المسارعة في الخير والمسارعة في الشر

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/أهل الكفر يسارعون في الشر 2/المنافقون يتخذون الكفار أولياء من دون المؤمنين 3/أهل الإيمان ينقسمون إلى ثلاثة أقسام 4/هناك موانع تمنع العبد من المسارعة في الخيرات

اقتباس

وَالْمُوَفَّقُ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَانَبَ الْكَبَائِرَ، وَلَمْ يَنْغَمِسْ فِي الدُّنْيَا وَمَلَذَّاتِهَا، وَتَرَكَ الْجِدَالَ، وَخَالَفَ هَوَاهُ، فَصَفَا قَلْبُهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَرَغِبَتْ نَفْسُهُ فِيهَا. وَالْمَحْرُومُ مَنْ تَلَطَّخَ بِالْمَعَاصِي أَوِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، أَوْ شُغِلَ بِالْجِدَالِ، وَسَبَقَهُ الْمُشَمِّرُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَهُوَ لَمْ يُبَارِحْ مَكَانَهُ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ مِنْ أَوْقَاتِهِ...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْبَرِّ الرَّحِيمِ، اللَّطِيفِ الْخَبِيرِ؛ وَفَّقَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ لِلْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ، وَفَتَحَ أَبْوَابَ الْخَيْرِ لِلْمُسْتَكْثِرِينَ، وَنَوَّعَ أَعْمَالَ الْبِرِّ لِلْعَامِلِينَ، فَالْمُوَفَّقُ مَنْ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْخَيْرِ كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا، وَالْمَحْرُومُ مَنْ صُرِفَ عَنْهَا كُلِّهَا، نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ يَجْزِي عَلَى قَلِيلٍ كَثِيرًا، وَيَغْفِرُ ذَنْبًا عَظِيمًا، وَيُعْطِي عَطَاءً جَزِيلًا، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَنْصَحُ النَّاسِ لِلنَّاسِ، وَأَتْقَاهُمْ لِلَّهِ -تَعَالَى-، لَا خَيْرَ إِلَّا دَلَّنَا عَلَيْهِ، وَلَا شَرَّ إِلَّا حَذَّرَنَا مِنْهُ، تَرَكَنَا عَلَى بَيْضَاءَ لَيْلُهَا كَنَهَارِهَا لَا يَزِيغُ عَنْهَا إِلَّا هَالِكٌ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاسْتَقِيمُوا عَلَى دِينِهِ، وَامْتَثِلُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنِبُوا نَهْيَهُ (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[هُودٍ: 112].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: حِينَ خَلَقَ اللَّهُ -تَعَالَى- الْخَلْقَ قَسَّمَهُمْ إِلَى قِسْمَيْنِ (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)[التَّغَابُنِ: 2]، (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)[الْإِنْسَانِ: 3]، (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ)[الشُّورَى: 7].

 

وَمِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مَنْ يُسَارِعُونَ فِي الشَّرِّ. وَالْكُفْرُ أَعْظَمُ الشَّرِّ، وَمُسَارَعَتُهُمْ فِيهِ تَقْتَضِي مُسَارَعَتَهُمْ فِيمَا هُوَ دُونَهُ مِنَ الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ؛ وَمِنْ مُسَارَعَتِهِمْ فِي الْكُفْرِ صَدُّهُمْ عَنْ دِينِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَمُحَارَبَتُهُمُ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْ ذَلِكَ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ عَنْ مُصَابِ الْمُؤْمِنِينَ فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ: (وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 176].

 

وَكَذَلِكَ الْيَهُودُ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْهُمْ: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)[الْمَائِدَةِ: 62]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ عَنْهُمْ وَعَنِ الْمُنَافِقِينَ: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ)[الْمَائِدَةِ: 41]، وَمُسَارَعَتُهُمْ فِي الْكُفْرِ بِرَفْضِ أَحْكَامِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَتَغْيِيرِهَا، وَهَذَا مَعْرُوفٌ عَنِ الْيَهُودِ وَعَنِ الْمُنَافِقِينَ، وَبِالْكَيْدِ وَالْمَكْرِ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ كَيْدُ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَمَكْرُهُمْ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَبِالْمُؤْمِنِينَ.

 

وَمِنْ مُسَارَعَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْكُفْرِ اتِّخَاذُهُمُ الْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ: (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ)[الْمَائِدَةِ: 52].

 

وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ آمَنُوا بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَكَانَ مِنْ عُلَمَاءِ الْيَهُودِ وَأَحْبَارِهِمْ، فَكَانُوا مُسَارِعِينَ فِي الْخَيْرِ، وَفِيهِ وَفِي أَمْثَالِهِ نَزَلَ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 113 - 115]. فَمَدَحَهُمْ سُبْحَانَهُ بِمُسَارَعَتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ.

 

وَأَثْنَى اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَى جُمْلَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِمُسَارَعَتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ؛ فَخَتَمَ أَخْبَارَهُمْ بِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ)[الْأَنْبِيَاءِ: 90]. وَالْأَنْبِيَاءُ قُدْوَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَوَجَبَ التَّأَسِّي بِهِمْ فِي الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ.

 

وَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ أَهْلَ الْإِيمَانِ يَنْقَسِمُونَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ أَعْلَاهَا الْمُسَابِقُونَ بِالْخَيْرَاتِ: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ)[فَاطِرٍ: 32].

 

وَالْمُسَابِقُونَ بِالْخَيْرَاتِ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ مِنَ الرَّحْمَنِ فِي الْجِنَانِ، وَهُمْ أَعْلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً، وَأَكْثَرُهُمْ نَعِيمًا (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ)[الْوَاقِعَةِ: 10 - 12].

 

وَأَثْنَى اللَّهُ -تَعَالَى- عَلَى أَهْلِ الْخَشْيَةِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَخْبَرَ عَنْ أَعْمَالِهِمْ وَمُسَارَعَتِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ: (إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)[الْمُؤْمِنُونَ: 57- 61].

 

وَأَمَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْمُسَابَقَةِ إِلَى مَغْفِرَتِهِ وَجَنَّتِهِ؛ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِالْمُسَابَقَةِ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)[الْحَدِيدِ: 21].

 

وَنَوَّهَ اللَّهُ -تَعَالَى- بِالسَّابِقِينَ مِنَ الصَّحَابَةِ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ رِضَاهُ عَنْهُمْ، وَمَا أَعَدَّ لَهُمْ مِنَ النَّعِيمِ (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا)[التَّوْبَةِ: 100]، وَلِسَبْقِهِمْ إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ فَهُمْ أَفْضَلُ مِمَّنْ أَسْلَمُوا بَعْدَهُمْ، وَلَا يُسَاوُونَهُمْ (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا)[الْحَدِيدِ: 10]. وَفِي دُعَاءِ الْمُؤْمِنِينَ لِلسَّابِقِينَ قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ)[الْحَشْرِ: 10].

 

وَالصِّدِّيقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- كَانَ أَسْبَقَ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- إِلَى الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ؛ وَلِذَا كَانَ رَفِيقَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْهِجْرَةِ وَالْغَارِ: (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)[التَّوْبَةِ: 40]، وَكَانَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يُسَابِقُهُ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَسْبِقَهُ، قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ نَتَصَدَّقَ فَوَافَقَ ذَلِكَ عِنْدِي مَالًا، فَقُلْتُ: الْيَوْمَ أَسْبِقُ أَبَا بَكْرٍ إِنْ سَبَقْتُهُ يَوْمًا، قَالَ: فَجِئْتُ بِنِصْفِ مَالِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قُلْتُ: مِثْلَهُ، وَأَتَى أَبُو بَكْرٍ بِكُلِّ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، "مَا أَبْقَيْتَ لِأَهْلِكَ؟" قَالَ: أَبْقَيْتُ لَهُمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قُلْتُ: لَا أَسْبِقُهُ إِلَى شَيْءٍ أَبَدًا" (رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ). وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "وَلَا وَاللَّهِ مَا سَابَقْتُهُ إِلَى خَيْرٍ قَطُّ إِلَّا سَبَقَنِي" (رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ).

 

وَالِاسْتِبَاقُ إِلَى الْخَيْرَاتِ يَتَضَمَّنُ فِعْلَهَا وَتَكْمِيلَهَا، وَإِيقَاعَهَا عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ، وَالْمُبَادَرَةَ إِلَيْهَا... وَالْخَيْرَاتُ تَشْمَلُ جَمِيعَ الْفَرَائِضِ وَالنَّوَافِلِ.

 

فَمَنْ أَرَادَ دَرَجَةَ الْمُقَرَّبِينَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ فِي الْخَيْرِ مِنَ الْمُسَارِعِينَ، فَيَسْبِقُ إِلَى كُلِّ طَاعَةٍ سَوَاءً كَانَتْ فَرْضًا أَمْ نَفْلًا، وَيَسْعَى بِالْخَيْرِ وَالنَّفْعِ لِإِخْوَانِهِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَبْوَابُ الْخَيْرِ كَثِيرَةٌ، وَالْمُوَفَّقَ مَنْ وُفِّقَ لَهَا.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)[الْحَجِّ: 77].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: ثَمَّةَ مَوَانِعُ تَمْنَعُ الْعَبْدَ مِنَ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ، وَالِاسْتِبَاقِ إِلَى الطَّاعَاتِ، وَمِنْ تِلْكُمُ الْمَوَانِعِ:

 

إِتْيَانُ الْكَبَائِرِ: فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْمُسَارَعَةَ إِلَى الْخَيْرَاتِ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- لَمَّا نَهَى عَنِ الرِّبَا فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً)[آلِ عِمْرَانَ: 130]، ذَكَرَ عَقِبَهَا: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)[آلِ عِمْرَانَ: 133]. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "إِنَّ مِنْ ثَوَابِ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةَ بَعْدَهَا، وَإِنَّ مِنْ عُقُوبَةِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ بَعْدَهَا". فَكَيْفَ يُسَارِعُ فِي الْخَيْرَاتِ مَنِ انْغَمَسَ فِي الْكَبَائِرِ وَالْمُوبِقَاتِ؟!

 

وَمِنْ مَوَانِعِ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ: الِانْغِمَاسُ فِي الدُّنْيَا طَلَبًا لَهَا أَوْ تَمَتُّعًا بِهَا (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)[الْحَدِيدِ: 20]، وَقَالَ سُبْحَانَهُ عَقِبَهَا: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ)[الْحَدِيدِ: 21]. فَعُلِمَ بِذَلِكَ أَنَّ الِانْغِمَاسَ فِي الدُّنْيَا يُلْهِي صَاحِبَهُ عَنِ الْخَيْرِ.

 

وَمِنْ مَوَانِعِ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ: كَثْرَةُ الْجِدَالِ، وَكَمْ أَضَاعَ الْجِدَالُ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَإِذَا اسْتُنْزِفَتِ الْقُلُوبُ وَالْأَلْسُنُ بِالْجِدَالِ، وَأُنْهِكَتِ الْأَبْدَانُ بِهِ لَمْ تَعُدْ قَادِرَةً عَلَى فِعْلِ كَثِيرٍ مِنَ الْخَيْرَاتِ، فَضْلًا عَنِ الْمُسَارَعَةِ فِيهَا، وَمَاذَا يَبْقَى مِنْ وَقْتٍ لِمَنْ يُكْثِرُ الْجِدَالَ لِيَعْمَلَ فِيهِ الْخَيْرَ. وَلَمَّا جَادَلَ الْيَهُودُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ نَهَى اللَّهُ -تَعَالَى- الْمُؤْمِنِينَ عَنْ جِدَالِهِمْ؛ لِئَلَّا يُشْغَلُوا عَنْ فِعْلِ الْخَيْرِ، وَأَمَرَهُمْ بِالْمُسَابَقَةِ فِي الْخَيْرَاتِ: (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[الْبَقَرَةِ: 148].

 

وَمِنْ مَوَانِعِ الْمُسَارَعَةِ فِي الْخَيْرَاتِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهُوَ نَتِيجَةٌ حَتْمِيَّةٌ لِكَثْرَةِ الْجِدَالِ، وَلَمَّا كَانَ الْيَهُودُ أَهْلَ جِدَالٍ كَانُوا مُتَّبِعِينَ لِأَهْوَائِهِمْ، فَنَهَى اللَّهُ -تَعَالَى- رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اتِّبَاعِ أَهْوَاءِ الْيَهُودِ فِي حُكْمِهِ بَيْنَهُمْ:  (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ)[الْمَائِدَةِ: 48]، ثُمَّ فِي آخِرِ الْآيَةِ أَمَرَ بِاسْتِبَاقِ الْخَيْرَاتِ: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)[الْمَائِدَةِ: 48]. فَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ حُرِمَ الِاسْتِبَاقَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَالْمُسَارَعَةَ فِيهَا.

 

وَالْمُوَفَّقُ مِنَ النَّاسِ مَنْ جَانَبَ الْكَبَائِرَ، وَلَمْ يَنْغَمِسْ فِي الدُّنْيَا وَمَلَذَّاتِهَا، وَتَرَكَ الْجِدَالَ، وَخَالَفَ هَوَاهُ، فَصَفَا قَلْبُهُ لِلْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَرَغِبَتْ نَفْسُهُ فِيهَا. وَالْمَحْرُومُ مَنْ تَلَطَّخَ بِالْمَعَاصِي أَوِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، أَوْ شُغِلَ بِالْجِدَالِ، وَسَبَقَهُ الْمُشَمِّرُونَ إِلَى الْخَيْرَاتِ، وَهُوَ لَمْ يُبَارِحْ مَكَانَهُ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ مِنْ أَوْقَاتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "مَنْ نَافَسَكَ فِي دِينِكَ فَنَافِسْهُ، وَمَنْ نَافَسَكَ فِي دُنْيَاهُ فَأَلْقِهَا فِي نَحْرِهِ". وَقَالَ وُهَيْبُ بْنُ الْوَرْدِ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "إِنِ اسْتَطَعْتَ أَلَّا يَسْبِقَكَ إِلَى اللَّهِ أَحَدٌ فَافْعَلْ". وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: "كُلُّ شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ يُبَادَرُ بِهِ".

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات