أولياء الله

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/حقيقة الولاية 2/شرطا الولاية 3/شرح حديث الولاية

اقتباس

فمن هو الولي؟ وما هي صفاتُه؟ وكيف يستطيعُ الإنسانُ أن يَصِلَ إلى مَرتَبَةِ الوِلاية؟ وهل يُشتَـرَطُ في الوَلِيِّ أن يكونَ مُتَفَرِّغاً للعبادَةِ والطاعة كما فعلت رُهبانُ بني إسرائيل؟ أم يمكن أن يكون المزارعُ والحدَّادُ والنجارُ والبائِعُ والطبيبُ وَلِيّاً لله؟ وهل لمن لم يشتغِلْ بالعِلمِ الشرعي أو لم يكن كثيرَ العبادةِ أن يكون...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ، ونستعينُهُ ونستغفِرُه، ونعوذُ باللهِ -تعالى- من شرورِ أنفسِنا، وسيئاتِ أعمالِنا، من يَهدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَه، ومن يُضلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلّا الله، وحدَهُ لا شريكَ له، جَلَّ عن الشبيهِ والمثيلِ والندِّ والنظير، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، وصفيُّه وخليلُه، وخِيرَتُه من خَلقِه، وأمينُه على وَحْيِه، أرسلَهُ ربُّهُ رحمةً للعالمين، وحُجَّةً على العبادِ أجمعين؛ فهدى اللهُ -تعالى- بهِ من الضلالة، وبَصَّرَ به من الـجَهالة، وكثَّرَ به بعد القِلَّة، فصلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ وعلى آلهِ الطيبين، وأصحابهِ الغُرِّ الميامين، ما ذَكَرَهُ الذاكرونَ الأبرار، وما تعاقَبَ الليلُ والنهار، ونسألُ اللهَ -تعالى- أن يجعلَنا من صالحي أمته، وأن يَحشُرَنا يومَ القيامةِ في زُمرَتِه.

 

أما بعد:

 

أيُّها الإخوةُ الكِرام: خَصَّ اللهُ -تعالى- سَيِّدَنا محمداً -صلى الله عليه وسلم- بجوامِعِ الكَلِم، وأعطاهُ القُدرَةَ على اختصارِ المعاني العظيمة في كلماتٍ قليلة، وقد دَأَبَ أهلُ العلم على العنايةِ بشرحِ ألفاظِ حديثهِ -صلى الله عليه وسلم-، حتى إنهم قد أفْرَدوا لحديثٍ واحدٍ مؤلفاتٍ خاصةً وشرحوهُ شروحا مُطَوَّلَة؛ وذلك لما تَشتمِلُ عليه أحاديثُه -عليه الصلاة والسلام- من الحِكَمِ الجسيمة والعِبَرِ العظيمة، ومن هذه الأحاديثِ التي تَستَحِقُّ النظرَ فيها والتأمُّلَ في معانيها: الحديثُ القُدسيُّ الذي يرويهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عن رَبِّهِ قال: "إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ"(رواه البخاري).

 

فمن هو الولي؟ وما هي صفاتُه؟ وكيف يستطيعُ الإنسانُ أن يَصِلَ إلى مَرتَبَةِ الوِلاية؟ وهل يُشتَـرَطُ في الوَلِيِّ أن يكونَ مُتَفَرِّغاً للعبادَةِ والطاعة كما فعلت رُهبانُ بني إسرائيل؟ أم يمكن أن يكون المزارعُ والحدَّادُ والنجارُ والبائِعُ والطبيبُ وَلِيّاً لله؟ وهل لمن لم يشتغِلْ بالعِلمِ الشرعي أو لم يكن كثيرَ العبادةِ أن يكون ولياً لله ويَنطَبِقَ عليهِ هذا الحديثُ العظيم؟

 

أيُّها الإخوةُ المؤمنون: بَيَّنَ اللهُ -جَلَّ وعلا- في كتابهِ صِفَةَ هؤلاءِ الأولياءِ؛ فقال تعالى: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون)[يونس:62]؛ فلا خوفٌ عليهم مما يجدونَه عندَ اللهِ ويستقبلونه في الآخِرة، ولا يَحزنونَ على ما خَلَّفُوهُ في الدنيا؛ فاللهُ -تعالى- وليُّهم في أولادِهم يحفظُهم ويَكفيهم الشرَّ حتى بعد مماتَهم، ثم ذكرَ الله -تعالى- صِفَتَهم فقال جلَّ وعلا: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون)[يونس:63]، وقال سبحانه وتعالى: (إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون)[الأنفال:34].

 

فليست الولايَةُ أن يَلُفَّ المرءُ على رأسهِ عمامةً ثم يتفرَّغُ للعبادةِ في المسجد؛ كلا! بل إنه لما: جَاءَ ثَلاَثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا، فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-؟ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ.

 

فهم سألوا عن عِبادَتِهِ كم يُصلي في اليوم والليلة؟ كم يَقرأُ من القرآن؟ كم يَصومُ من الأيام؟ فلما أُخبِروا بعبادته وإذا هو -عليه الصلاة والسلام- يصلي وينام، ويصوم ويفطر، ويقرأ القرآن، ويتحدث مع أهله ويمازِحُهم؛ فليسَ كلَّ وقتهِ قراءةٌ للقرآن، وليست كلَّ أيامهِ صيامٌ متواصل! فكأنهم تَقالّوا ذلك، فقالوا لبعضِهم: هو رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- وقد غُفِرَ له ما تقدَّمَ من ذنبهِ وما تأخَّر،"فقَالَ أَحَدُهُمْ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلاَ أُفْطِرُ، وَقَالَ آخَرُ: أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلاَ أَتَزَوَّجُ أَبَدًا(رواه البخاري ومسلم)، وفي رواية لمسلم قال: "لَا آكُلُ اللَّحْمَ".

 

فهل شَجَّعَهم النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- على ذلك؟ هل قال: نعم تقرَّبوا إلى الله أكثر؟ كلا، بل نهى عن ذلك. حيثُ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: "أَنْتُمُ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا، أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ؛ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".

 

أيُّها المسلمون: لن تكونَ للهِ ولياً ما لم يَتَحققْ فيك الشرطان: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون).

الأول: الإيمان؛ الذينَ آمنوا باللهِ وعظَّموهُ واتبعوا شَرعَهُ ولم يُشرِكوا به شيئا.

 

الثاني: التقوى؛ أي اتَّقَوا المعاصيَ أن يَنطرِحوا فيها أو أن يُقارِفوها، فيَتَّقي النَّظَرَ أو التكلُّمَ أو الاستماعَ إلى حرام، أو أن يُقّصِّرَ في حقِّ والديه، يتقي أن يأكُلَ أموالَ الناس بالباطل، يتقي أن يَحمِلَ في قلبهِ حِقداً على المسلمين، يتقي أن يَحسِدَهم على ما آتاهم اللهُ من فضله، هؤلاء هم الأولياء: (إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون).

 

قال: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ"؛ فمن عادى وَلِيَّ اللهِ لأجلِ أمرٍ ديني فقد آذَنَهُ اللهُ بالمحاربة، وأيُّ مصيبةٍ أعظمُ من أن يُسَلِّطَ اللهُ -تعالى- جُنداً على المرءِ مُحارباً له وهو لا يعلمُ عن هؤلاءِ الجُند؛ فيسلطَ عليهِ جنودَ (المرض)، ويسلطَ عليه جنودَ (الهمومِ والغموم)، ويسلطَ عليه جنودَ (عقوقِ أولادِه)، ويسلطَ عليه جنودَ (نَزْعِ السعادةِ من قلبه)؛ فلا تزالُ جنودُ اللهِ تُحارِبُ هذا المرء؛ فلينظر لماذا حارَبَتْه؟ ربَّما أنه عادَى ولياً من أولياءِ الله، شعر بذلك أو لم يشعر.

 

وقوله: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ" فأحبُّ العباداتِ إلى اللهِ: الفرائضُ التي فَرَضَها عليك؛ الصلواتُ الخمسُ وصِيامُ رمضانَ والزكاةُ الواجبةُ والحجُّ الواجبُ، وهي أحبُّ إلى اللهِ -تعالى- من صلاةِ الضُّحى ومن صلاةِ الليلِ ومن الصدقاتِ العامة، ومن صيامِ الاثنينِ والخميسِ وعاشوراءَ، ومن الحجِّ النافلة.

 

أيُّها المؤمنون: إذا عَظَّمَ المسلم الفرائِضَ وقامَ بها سَيَصِلُ -بإذنِ اللهِ- إلى مرحلةِ الولاية، يقول عليه الصلاة والسلام مُبيِّناً فضائِلَ هذه الفرائض: "اسْتَقِيمُوا، وَلَنْ تُحْصُوا، وَاعْلَمُوا أَنَّ خَيْرَ أَعْمَالِكُمُ الصَّلَاةَ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ"(رواه أحمد وصححه الألباني)، وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "الصَّلَاةُ خَيْرُ مَوْضُوعٍ؛ فَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَسْتَكْثِرَ فَلْيَسْتَكْثِرَ"(رواه أحمد والطبراني وحسنه الألباني).

 

فالصلاةُ خيرُ ما وُضِعَ في الأوقات؛ فقد كَانَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَكُونُ فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ (رواه البخاري)؛ فالنبيُّ -صلى الله عليه وسلم- كانَ ينشغلُ مع أهلهِ في حاجةِ البيت، لكنَّهُ إذا سَمِعَ المؤذِّنَ خرجَ إلى الصلاة؛ فهذا الوقتُ منذُ أن يُؤَذَّنَ هوَ لله، ليسَ لزوجةٍ ولا لولد، وليسَ لكمبيوتر أنتَ جالسٌ عليه، ولا لجريدةٍ تتصفحُها، ولا لبرنامجٍ تُتابعُه؛ هذا الوقتُ لله.

 

وما تَقَرَّبْتَ إلى اللهِ بأعظمَ من هذهِ الفرائِضِ -بعد التوحيد-؛ ولذلكَ عَظِّمْ أمرَ صلاةِ الفريضةِ وأقِمْها في أوقاتِها مع الجماعة، استَيقِظْ لصلاةِ الفجر، ولا تَنَم عن صلاةِ العصر.

 

وعَظِّمْ أمرَ زكاتِك؛ فانظُرْ كم أوجبَ اللهُ -تعالى- عليك؟ عَظِّمْ أمرَ صومِكَ إذا صُمْتَ في رَمَضان؛ فلا تَخْرِمْ صَومَكَ بشيءٍ من المعصيةِ أو بما يُنقِصُه، عَظِّم أمرَ حَجِّكَ وعُمرَتِك المفروضة.

 

أيُّها الأحبَّةُ الكرام: قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ" يدل على أن الوليّ لا يقتصرُ على أداءِ الفرائِضِ، بل يحرصُ على النوافلِ أيضاً؛ فإذا جلسَ في الضحى تذكَّرَ قولَ النبي -عليه الصلاة والسلام-: "صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ حِينَ تَرْمَضُ الْفِصَال"(رواه مسلم)، فقامَ وصلى الضحى. ثم إذا وضَعَ رأسَهُ لينامَ بالليلِ وقد صلى الفرائضَ تذكَّرَ أنه لم يُصّلِّ الوِتْرَ، تلك الصلاةُ التي حرصَ عليها النبي -عليه الصلاة والسلام- حضراً وسَفراً، وهي من جُملةِ قيامِ الليل الذي يحبهُ ربهُ سبحانه، فقام وصلى الوترَ ولو ركعةً واحدة.

 

والوليُّ دائمُ التقرُّبِ إلى اللهِ بالنوافلِ؛ فتراهُ يُبَكِّرُ إلى المسجدِ؛ ليصليَ قبلَ الفريضَةِ نوافِلَها؛ لأنهُ -عليه الصلاة والسلام- قال: "مَنْ صَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعًا بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ"(رواه أحمد وصححه الألباني).

 

وهو يحرصُ على أن يُصلِّيَ بينَ الأذانِ والإقامة؛ لقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: "بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلاَةٌ"(متفقٌ عليه).

 

ويَحرصُ على كلِّ أمرٍ فيه نفلٌ وتطوع، فيصومِ الإثنين والخميس، ويحرصُ على الصدقة، بعد أن أدَّى زكاةَ مالِه؛ فكأنَّهُ يقول: يا رَبِّ أنا عملتُ بالفرائضِ التي أوجبتَ عليَّ، وهي أحبُّ العباداتِ إليك، لكنِّي لحبي لك، وحِرصي على التَّقَرُّبِ إليك لا أزالُ أتقربُ وأتقربُ إليك بالنوافل؛ فهذهِ صدقةُ سِرٍّ يا رب وأنت تراني، وهذه صلاةُ ضحى وأنت تراني، وهذه سنةُ الفجرِ وأنت تراني، وهذه صلاةُ الوتر وأنت تراني، وهذا صومُ نافلة وأنت تراني، وهذه عمرَةٌ وذلك حَجٌّ.

 

أيُّها الأحبَّةُ في الله: وما يزالُ هذا الوليُّ يرتفعُ شأنُهُ حتى يكونَ ممن قال الله فيهم: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)[المائدة:54] حتى يرتفعَ إلى درجةِ المقربينَ من ربِّهم.

 

ثم قال: "فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا" فإذا وصلتَ إلى مرحلةِ المحبَّة، وامتلَأَ قلبُك بحبِّ اللهِ وتعظيمهِ، وصنَعَتِ الصلاةُ في قلبِكَ ما تصنَعُ من خشوعٍ وانكسارٍ وإصلاح - عندَها يصبحُ سمعُكَ لا يسمعُ إلّا ما أباحَهُ الله؛ فكيفَ لأُذُنِ الوليِّ أن تقبلَ سماعَ الحرام، وهذا معنى "كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ".

 

قال: "وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ"؛ أي يصبحُ بصرُكَ لو عُرِضَ أمامَه شيءٌ محرمٌ زاغَ عنهُ وانصرف، وغطَّى العينين؛ فلا يستطيعُ أن ينظرَ إلى محرم؛ لأنَّ قلبَه عُمِّرَ بالصلاحِ والتقوى فلا يقبلُ ذلك.

 

قال: "وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا" هي التي يستعملُها في الأخذِ والرَّد؛ فتجدهُ لا يمدُّ يدَهُ إلى كأسِ خمرٍ، ولا يمدُّ يدَهُ إلى محرمٍ من سيجارةٍ أو مخدراتٍ أو نحوِ ذلك؛ لأن اليدَ تعوَّدَت على السجود، والصدقةِ والتسبيحِ والتهليلِ، فإذا مُدَّت إلى محرمٍ منعَها القلبُ والتقوى من أن تمد إليه.

 

قال: "وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا" حتى إنَّهُ لو هَمَّ أن يمشيَ إلى محرمٍ لم تُطاوِعهُ رجلهُ إلى ذلك؛ لأن القلبَ مَلِكُ الجوارحِ قد صَلُح، وبالتالي لا يأمُرُ الجوارحَ إلّا بحلال.

 

أيُّها المسلمون: ما يَستفيدُهُ العبدُ بعدَ هذه المحبة، وهل هذا الأجرُ في الآخرةِ فقط؟ أم يشملُ حوائجَ الدنيا؟

 

لا شكَّ أنَّ اللهَ -تعالى- سيُعجِّلُ له الثوابَ والسعادةَ في الدنيا، مع ما يَدَّخِرُهُ له في الآخرة؛ فلو قال يدعو في أمور الدنيا: يا رّبِّ أسألُك أن تَشفيَ ولدي المريض، أسألُكَ أن تقضيَ ديني، يا ربِّ أسألك أن تُوفِّقَ أولادي في دِراسَتِهم، يا ربِّ أعوذُ بك من أذى فلان أن يؤذيَني، يا ربِّ أعوذ بك من هذا المرض أن يصيبَني، يا رب أعوذ بك من أن يحصلَ كذا وكذا لولدي - استجابَ اللهُ له: "وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ".

 

والنبيُّ -صلى الله عليه وسلم وهو أعظمُ الأولياءِ- قد استجابَ اللهُ له في مواقفَ كثيرةٍ على مرأى ومسمعٍ من الصحابة؛ ففي معركةِ بدر: قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ نَظَرَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَهُمْ أَلْفٌ، وَأَصْحَابُهُ ثَلَاثُ مِائَةٍ وَتِسْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، فَاسْتَقْبَلَ نَبِيُّ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- الْقِبْلَةَ، ثُمَّ مَدَّ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ: "اللهُمَّ أَنْجِزْ لِي مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ آتِ مَا وَعَدْتَنِي، اللهُمَّ إِنْ تُهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا تُعْبَدْ فِي الْأَرْضِ"، فَمَا زَالَ يَهْتِفُ بِرَبِّهِ، مَادًّا يَدَيْهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، حَتَّى سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ مَنْكِبَيْهِ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، ثُمَّ الْتَزَمَهُ مِنْ وَرَائِهِ، وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ، كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ، فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ، فَأَنْزَلَ اللهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ)[الأنفال:9] فَأَمَدَّهُ اللهُ بِالْمَلَائِكَةِ (رواه مسلم).

 

أيُّها الأحبَّةُ الكرام: وقد استجاب الله لأوليائه الصادقين وعباده المخلصين من الصحابةِ الكِرامِ والسلَفِ الصالحِ من بعدِهم؛ فهذا سعدُ بن أبي وقاص وكان رجلاً تقياً وهو خالُ رسولِ اللهِ -عليه الصلاة والسلام-، فقد سمعَ رجلاً يسبُّ عليَّ بن أبي طالب -رضي الله تعالى عنه- فنهاهُ، ثمَّ عادَ الرجلُ يسبُّ علياً فنهاهُ، ثم عادَ ثالثةً يَسُبُّ عليًا، قال فرفعَ سعدٌ يديهِ قال: "اللهمَّ اكفِنا شَرَّهُ، وسَلِّطْ عليهِ جُنداً من جُندِك". قال: فما أتمَّ دعوَته، والرجلُ واقفٌ إلّا وقد نَدَّ بعيرٌ كانَ يرعى فانطلقَ من مكانِه، فضربَ الرجلَ فوقعَ، فأخذَ يطأُ على وجههِ حتى قتلَهُ، وهم يَـرَون، (رواها ابن الأعرابي في معجمه).

 

وقد أقبلَ رجلٌ إلى الإمامِ أحمدَ بن حنبل -رحمه الله- "وكانت أمهُ مُقعدَةٌ نحوَ عشرين سَنة، فقالت له يومًا: اذهب إلى أحمدَ بن حنبل فَسلْهُ أن يَدعوَ اللهَ لي، فَدَقَّ عليهِ البابَ وهو في دارِه، فلم يُفتحْ لي، وقال: مَن هذا؟ فقال: أنا رجلٌ من أهلِ ذاكَ الجانب، سألَتني أمي -وهي زَمِنةٌ مُقعَدةٌ- أن أسألَكَ أن تدعوَ اللهَ لنا، فسمعتُ كلامَه كلامَ رجلٍ مُغْضَب.

فقال: نحنُ أحوجُ إلى أن تدعوَ اللهَ لنا، فولَّيتُ مُنصرفًا؛ فَخرجَت عجوزٌ من دارِه، فقالت: أنتَ الذي كلَّمتَ أبا عبد الله؟ قلتُ: نعم، قالت: قَد تركتُه يدعو اللهَ لها، قال: فجئتُ من فَوري إلى البيت، فَدققتُ الباب، فَخرجَتْ أمي على رجلَيها تمشي، حتى فتحت الباب، فقالت: قد وهبَ اللهُ ليَ العافية"(ذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة).

 

ثم خُتِمَ هذا الحديثُ القدسيُّ بقوله: "وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ المُؤْمِنِ، يَكْرَهُ المَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ".

 

وهذا فيه دلالةٌ على أنَّ اللهَ -تعالى- يُقَدِّرُ لهذا العبدِ في أمرِ دينهِ ودنياهُ وأولادِهِ ومالهِ وحياتهِ وزوجتهِ وإخوانهِ ووالدَيهِ ما يحب، لدرجةِ أنَّ اللهَ -تعالى- يقول: وما تَردَّدتُ عن قبضِ روحهِ حتى لا يَحزنَ بورودِ الموتِ عليه.

 

أقولُ ما تَسمعونَ وأستغفِرُ اللهَ الجليلَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ فاستغفروهُ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقهِ وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ تعظيماً لشأنه، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه الداعي إلى رِضوانِه، صلى الله وسلم وباركَ عليه وعلى آلهِ وصحبهِ وإخوانِهِ وخِلَّانِه، ومن سارَ على نهجهِ، واقتَفى أثَرَهُ واستَنَّ بسنتهِ إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيُّها الإخوةُ الكرام: لا يَصِلُ المرءُ لمرحلةِ الولايةِ إلّا إذا حقَّقَ التقوى والإيمانَ في قلبه؛ فأسألُ اللهَ -تعالى- أن يجعلَنا جميعاً من أوليائِه، أسألُ اللهَ أن يملأَ قلوبَنا بتقواه، أسألُ اللهَ أن يملأَ قلوبَنا بالإيمانِ به وتَقواه، أسألُ اللهَ أن يملأَ قلوبَنا إيمانًا به وتُقَىً، وأن يَرفعَنا إلى درجةِ أن نكونَ من أوليائِه.

 

اللهمَّ إنا نسألُكَ من الخيرِ كلِّهِ عاجلهِ وآجله، ما علمنا منهُ وما لم نعلَم، ونعوذُ بك ربَّنا من الشرِّ كلِّه عاجلِه وآجلِه، ما علمنا منه وما لم نعلَم.

 

اللهم إنا نسألكَ عيشَ السُّعَداء وموتَ الشهداء والحشرَ مع الأتقياء ومُرافَقَة الأنبياء.

 

اللهمَّ إنا نعوذُ بكَ ربَّنا من جهدِ البلاء، ودَرَكِ الشقاء، وسوءِ القضاء، وشماتَةِ الأعداء، ونعوذُ بكَ من زوالِ نعمتِك، وفُجاءَةِ نِقمَتِك، وتَـحَوُّلِ عافِيَتك، وجميعِ سخطك.

 

اللهم اغفِرْ لنا ولآبائِنا وأمهاتِنا، اللهمَّ من كانَ منهم حيًّا فمتِّعْهُ بالصحةِ على طاعتِك، واختِم لنا وله بخير، ومن كان منهم ميِّتًا فوَسِّعْ له في قَبرِه، وضاعِفْ له حسناتِه، وتجاوَزْ عن سيئاتِه، واجمَعنا به في جنَّتِك يا ربَّ العالمين.

 

اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمد كما بارَكتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيمَ، إنَّكَ حميدٌ مجيد.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)[الصَّافَّاتِ:180-182]

المرفقات

أولياء الله

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات