محبطات الأعمال (11) قطيعة الرحم

محمد بن إبراهيم النعيم

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أخلاق وحقوق
عناصر الخطبة
1/قطيعة الرحم من محبطات الأعمال 2/آثار قطيعة الرحم 3/وصية الله بالرحم وحث الإسلام على ذلك 4/فضل صلة الرحم 5/منهم الأرحام؟

اقتباس

والخطورة في أمر الرحم -أيضا- أنها مع الأمانة من دون سائر الأعمال، سيقفان عند أخطر كرب على المسلمين وهو الصراط؛ فلماذا ستقف الرحم في هذا المكان؟ وماذا تريد يا ترى؟ لعل وقوفها هناك لتحاج عن المحق، وتشهد على المبطل لتسقطه من الصراط..

الخطبة الأولى:

 

فِي زَمَنِ ثَوْرَةِ الاتِّصَالِ وَالمُوَاصَلاَتِ الَّتِي قَرَّبَتِ البَعِيدَ، وَأَلْغَتِ المَسَافَاتِ بَيْنَ النَّاسِ، صَارَ الإِنْسَانُ يُخَاطِبُ مَنْ يَشَاءُ، فِي أَيِّ وَقْتٍ يَشَاءُ، فِي أَيِّ بُقْعَةٍ مِنَ الأَرْضِ، يُخَاطِبُهُ وَجْهًا لِوَجْهٍ صَوْتًا وَصُورَةً، وَكَأَنَّهُ يَجْلِسُ بِجِوَارِهِ؛ فزادت علاقة الإنسان بالآخرين، وزادت اتصالاته بهم، إلا أن الملاحظ أنه َكُلَّمَا زَادَتْ وَسَائِلُ الاتِّصَالِ وَالوِصَالِ بين الناس بَعُدَتِ المَسَافَةُ بَيْنَ الأَرْحَامِ وَالقَرَابَاتِ، وَلَقَدْ كَانَ النَّاسُ مِنْ قَبْلُ يَنْتَقِدُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنْ تَأَخَّرُوا عَنْ صِلَةِ قَرِيبٍ لهم جُمُعَةً أَوْ جُمُعَتَيْنِ، ثُمَّ تَسَاهَلُوا فِي الشَّهْرِ وَالشَّهْرَيْنِ، وَبَلَغُوا الآنَ حَوْلًا أَوْ حَوْلَيْنِ، لاَ يَرَى القَرِيبَ قَرِيبَهُ إِلاَّ إِنْ جَمَعَهُمْ عِيدٌ أَوْ عُرْسٌ أَوْ جِنَازَةٌ رغم توافر الأجهزة الذكية التي رفعت الحرج وأدت فرض الكفاية.

 

أيها الأخوة الكرام: كنت معكم في عشر خطب سابقة نتحدث عن أهم الأعمال المحبطة للأعمال، واليوم أعرض لكم مزيدا منها كي نحذر من الوقوع في هذه الذنوب المهلكة؛ فمن محبطات الأعمال والحسنات: قطيعة الرحم، فمن قطعها لا يُقبل له عمل، ولا يستفيد من حسناته، فقد روى أبو هريرة-رضي الله عنه-  أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ تُعْرَضُ كُلَّ خَمِيسٍ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ، فَلا يُقْبَلُ عَمَلُ قَاطِعِ رَحِمٍ"(رواه أحمد وحسنه الألباني).

 

ألا تعلموا أن أبواب السماء تفتح كل أثنين وخميس، وتعرض فيهما الأعمال على رب العالمين؛ فيغفر لجميع المسلمين إلا للمتشاحنين؟ فكيف إذا وقعت هذه الشحناء بين الأرحام؟ حيث روى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تُفْتَحُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ؛ فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إِلاَّ رَجُلاً كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ: أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا، أَنْظِرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا"(رواه مسلم).

 

ولنعلم بأن أبواب السماء تغلق دون عمل قاطع رحم، ويشهد لذلك ما رواه الأعمش -رحمه الله تعالى- قال: "كان عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- جالسا بعد الصبح في حلقة فقال: أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا، فإنا نريد أن ندعو ربنا، وإن أبواب السماء مرتجة مغلقة دون قاطع رحم"(صحح هذه الرواية الهيتمي في كتاب الزواجر).

فكيف يرجو خيرا من لا يُقبل له عمل ولا تُفتح له أبواب السماء؟ وإذا أغلقت أبواب السماء عنك فأي باب ستقرع؟ فهل عرفتم خطر قطيعة الرحم؟ فلنبادر إلى صلة أرحامنا.

 

لقد أوصى الله -عز وجل- بصلة الرحم في العديد من الآيات حيث قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى)[النساء: 36]، وقال تعالى: (فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)[الروم: 38]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل:90].

 

ولصلة الرحم ثواب عظيم ومكانةٌ عند الله -عز وجل-؛ فمن عِظم حقها عند الله -عز وجل- أنه خاطبها ووعد بوصل من وصلها وقطع من قطعها، قال -صلى الله عليه وسلم-: "خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ، قَامَتْ الرَّحِمُ فَقَالَ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ الْعَائِذِ بِكَ مِنْ الْقَطِيعَةِ، فَقَالَ: أَلا تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَلِكِ لَكِ"(متفق عليه).

 

فمن أراد ثراء في المال، وطولا في العمر؛ فعليه بصلة رحمه، لما رواه أنس -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ"(متفق عليه).

 

ومن جانب آخر؛ فقد هدد -جل وعلا- أولئك القاطعين لأرحامهم، بأن لعنته ستلاحقهم حيثما كانوا، فقال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)[محمد: 22].

 

ومن بخل عن رحمه المحتاج، عُذّب في أرض المحشر، لما رواه جرير بن عبد الله -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ ذِي رَحِمٍ يَأْتِي رَحِمَهُ، فَيَسْأَلُهُ فَضْلاً أَعْطَاهُ اللهُ إِيَّاهُ فَيَبْخَلُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُخْرِجَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ جَهَنَّمَ حَيَّةٌ يُقَالُ لَهَا شُجَاعٌ يَتَلَمَّظُ فَيُطَوَّقُ بِهِ"(رواه الطبراني).

 

ولذلك حذر -صلى الله عليه وسلم- بأن قاطع الرحم لا يدخل الجنة، أي يحتمل أنه لا يدخلها مع أول الداخلين – فإما يؤخر أو يُعذب في النار ثم يدخل، حيث روى جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ، يقول: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَاطِعٌ"(متفق عليه).

والخطورة في أمر الرحم -أيضا- أنها مع الأمانة من دون سائر الأعمال، سيقفان عند أخطر كرب على المسلمين وهو الصراط؛ فلماذا ستقف الرحم في هذا المكان؟ وماذا تريد يا ترى؟  لعل وقوفها هناك لتحاج عن المحق، وتشهد على المبطل لتسقطه من الصراط؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا   فَيَقُومُ، فَيُؤْذَنُ لَهُ، وَتُرْسَلُ الأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيْ الصِّرَاطِ، يَمِينًا وَشِمَالاً، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كَالْبَرْقِ"(رواه مسلم).

 

ولذلك من أراد المرور على الصراط بسلام؛ فليصل رحمه، لما رواه عبد الله بن سلام -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَفْشُوا السَّلامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، وَصِلُوا الأَرْحَامَ، وَصَلُّوا بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ"(رواه أحمد والترمذي).

 

وتأملوا في عبارة النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما قال: "تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلامٍ"، أن من عمل بهذه الأعمال الصالحة، سيمر على جسر جهنم بسلام دون أن تمسه النار أو تخدشه الكلاليب فيدخل الجنة بسلام؛ فليحذر كل قاطع رحم من توقف عمله أو حبوطه؛ لأن عمله لا يقبل كلما عُرض يوم الخميس ليلة الجمعة.

 

أسأل الله -تعالى- أن يشرح صدورنا للإيمان وأن يوفقنا إلى صلة الأرحام وأن يعصمنا من الشيطان، أقول قولي هذا واستغفر الله العظيم من كل ذنب؛ فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله، الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين،  أما بعد:

 

فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى واحذروا كل الحذر من محبطات الأعمال؛ فإنها تورد العبد المهالك.

 

أيها الأخوة: بعد أن عرفنا أهمية صلة الرحم وخطورة قطعها؛ فقد يسأل سائل: من هم الأرحام الواجب صلتهم؟

فالأرحام ليس كما يظن بعض الناس أنهم أهل زوجتك، الأرحام جميع أقاربك من جهة الأب أو الأم، هؤلاء هم الذين يُسمّون الأقارب؛ فالآباء والأمهات والأجداد والجدات أرحام، والأولاد وأولادهم من ذكور وإناث وأولاد البنات كلهم أرحام، وهكذا الإخوة والأخوات وأولادهم أرحام، وهكذا الأعمام والعمات والأخوال والخالات وأولادهم أرحام، داخلون كلهم في قوله تعالى: (وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ)[الأنفال: 75]، أما أقارب الزوجة؛ فهم أصهار وليسوا بأرحام، وكذلك أقارب الزوج بالنسبة للمرأة أصهار وليسوا بأرحام، وإنما الأرحام أقاربك من جهة أبيك ومن جهة أمك، وهكذا أقارب المرأة من جهة أبيها ومن جهة أمها، هؤلاء هم الأرحام، أما أقارب زوجتك فهم أصهارٌ وليسوا بأرحام، وهكذا أقارب الزوج بالنسبة للزوجة أصهار، وليسوا بأرحام والإحسان إليهم والصلة بهم أمرٌ مطلوب، ولكنهم ليسوا كالأرحام، فلو لم تزرهم لا تعتبر قاطعا لرحمك. بينما بر بعض الناس أصهارهم وعقوا أرحامهم وقالوا: "كن نسيبا ولا تكن ابن عم".

 

ولما سئل الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- عن الأرحام الواجب صلتهم قال: الرحم كل القرابات رحم، لكن أقربهم في الأصول والفروع الآباء والأمهات، والأجداد والجدات، والأولاد وأولادهم هؤلاء أقارب الرحم، ثم الأخوة، ثم بنوهم أولاد الأخوة، ثم الأعمام, وأولادهم, الأقرب فالأقرب، ولهذا لما سئل الرسول -صلى الله عليه وسلم- قيل يا رسول: من أبر؟، قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أمك" قال ثم من؟ قال: "أمك" قال: ثم من؟ قال: "أباك ثم الأقرب فالأقرب" فالصلة تكون الأقرب فالأقرب بالمال وبالكلام الطيب وبالزيارة والأسلوب وبالسؤال عن حاله كل هذا نوع من الصلة.

 

ويجب على كل زوج أن لا يمنع زوجته من صلة أرحامها، ومن فعل ذلك أثم أشد الإثم ولا يلزم الزوجة طاعته في ذلك، لأن الطاعةَ في المعروف، ويمكنها أن تصل رحمها سرا إذا خشيت الضرر من زوجها. واعلموا بأن الأرحام لهم حق خاص في التغاضي عن أخطائهم، ويُتحمل منهم ما لا يتحمل من غيرهم؛ فصلوا أرحاكم ولا تقطعوها لئلا تحبط أعمالكم، وعلّموا أولادكم على ذلك، ومن صعب عليه الزيارة فليبل رحمه ولو بالسلام عبر الهاتف، فقد قال -صلى الله عليه وسلم- "بُلُّوا أَرْحَامَكُمْ وَلَوْ بِالسَّلامِ"(رواه الطبراني والبزار).

 

أسأل الله -تعالى- أن يرينا الحقُ حقا ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلا ويعيننا على اجتنابه، وأن يقينا شر محبطات الأعمال وأن يحبب إلينا الإيمان ويزينه في قلوبنا.

 

المرفقات

محبطات الأعمال (11) قطيعة الرحم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات