شرح البشارة النبوية: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار" وشرح قوله: "إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر"

خالد بن عبدالرحمن الشايع

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- للتفاؤل 2/ شرح حديث: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار" 3/ شرح حديث: "إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر" 4/ نموذج معاصر في نصرة رجل فاجر لهذا الدين

اقتباس

وهذا لا يعارضه ما جاء في حديث آخر: "إنا لا نستعين بمشرك"؛ فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حينما قال: "إنا لا نستعين بمشرك"، إنما كان هذا في شأن إنسانٍ يريد أن يدخل في تفاصيل أهل الإسلام، أما أن يكون خادمًا ومؤيدًا وناصرًا لقضايا يحتاج إليها المسلمون فهذا مما كان يرحب به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويذهب إلى فعله في تعاقده وإقامته، وما يؤيد هذا الأمر...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفرُه ونتوبُ إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومَن تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة المؤمنون: إنَّ من هدي نبينا محمدٍ -صلى الله عليه وآله وسلم-: نشرَ التفاؤل، وإشاعةَ الطمأنينة، وتوقُّع الخير من الله -سبحانه وتعالى- على وجه اليقين والتصديق المطلق بما وعد الله -جل وعلا- به، ويتأكد نشر هذا الفأل كلما عرض للمسلم أو للمسلمين ما قد يجعلهم أو يجعل المسلم يتسرَّب إليه شيءٌ من القنوط؛ فإنَّ القنوط واليأس مما تَمنعه الشريعة، والواجب على المسلم أن يكون متعلقًا بالأمل العظيم، والتوكل الكبير على العزيز الرحيم.

 

وفي سياق ذلك نتوقف وإياكم -أيها الإخوة المؤمنون- مع حديثٍ نبوي تحدَّث به الصادق المصدوق رسولنا محمد -صلى الله عليه وآله وسلم-، فيه البشارةُ العظمى، والنذارةُ الكبرى، بشارة عظمى لأهل الإسلام، ونذارة عظمى لمن عارضه، وظنَّ أنه سيكون مانعًا من انتشاره ومن ظهوره، بعد أن قضى الله وحكم أنَّ الظهور لهذا الدين والبقاء له بأمر رب العالمين.

 

وفي غضون ذلك أوضِّحُ أيضًا حديثًا يُعدُّ عجبًا من العجائب ومعجزةً من المعجزات، وهو قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر".

 

أما الحديث الذي قبل هذا الحديث الأول، فهو ما رواه الصحابي الجليل تميم بن أوس الداري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك اللهُ بيتَ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخَله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليلٍ، عزًّا يُعِزُّ الله به الإسلامَ، وذلًّا يُذِلُّ الله به الكفر" (رواه الإمام أحمد والطبراني والبيهقي، وصحَّحه الحاكم والعلامة الألباني).

 

هذا الحديث العظيم يقرِّر فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- أمرًا عظيمًا، وهو انتشار هذا الدين، ولذلك كان تميم -رضي الله عنه- يقول: "قد عرَفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب مَن أسلَم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب مَن كان منهم كافرًا الذلُّ والصَّغارُ والجِزية".

 

وفي هذا السياق أيضًا يروي الصحابي الجليل المقداد بن الأسود -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا يَبقى على ظهر الأرض بيت مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعزِّ عزيزٍ أو ذل ذليلٍ؛ إما يُعِزُّهم الله فيجعلهم من أهلها، أو يُذلُّهم فيَدينون لها" (رواه أحمد والطبراني، وصحَّحه ابن حِبَّان والحاكم، وغيرهما).

 

فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقرِّر: "ليبلغنَّ هذا الأمر"، وهو الإسلام، ليبلغن إلى أين؟ "ما بلغ الليل والنهار"، وهل على وجه الأرض موضع لا يبلغه ليل ولا نهار؟! كلَّا، فهذا الإسلام سيصل إلى كل موضع، سيصل وتظهر به الحجة، ولذلك قال -عليه الصلاة والسلام- مؤكِّدًا هذا الأمر: "ولا يترك الله بيت مدرٍ"؛ بيت طين؛ بيتًا بُنِي من المواد المعروفة من التراب أو الطين أو الإسمنت، أو غير ذلك، "ولا وَبَرٍ" ولا بيتًا مؤقتًا كبيوت الصوف وغيرها، "إلا أدخله الله هذا الدين"، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقرر أنه سيبلغ هذا الأمر -أي الإسلام برسالته- وأمر فوق هذا، وهو أن هذه البيوت التي فيها غير المسلمين ولو في ديارهم، سيكون منهم مَن يشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله.

 

نعم؛ هذا الأمر حاصل، وقد وقع في القديم، ولذلك نجد أنَّ الناس دخلوا في دين الله أفواجًا في ديار ما كان يُعرف فيها الإسلام، فأخرج الله من ظهورهم من يعبد الله لا يُشرك به شيئًا، أمنية رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لَمَّا قال له ملك الجبال في تلك اللحظات التي آذى فيها المشركون رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنْ شئت كما أمرني ربي أن أُطبق عليهم الأخشبين" أن أُهلك أولئك الكفرة الذين كذبوا بك وآذوك، قال: "لا؛ لعل الله أن يُخرج من أصلابهم من يَعبد الله لا يُشرك به شيئًا"، وتحقَّقت أمنيته -صلى الله عليه وسلم-.

 

وتأملوا حينما يقرِّر النبي -صلى الله عليه وسلم- ظهور هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، سوف تُرغَم الأنوف أمام هذا الدين؛ فالله يُعِزُّ مَن التحَق به، فيجعل له الخير والشرف والظهور، وأما من عارضه فإنَّ الله يُذله، وأعظم الذل له أن يبقى على كفرِه.

 

وتأملوا تلك البدايات الأولى حينما أظهر مَن أظهر من غير المسلمين إعزازَهم لرسول الله ولسفرائه ولرسائله، أبقى الله مُلكهم لمَّا كرَّموا رسوله، جعل الله لهم نوعًا من الكرامة كما كان لهرقل؛ فإن هرقل لمَّا بلغه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظَّمه وأبقاه، ووقع من نفسه موقعًا عظيمًا، وأعلن بين القوم: لو أني أستطيع أن أنفذ إلى محمد، لغسلت عن قدميه، أما كسرى فإنه لعنجهيته وغطرسته وكِبْره لمَّا بلغه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكريم، مزَّقه فبلغ الوحي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في تلك اللحظة إن كسرى صنع بكتابك كذا، وإن الله -سبحانه- مزَّق ملكه، فكان كذلك، فباد كسرى ولم يبقَ له من أثر، وانتقض ملكه وانهدَّ عرشه، بينما هرقل بقي الملك فيه وفي أولاده وقومه من بعده.

 

هذا لمجرد الحفاوة والتكريم للكتاب النبوي؛ فكيف بمن تبِعه وأظهر إسلامه؟! وعلى الضد من ذلك مَن عارض هذا الدين.

 

والمقصود أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قرَّر هذا الأمر كما في حديث تميم هذا، وكذلك في حديث المقداد بن الأسود.

 

وتأملوا هذه المقولة النبوية الدقيقة فإنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كَلِمه من الجوامع، وفي كَلِمه وفي غضونه وتحته من المعاني ما يجدر تأمُّله والنظر فيه؛ فالرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار"،؛ فكل لحظةٍ يبلغها ليل أو نهار، أو أجزاء منه؛ فالإسلام قد بلغ هذا المكان، ولذلك في هذه اللحظة التي نقوم فيها هذا المقام، ونتهيَّأ لصلاة الجمعة هنالك في المشرق مَن قد قضوا صلاتهم، ورفعوا أذانهم بالتوحيد، أشهد أن لا إله إلا الله وأنَّ محمدًا رسول الله، وهنالك في المغرب من بعدنا مَن ينتظر رفع هذه الشهادة، فأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، تدور على الأرض من مشرقها إلى مغربها، ولا يكاد يخلو قُطر ولا بلد إلا وفي اللحظة التي يبدأ فيها هذا المؤذن، يكون قبله قد قضى وانتهى من هذا النداء من قبله في المشرق، وينتظره من بعده في المغرب، وهذا من إظهار هذا الدين، ويدخل في ذلك أن الإسلام ظاهر بيِّنٌ عُرفت أصوله وعُرِفت أحكامه، وعُرِفت هدايته، ولا ريب أن الذين يحاولون الوقوف في طريقه إنما يحاولون أمرًا مستحيلًا؛ لأنَّ الله حَكَمٌ لا معقِّب لحكمه -جل وعلا-.

 

ولذلك قرَّ الله -جل وعلا- هذا الأمر في قوله سبحانه: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) [التوبة:32]، إذا أبى الله مراد المجرمين؛ فكيف لهم أن يُنفذوا ما خطَّطوا له؟ فهَيْهات هيهات أن يصلوا إلى هذا المراد، وانظروا إلى تحقير الله لشأنهم فإن كل الجهود التي تُبذلُّ لصدِّ الناس عن الدين داخلةٌ في هذا الوصف بأفواههم: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ)، فمنتهى تخطيطهم وتدبيرهم وسهرهم الليل والنهار، ومكرهم الليل والنهار، هو هذا الوصف (بِأَفْوَاهِهِمْ) بكذبهم وتلفيقهم وادعائهم، وهل يستطيع أحد أن يحجب ضوء الشمس في رابعة النهار، ليس دونها سحاب ولا قتر؟! هيهات هيهات، والله يقول مؤكدًا هذا الأمر: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة:32-33]، فهم يريدون أن يطفئوا نور الله، وهو ما بعَث به نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم، ولذلك مثلهم كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخة من فمه، وهذا لا سبيل إليه، وكذلك ما أرسل الله به نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، لا بد أن يتم ويظهر، وقد تمَّ وظهر في بواكير هذه الرسالة العظيمة، وسيبقى إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولذلك يقول الله: (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ).

 

والله -سبحانه وتعالى- قد بشَّر نبيه -عليه الصلاة والسلام- بذلك -كما تقدم في حديث تميم، وكما تقدم في حديث المقداد بن الأسود- وذلك بما ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ الله زوى لي الأرض، فرأيت مشارقَها ومغاربَها، وسيبلغ مُلك أُمتي ما زُوِي لي منها"، تأملوا أنَّ هذه الأرض بكل مساحاتها جعَلت بين يدي محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، والله يريه ويُطلعه إلى أيِّ مكان سيبلغ هذا الدين، وسيبلغ مُلك أُمته، فوجد أنَّه قد شرَّق وغرَّب، وكان الأمر كذلك!

 

ويوضح هذا أيضًا ما جاء في المسند عن عدي بن حاتم -رضي الله عنه- قال: دخلت على رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: "يا عَدِي، أسلِمْ تَسْلَمْ، يا عدي، أَسْلِمْ تَسْلِمْ"، فقلت: إني من أهل دين -يعني: أنا يا محمد كما أنك على دين جئتَ به من عند الله، فأنا على دين جاء به عيسى من عند الله-، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أنا أعلم بدينك منك" -وصدق صلى الله عليه وسلم-، قال عدي: فقلت: أنت أعلم بديني مني؟! -يستغرب في ذلك-، فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "نعم ألست من الرَّكوسية، وأنت تأكل مِرباعَ قومِك؟" -يقول: ألست أنت من هذه الطائفة الرَّكوسية التي فيها تحريم أن يُؤكل مِرباعَ قومه، وهو ما بأيديهم ويفرضونه عليهم كنوع من الضرائب والمكوس- فقال له عدي: قلت: بلى، قال: "فإنَّ هذا لا يَحل لك في دينك"، قال عدي -رضي الله عنه-: فلما قالها، تواضَعت لها -يقول عدي: إنه لَمَّا قال النبي -صلى الله عليه وسلم- وأخبرني بهذا الأمر، تواضعت لهذه الكلمة-.

 

فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أما إنِّي أعلم ما الذي يَمنعك من الإسلام، تقول: إنما اتَّبعه ضَعَفَةُ الناس ومَن لا قوة له، وقد رَمَتْهم العربُ؛ أتعرف الحِيرة؟"، قلت: يقول عدي: لم أرها وقد سمعت بها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "فوالذي نفسي بيده، ليُتِمَّنَّ الله هذا الأمر" -هذا الدين، هذا الإسلام سيعظم ويظهر-، "حتى تخرج الظعينة من الحيرة، حتى تطوف بالبيت من غير جوارِ أحدٍ" -الحيرة من بلاد الشام، تظهر الظعينة (المرأة) تقطع هذه المسافات حتى تبلغ الكعبة زائرة وتؤم بيت ربها، لا تخاف ولا تريد جوار أحدٍ؛ لأنهم إنما كانوا يقطعون الصحاري بجوار وحماية من القبائل التي يمرون بها، والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: إن المرأة التي تستضعف سيأتي زمان تخرج من تلك الديار، حتى تبلغ مكة ليست بحاجة إلى حماية أحد من قبيلٍ ولا غيره-.

 

ثم قال -عليه الصلاة والسلام-: "ولتُفتحنَّ كنوز كسرى بن هرمز"، قال عدي: كسرى بن هرمز؟! -يعني هذا الملك القوي الكبير بدولته-، قال -عليه الصلاة والسلام-: "نعم كسرى بن هرمز، وليُبْذَلَنَّ هذا المال حتى لا يقبله أحدٌ" -سيطاف بالمال يُقدَّم لمن يحتاج إليه، فلا يأخذه أحد؛ لأن الناس في عن-ى، قال عدي بن حاتم: فهذه الظعينة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت، يقول عدي: مضى الزمان وظهر الإسلام، ودولة النبي -صلى الله عليه وسلم-، والخلفاء الراشدين من بعده، فرأيت الظعينة المرأة تخرج من الحيرة، فتطوف بالبيت من غير جوار أحد، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز، والذي نفسي بيده، لتكوننَّ الثالثة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالها.

 

وقد كانت الثالثة؛ ففي عهد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله ورضي عنه- كان يظهر عامل الصدقة ليبحث عمن يحتاجها، ومن هو من أهلها، فلا يجد من يأخذها؛ وذلك لقيامه بالعدل ووفائه بحاجات رعيته.

 

والمقصود في هذا المقام أنَّ النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قرر ظهور الإسلام، وعِزَّه وعِزَّ مَن يَتَّبِعه، وذلَّ مَن يُعارضه، ولو وُجِد شيء من معارضة أهل الضلال لهذا الدين فإنما هو أمر مؤقت لا يلبث أن يُذهب الله شأنهم ويُضعف قواهم، ويَكيد لهم كما يكيدون للإسلام؛ فالحمد لله على ما أتم وأنعم، وله الشكر على ما تفضَّل به وتكرَّم، وهو القائل -جل في علاه-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) [المائدة:3].

 

بارَك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي النبي الكريم.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وصلى الله وسلم على عبد الله ورسوله نبينا محمد، صلى الله عليه وعلى آله واصحابه وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فما أطيب هذا الحديث! وما ألذ هذه البشارة! وما أعظم أثرها على قلب المؤمن! "ليبلغنَّ هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيتَ مدَرٍ لا وبرٍ، إلا أدخله الله هذا الدين بعزِّ عزيز أو بذلِّ ذليل، عزًّا يُعز الله به الإسلام، وذلًّا يُذل الله به الكفر".

 

ثم إنَّ من العجائب الكبار أن الله -سبحانه- يُسخر لهذا الدين الأمور التي لا تخطر على البال؛ حتى يقيم الحجة على عباده، ولا يوجد عذر لأحد في استنكافه عن اتباع هذا الدين: (رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) [النساء: 165].

 

ومن العجائب في هذا السياق أيضًا: أنَّ الله -سبحانه- قد يُهيئ من غير المسلمين مَن يخدم هذا الدين؛ فمن خدم هذا الدين من أهل الإسلام فهو عزٌّ له؛ فاتباع هذا الدين والدخول في سواد المسلمين، عزٌّ وفخر ونعمة -وأي نعمة-، وفوقها من النعم أن يكون الإنسان مُساهمًا في نشر هذا الدين، وفي إبلاغه للعالمين! وهذا الفضل والشرف ليس مقصورًا على أهل العلم بالشريعة؛ فكل مسلم مخاطب بهذا، وكل أحد صاحب مسؤولية مخاطبٌ بهذا على وجه التكليف؛ فإن قام به كان داخلًا فيه على وجه التشريف، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يخاطبك -يا عبد الله- أنت نفسك، يا من شُرِّفت بالإسلام: "بلِّغوا عني ولو آية"؛ فهل قمت بذلك؟! وهل أدَّيت هذا؟! ولا يلزم أن يكون ذلك منك لغير المسلمين فحسب، بل إن مدارستك وتعلُّمك لآية من كتاب الله، أو لحديث من حديث رسول الله، ونشرك له وتعلُّمك وتعليمك له، يدخل في هذا الفضل العظيم.

 

أقول في هذا السياق: من العجب الكبير أنَّ الله يسخر من ليس بمسلم ليخدم هذا الدين؛ وهذا يدل عليه ما ثبت في الصحيحين عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: "إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر"؛ يعني أنَّ الله ينصر دين الإسلام، حتى بأشخاص ليسوا من المسلمين، "بالرجل الفاجر"؛ سواء أكان كافرًا غير مسلم، أو مسلمًا عنده فسوق وعصيان؛ فإن الله يسخر هذه القلوب ويُهيئ هذه النفوس حتى تكون خادمة لدينه، ولنا فيما كان من النجاشي ملك الحبشة، حينما هاجر إليه المسلمون هربًا من بطش قريش بتوجيهٍ من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فذهبوا إليه -وكان نصرانيًّا-، فلما بلغه كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عظَّمه، ومن تعظيمه له أنه نزل من كرسيه وجلس على الأرض، تعظيمًا لهذا الكتاب النبوي، ثم كان المسلمون بعد ذلك في حمايته وفي رعايته مع أنه كان إذ ذاك غير مسلم.

 

وهكذا ما يكون من غير المسلمين في أحوال شتى، ينصر الله هذا الدين برجل غير مسلم، وهذا أمر مشاهد اليوم في زماننا، ومتكرر كثيرًا، وذلك أن يهيئ الله من غير المسلمين من يشهد شهادة الحق لهذا الدين، وعن قريب قبل نحو شهر، نقلت الصحافة الغربية ما كان من تصريحات الرئيس النمساوي الجديد؛ حيث إنه وقف مؤيدًا للمسلمات في بلاده، لما شاهد الهجوم الذي يكون عليهن بسبب التزامهنَّ بالحجاب الشرعي، فإذا به يصرِّح قائلاً: يَحِقُّ لجميع النساء -وليس المسلمات فقط- ارتداء الحجاب، يقول: وإذا استمر هذا الخوف من الإسلام الحقيقي والمستشري، فسوف يأتي يوم يجب أن نطلب من جميع النساء ارتداء الحجاب تضامنًا مع أولئك الذين يفعلونه لأسباب دينية.

 

وقال هذا الرئيس أيضًا خلال لقائه لتلاميذ في المدارس: "من حق كل امرأة أن تلبس دائمًا كما تريد، وهذا هو رأيي في هذه المسألة"، ثم إنه أظهر هذه التصريحات في وسائل الإعلام في بلاده، مؤكدًا أنه كلما زِيد في مواجهة المسلمات في هذا الحق فإنه سيقف معهنَّ، ليس في النمسا فقط، بل في جميع أنحاء أوروبا، وقال أيضًا -كما نقلت عنه وسائل الإعلام-: "إن الفظائع لا يمكن تبريرها داخل الإسلام"؛ يعني بذلك أن الجرائم التي تُمارَس باسم الإسلام، لا يمكن أن يُصدَّق أن الإسلام يحث عليها، فحينما يأتي مثل هذا الرجل -وفي مثل هذا المقام- ليؤكِّد أحقية المسلمات، وليُبرئ المسلمين مما يفعله المتطرفون الذين لا يمثلون الإسلام فإن هذا نوعٌ وصورةٌ من صور هذا الحديث العظيم: "إنَّ الله لينصر الدين بالرجل الفاجر".

 

وهذا لا يعارضه ما جاء في حديث آخر: "إنا لا نستعين بمشرك"؛ فالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- حينما قال: "إنا لا نستعين بمشرك"، إنما كان هذا في شأن إنسانٍ يريد أن يدخل في تفاصيل أهل الإسلام، أما أن يكون خادمًا ومؤيدًا وناصرًا لقضايا يحتاج إليها المسلمون فهذا مما كان يرحب به رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ويذهب إلى فعله في تعاقده وإقامته، وما يؤيد هذا الأمر في نصرة المظلومين وإعانة المحتاجين، ما أكَّده -عليه الصلاة والسلام- في قوله: "شهِدت مع عمومتي حلفًا في الجاهلية"، وكان هذا الحلف قد تعاقدوا فيه على نصرة المظلومين، قال: "لو دُعيت إلى مثله في الإسلام لأَجبتُ".

 

والمقصود في هذا المقام -أيها الإخوة المؤمنون- أنَّ الله -سبحانه- لن يُضيع دينه؛ فالمستقبل للإسلام، والعاقبة للمتقين، ومن اعترض سبيل هذا الدين، فإنما يضر نفسه، ولا يضر الله شيئًا، ومن تخلف عن تمسكه بهذا الدين فإنما يضر نفسه ولا يضر الله شيئًا؛ لأنه ربما مع طول الزمان وتوالي الأحداث، يضعف إيمان بعض المسلمين ويتخلون عن شريعتهم وعما أمر الله به، فهذا إنما هو بسبب ما يدخله الشيطان من الوهن على النفوس، والله قد عاتب أول هذه الأمة لما ظهر شيء من ذلك في نفوسهم: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) [الحديد: 16]، فيكونون مستقيمين وثابتين عليه، حتى لا يكونوا كأصحاب الملل السابقة الذين طال عليهم الأمد، فقست قلوبهم، وكثير منهم فاسقون!

 

فالحمد لله على ما تفضَّل وأنعم، ونسأله -جل وعلا- أن يثبتنا على دينه حتى نلقاه.

 

ألا وصلُّوا وسلِّموا على خير خلق الله نبينا محمد، فقد أمرنا ربنا بذلك، فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

 

اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأصلح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين.

 

اللهم من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ، فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الدعاء.

 

اللهم احفظ علينا في بلادنا الأمن والاستقرار، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.

 

اللهم وفِّق إمامنا خادم الحرمين الشريفين لِما فيه رضاك.

 

اللهم وفِّقه لما فيه الخير والهدى.

 

اللهم أعِنْه على أعبائه، اللهم أعنه على ما فيه خير الناس يا رب العالمين، وارزقه البطانة الصالحة الناصحة، وأبعِد عنه بطانة السوء يا رب العالمين.

 

اللهم ولِّ على المسلمين خيارهم، واكفهم شرارهم.

 

اللهم احقِن دماءهم، وأصلح أحوالهم، اللهم أذهب عنه كلَّ همٍّ وغمٍّ يا رب العالمين.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، وارحمهم كما ربَّوْنا صغارًا.

 

اللهم أصلح لنا نيَّاتنا وذريَّاتنا، وأحسِن عاقبتنا في الأمور كلها.

 

اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات:180-182].

المرفقات

شرح البشارة النبوية ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار.. وشرح قوله إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات