لخلقه-: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)[الأنعام:151]، وقال: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[الأنعام:152]، وقال: (ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[الأنعام:153].

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كَرشي وعيبتي، وقد قضوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم"(متفق عليه).

 

وأوصى حكيم ابنه فقال: "يا بني، عزُّ المال للذهاب والزوال، وعز السلطان يوم لك ويوم عليك، وعز الحسب للخمول والدثور، وأما عز الأدب فعز راتب رابط لا يزول بزوال المال، ولا يتحول بتحول السلطان، ولا ينقص على طول الزمان".

 

والمؤمنون مفتقرون إلى التواصي بينهم بالحق في كل زمان؛ فكيف بزماننا هذا ونازلتنا هذه، قال تعالى: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر:1-3].

 

أيها المسلمون: الوصية الأولى: اليقين بأن ما يجري من أحداث هو بعلم الله وتقديره الكوني؛ فلا يخرج عن علم الله وقضائه شيء دقيق أو جليل. قال تعالى: (مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)[الحديد:22].

 

والله يقضي في خلقه ما يشاء، ويصنع به ما يريد على مقتضى حكمته البالغة، وعلمه الواسع الذي لا نحيط به، يبتليهم بذنوبهم؛ لعلهم إليه يعودون، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)[الروم:41].

 

والعبرة بعواقب الأمور وخواتمها، لا بأولها وفواتحها، ولعل في أرحام هذه البلايا والفتن خيراً كثيراً لهذا الشعب، لا يكون ذلك إلا بعد التمحيصات والاختبارات، وفي التاريخ أمثلة على ذلك.

 

ولو نظرنا بعين الإيمان والحكمة فماذا سنرى في فعل من هو أرحم بنا من أنفسنا، ومن آبائنا وأمهاتنا؟! سنرى أن اختيار الله خير لنا من اختيارنا، قال تعالى: (وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)[البقرة:216].

 

عباد الله: الوصية الثانية: تفاءلوا ولا تشاءموا؛ فالتفاؤل من سمات الكبار، ومن صفات أهل الإيمان الأخيار، ومن أخلاق رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهو جالب للسعادة إلى النفس والقلب، وفيه ترويح للمؤمن وسرور له، وتقوية لعزيمته، وباعث له على الجد والظفر. فاستبشروا وتفاءلوا وأمّلوا بالله خيراً؛ فإن الله يقول في الحديث القدسي: "أنا عند ظن عبدي بي، إن ظن خيرا فله، وإن ظن شراً فله"(رواه الطبراني، وهو صحيح).

 

والتفاؤل مطلوب في كل حال، ويعظم حين تعظم المصائب؛ لأن شدة المصيبة مؤذنة بقرب زوالها، والكروب إذا توالت تولت، والليالي إذا ادلهمت تجلّت.

 

اشتدي أزمة تنفرجي***قد آذن ليلُكِ بالبلج

 

وإياكم والتشاؤم، وسوءَ الظن، وقالةَ اليأس والقنوط؛ فإن البلاء موكل بالمنطق.

 

إخوة الإسلام: والوصية الثالثة: اصبروا ولا تجزعوا. فهذه الأيام من أيام الصبر التي لا ينعم الإنسان فيها إلا بالتدرع بالصبر والمصابرة. وعبودية الله -تعالى- لا تقوم إلا على ذلك، والفلاح الموعود لا ينجز إلا عقب هذه الأعمال العظيمة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[آلعمران:200].

 

فما أحوجَنا اليوم إلى إرغام النفوس على الصبر وترك الجزع وهي ترى هذا التردي المتنوع، وتغير مواقف الناس من حين لآخر!

 

فالحذرَ الحذرَ من الطيش ونزق الغضب وردود الأفعال والمسارعة إلى تلبية حاجات الهوى والشيطان، فمن صبر ظفر، وحمد عند الصباح سُراه.

 

الصبر مثل اسمه مُرّ مذاقته*** لكن عواقبه أحلى من العسل

 

معشر المسلمين: والوصية الرابعة: تآخوا؛ فإنما المؤمنون إخوة. لقد جمع الله أهل الإسلام تحت مظلة واحدة دون أن تفرقهم اللغات والبلدان، ولا الأجناس والألوان، ولا الأنساب والأعراق. فلكل مسلم على أخيه المسلم حقُّ المحبة والنصرة، والتعاون والألفة، قرُب المسلم أم بعد.

 

ومن ضيق الأفق وقلة الدين أن تحصر الأخوة والموالاة في الحزب الواحد، أو الجماعة الواحدة، أو المنطقة الواحدة، أو المذهب الواحد، بأن يوالى من كان فيها، ويعادى من كان خارجاً عنها، وليست الأخوة الإسلامية أن تكون في الشيء الذي تجتمع فيه مصالحنا، فإذا ذهبت المصالح المشتركة ذهبت الأخوة الإسلامية.

 

إنما الأخوة الإسلامية فيك أيها المسلم، أن تحب وتوالي المسلم الصالح سواء كان معك في رأيك أو حزبك أو مذهبك أو بلدك أم كان خارجاً عن ذلك، وتكره أهل الفسق والعصيان سواء اتفقوا معك في الانتماء أم اختلفوا؛ فهذه الأُطر الضيقة تفريق للأمة قال تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)[آلعمران:103].

 

إخواني الكرام: إن من القواصم التي حلّت في بلادنا فقصمت ظهر إخوّتنا: التعددية الحزبية التي زادت الطين بلة والمرض علة والخرق اتساعا، حتى تفرق الوطن وتشتت الجمع، وتباغض الأحبة، وتقاطعت الصلة، وصار الحزب هو معقد الولاء والبراء، ومن قواصم القواصم: أن الموقف الذي يتبناه قادة الحزب قد يغدو شرعاً متبعاً لدى المنتمين إلى ذلك الحزب ولو كان حراماً، والحال كما قال الأول:

وما أنا إلا من غزية إن غوت*** غويت وإن ترشد غزية أَرشُدِ

 

لكن المسلم الواعي لا تأسره هذه السجون الضيقة، ولا تقيده هذه الأغلال الجاهلية، فهو يتعصب للحق ولاءً وبراءً فحسب.

 

عباد الله: والوصية الخامسة: حافظوا على حرمات المسلمين الذين قد تختلفون معهم في الموقف السياسي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه"(رواه مسلم).

 

فيجب على المسلم أن يحفظ دم أخيه المسلم فلا يريق منه قطرة؛ لأن ثمنها غالٍ عند الله -تعالى-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق"(رواه النسائي، وهو صحيح)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يجيء المقتول آخذاً قاتله وأوداجه تشخب دماً عند ذي العزة فيقول: يا رب، سل هذا فيم قتلني؟ فيقول: فيم قتلته؟ قال: قتلته لتكون العزة لفلان، قيل: هي لله (رواه ابن حبان بإسناد صحيح).

 

ويجب على المسلم أن يحفظ مال أخيه المسلم، فلا يحل له أن يأخذه بغير حق بسرقة أو نهب أو اختلاس أو غِش أو غير ذلك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل لامرئ أن يأخذ عصا أخيه بغير طيب نفس منه" (رواه النسائي، وهو حسن). قال ذلك لشدة ما حرم الله من مال المسلم على المسلم.

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أتدرون من المفلس"؟ قالوا: المفلس فينا يا رسول الله، من لا درهم له ولا متاع، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "المفلس من أمتي يأتي يوم القيامة بصلاته وصيامه وزكاته فيأتي وقد شتم هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيقعد فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته -قبل أن يقضى ما عليه- أخذ من خطاياهم فطُرح عليه، ثم طرح في النار"(رواه أحمد، وهو صحيح).

 

ويجب على المسلم أن يحافظ على عرض أخيه المسلم فلا يتعرض له بهتكٍ أو سب أو شتم.

فوأسفاه مما يجري هذه الأيام في الإعلام عبر وسائله المختلفة، وما تلوكه ألسنة بعض الناس في أماكن اجتماعهم من بهتان وسباب، وشتائم وطعون، ولمز ونبز، وغيبة وسخرية، ألا يظن أولئك أنهم محاسبون على ما يقولون عند ربهم؟! قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا البذيء ولا الفاحش"(رواه أحمد، وهو صحيح)، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لما عرج بي ربي عز وجل مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم"(رواه أحمد، وهو صحيح)، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن من أربى الربا الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"(رواه أحمد، وهو صحيح).

 

وحينما يسمع المسلم هذه المزالق اللسانية فلينصح بما يعرف أنه الحق، وليدافع عن أخيه المسلم الغائب بما يدري عنه من الخير، وهذا يخلّصه من إثم سماع الطعن، وينال به خيراً يوم القيامة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من ردّ عن عرض أخيه ردّ الله عن وجهه النار يوم القيامة"(رواه الترمذي، وهو صحيح).

 

أيها المسلمون: الوصية السادسة: آثروا ولا تستأثروا، فالحال الاقتصادية في هذه الأحداث في انحدار مستمر، ووضع غير مستقر، كثر العاطلون عن الأعمال، وغلت الأسعار وساءت الأحوال، فلينظر كل جار إلى جاره، وكل قريب إلى قريبه وليُفضِل عليه مما أعطاه الله أو ليؤثره ولا ينظر إليه وهو يصطلي في أتون الحاجات، ويعاني فقدان الضروريات التي تحفظ حياته من الممات، فرحم الله امرأ أعطى من فضل، أو آثر من قلة، أو واسى من كفاف. فلنقتسم اللقمة كما اقتسمنا الأزمة كما كان يصنع آباؤكم الأشعريون الذين أثنى عليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في هذا الصنع، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قلّ طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم"(متفق عليه).

 

إخواني الأفاضل: الوصية السابعة: تثبتوا وتبيّنوا قبل أن تتكلموا وتحكموا. ما أكثر ما يُسمع اليوم من الأخبار، وأكثرَ ما يُرى من إصدار الأحكام على الآخرين من غير علم!! تكاثرت الأنباء وصارت عليها هالات من البهرجة منها الصادق ومنها الكاذب، والإعلام قد يُري الناس الكذب صدقاً حتى يصدقوه، والصدق كذباً حتى يكذبوه، وبعض الناس هذه الأيام آذان صاغية وقلوب واعية لما يُعرض في الإعلام من غث وسمين بدون تثبت، ألم يعلمنا الله عز وجل أدبَ التثبت قبل أن نندم إذا تكلمنا بلا تثبت، فقال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات:6].

 

فالتثبت في الأخبار من العدل الذي يحافظ على التئام الأمة وترابطها ويقوي نسيجها الاجتماعي، والتمهل والتريث صفة محمودة، وخصلة منشودة لكل عاقل؛ لأن العجلة في غير محلها مسلك شيطاني قد يورث الندامة حين لا تنفع الندامة، قال أنس رضي الله عنه: " التأني من الله والعجلة من الشيطان".

 

لا تعجلنّ فربما*** عجل الفتى فيما يضره

ولربما كره الفتى*** أمراً عواقبه تسره

 

عباد الله: إن نقل الأخبار وتصديقها وبثها دون تمحيص ظلم وبغي يوهي تماسك المجتمع، ويقوّي فيه روحَ الضغينة والعداوة، فعلى المسلم الحريص على دينه وسمعته أن يحفظ سمعه عن تصديق كل ما يسمع، ويحفظ لسانه أن يتكلم بشيء لا يعرف صحته وسلامة عاقبة الحديث عنه. فالتثبت التثبت قبل تحميل الناس مالا يفعلون وتقويلهم ما لا يقولون، فلا تحسبوا ذلك هيناً بل هو عند الله عظيم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كفى بالمرء إثماً أن يحدِّث بكل ما سمع"(رواه أبو داود ، وهو صحيح).

 

فاتق الله -يا عبد الله-، في هذه الفتنة أن تأخذ من دينك وتقضم من أخلاقك الكريمة، ولسانك المستقيمة، واحذر ظلم الآخرين في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.

 

ولا تعجل على أحد بظلم*** فإن الظلم مرتعه وخيم

ولا تفحش وإن مُلّيت غيظاً*** على أحد فإن الفحش لوم

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي جمع المسلمين بهذا الدين، وأرسل إليهم خير المرسلين، بالحكمة والذكر المبين، فجمع الله به بعد الفرقة، وألف به بعد النفرة، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: الوصية الثامنة: أُمّوا المساجد للصلاة والائتلاف، ولا تخرجوا منها بالكراهية والاختلاف؛ فالمساجد لم تُبن لتفريق الصفوف بل لجمعها، ولم تُفتح لإغلاق نوافذ تصفية القلوب بل لفتحها وتجليتها. فالمسجد في الإسلام رمز لجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتعميق معاني المحبة والقرب، جسد بجانب جسد، وقدم ملتصقة بقدم، ومنكب بمنكب، الجميع يقومون ويركعون ويسجدون لا تخالف بينهم، اتحاد ظاهر يدعو إلى اتحاد باطن، عن أبي مسعود -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يمسح منا كبنا في الصلاة ويقول: "استووا ولا تختلفوا؛ فتختلف قلوبكم"(رواه مسلم).

 

ولأجل هذه الأهداف السامية للمسجد كان المسجد من أول أعمال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حينما قدم المدينة؛ ليجمع الأرواح والأبدان معاً.

 

فمن منطلق معرفة رسالة المسجد السامية وفي خضم هذه الفتن السياسية أوصي إخواني المصلين روادَ المساجد الأفاضل الذين أنعم الله عليهم بلزوم المساجد في الصلوات الخمس: أن يكونوا لحمة واحدة متحابين متآلفين، مجتمعين على الحق غير متفرقين، ولو تعددت الآراء واختلفت وجهات النظر السياسية فلا يؤدي ذلك إلى تغير القلوب المتحابة وتمزيق الصفوف المتماسكة، فالخلاف سنة كونية لا يمكن أن يُرفع حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان، ولكن على الجميع أن يراعي أدب الخلاف حتى يسود الوئام لا البغضاء والخصام.

 

وعلى ذلك فلا تُحوَّل المساجد إلى ساحات عراك وصراخ، وملاسنة وكثرة كلام، وتنازع وتشاجر؛ فقد جمعنا الله بالمسجد فكان لنا مكانَ قوة فلا نجعله منطلقَ ضعف فنفشل وتذهب قوتنا، قال تعالى: (وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)[الأنفال:46].

 

وتذكروا قول الله -تعالى- وكونوا من أهل هذه الآيات: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[النور:36-38].

 

عباد الله: الوصية التاسعة: سارعوا إلى الأعمال قبل أن تسارع إليكم الآجال، قال تعالى: (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلعمران:133]، وقال: (فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[المائدة:48].

 

وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافرا، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا"(رواه مسلم).

 

فالأيام تمضي، والأعمار تنقضي، والفتن تتسارع، والأوقات تضيع، والجِد يفتر، والجسد يضعف، والحياة تغرب، والحتوف تقرب، وأبشروا فالعبادة أيام الفتن مضاعفة الأجر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "العبادة في الهرج كهجرة إلي"(رواه مسلم).

 

كثير من الناس يظل الساعات الطوال يتابع الأخبار ويتنقل بين وسائل الإعلام قارئاً وسامعاً ومشاهداً وقد ينسى استغلال بعض ذلك الوقت الكبير فيما يقرب إلى الله -تعالى-، فطوبى لمن شغل وقته فيما ينفعه قبل أن تباغته المنية:

اغتنم في الفراغ فضلَ ركوع*** فعسى أن يكون موتك بغته

كم صحيحٍ رأيتَ من غير سقم*** ذهبت نفسه الصحيحة فلته

 

أحبائي الكرام: الوصية العاشرة: الدعاءَ الدعاءَ، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[البقرة:186].

 

إن دعاء الله والتضرع بين يديه من أعظم سبل كشف الكربة، وذهاب الغمة، فهو سلاح يقضي على البلاء في معركة الفتنة فلماذا تخلينا عن هذا السلاح الفتاك؟!

 

لماذا أقبل الخلق على أبواب الخلق وتركوا باب الخالق، لماذا طرقوا الأبواب المقفلة ولم يطرقوا الباب المفتوح الذي ينادي: هل من داخل فيُكرَم؟!

 

لماذا تمتد القلوب والأيدي إلى البشر طالبة حل الأزمة ولم ترفع إلى الذي بيده كل شيء؟!

 

إذا أردنا اندحار البلاء فعلينا بالدعاء، وإذا أردنا الرخاء والهناء فعلينا بالدعاء.

 

فالدعاء الدعاء -يا عباد الله- في المساجد والبيوت، والليل والنهار، والسر والعلن، وإذا دعونا فلنثق بالله، ولنفرده بالتوجه وانتظار الفرج، ولا نستعجل الإجابة، ولا نستحسر فندع الدعاء، ولنقل بلسان حالنا ومقالنا لربنا:

أنتَ الملاذ إذا ما أزمةٌ شملتْ*** وأنت ملجأ من ضاقت به الحِيل

أنت المنادى به في كل حادثة*** أنت المجيب وأنت الذخر والأمل

أنت الرجاء لمن سُدّت مذاهبه*** أنت الدليل لمن ضلّت به السبل

إنا قصدناك والآمالُ واقعة*** عليك والكل ملهوف ومبتهل

 

فيا ربنا يا سامع دعائنا، وعالماً بشكوانا، وبيدك وحدك كشف بلوانا، ادفع عنا هذه الفتنة سالمين، وأخرجنا من وهجها ناجين، وإذا أردت فتنة بعبادك فاقبضنا إليك غير مفتونين.

 

إلهَ الحق، انصر الحق وأهله، واخذل الباطل وحزبه، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا أرحم الراحمين.

 

هذا وصلوا وسلموا على سيد البشرية...

المرفقات

وصايا في خضم البلايا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات