ومن شر حاسد إذا حسد

الشيخ راشد بن عبدالرحمن البداح

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ خطيئة الحسد 2/ أسباب الحسد 3/ علاج الحسد 4/ آثار الحسد وأضراره.

اقتباس

فنعوذ بالله من شر حاسد وما حسد؛ فيقال عنه: "الحاسد عقوبته حاضرة دائمة، لا تفارقه ساعة واحدة؛ إنه يتألم لمنظر النعمة كلما رآها، ودواء الحسد أن يسلك الحاسد سبيل المحسود؛ ليبلغ مبلغه من تلك النعمة التي يحسده عليها، ولا أحسب أنه ينفق...

الخطبة الأولى:

 

الْحمد لِلَّهِ؛ نَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ؛ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسولُهُ، مَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ؛ فَقَدْ رَشَدَ، وَمَنْ يَعْصِ الله ورسوله؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، أما بعد:

 

إنه أول ذنب بعد الكبر عصي الله به في السماء، وأول ذنب عصي الله به في الأرض؛ إنه المرض القلبي الذي نهى الله عنه وأمر بالاستعاذة من شر أهله في قوله تعالى: (وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق: 5]، ونهى عنه رسوله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ولا تحاسدوا".

 

أيها المسلمون: ما دفع إبليسَ أن يُزين للأبوين -عليهما السلام- ليقربا الشجرة، إلا الحسد، وما دفع أحدَ ابني آدم لقتل أخيه إلا الحسد، والحسدُ هو الذي دفع إخوةَ يوسفَ إلى أن يعُقُّوا أباهم، ويقطعوا رحمهم، ويتآمروا على أخيهم: (إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [يوسف: 8].

 

قال ابن تيمية رحمه الله: "الْحَسَدَ مَرَضٌ غَالِبٌ، فَلَا يَخْلُصُ مِنْهُ، إلَّا قَلِيلٌ مِنْ النَّاسِ، وَحَسَدُ النِّسَاءِ بَعْضِهِنَّ لِبَعْضِ كَثِيرٌ غَالِبٌ.. وَلِهَذَا يُقَالُ: مَا خَلَا جَسَدٌ مِنْ حَسَدٍ، لَكِنَّ اللَّئِيمَ يُبْدِيهِ، وَالْكَرِيمَ يُخْفِيهِ. وَقَدْ قِيلَ لِلْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ: أَيَحْسُدُ الْمُؤْمِنُ؟ فَقَالَ: مَا أَنْسَاك إخْوَةَ يُوسُفَ، لَا أَبَا لَك؟! وَلَكِنْ عَمِّهِ فِي صَدْرِك؛ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّك".

 

بل قد لا يَشعر المتحدث والمستمعُ أنهم واقعون في الحسد، وهذه شرارة خطر مريعة، بل لو رصدَ كل واحدٍ منا العداواتِ في نفسِه وسبرَ أسبابِها لوجدَ أن الأسبابَ الظاهرة قشر لداءِ كالسرطان اسمُه الحسد، وقد يَسأل البعض: لماذا يحسد الحاسد؟  والجواب أن للحسد أسبابًا منها:

أن تُلبسَ بقمصٍ متعددةٍ فضفاضة تخفيه، من التـناصح، أو تقويم الآخرين.

 

التعجب والغيرة، كأن يقول الحاسد عن المحسود: لقد عرفته فقيراً فكيف أصبح ثرياً؟! عرفته جاهلاً، فكيف صار عالمًا؟! عرفته عاصياً منحرفاً، فكيف تاب واستقام؟!

 

ومن الأسباب: التنازع والتنافس على مقصود واحد: كما حدث مع إخوة يوسف في تنازعهم على حب أبيهم. وهذا ملاحظ كثيرًا بين المتماثلِين في المهنة الواحدة، فقد ترى التاجر يحسد التاجرَ، والطبيب يحسد الطبيبَ، والتلميذ يحسد التلميذَ، بل قد يحسد العابد العابدَ وهكذا، (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء: 54].

 

كيف أدفع شرَّ من حسدني؟ قال ابن القيم رحمه الله: "ويدفع شر الحاسد عن المحسود بأسباب منها:

أولاً: التعوذ بالله تعالى من شره.

 

الثاني: حفظ الله عند أمره ونهيه، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس: "احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، ومن كان الله حافظَه وأمامَه؛ فممن يخاف؟! ولمن يحذر؟!".

 

السبب الثالث: الصبر على عدوه؛ (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران: 120]؛ بألا يحدث نفسه بأذاه أصلاً؛ فإنه كلما بغى كان بغيه جندًا وقوة للمبغي عليه، وقد قال تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ) [الحج: 60]؛ فإذا كان الله قد ضمن له النصر مع أنه قد استوفى حقه أولاً، فكيف بمن لم يستوف شيئًا من حقه؛ بل بُغي عليه وهو صابر.

 

الرابع: أن يمحوه من باله كلما خطر له، ولا يخافه، وهذا من أنفع الأدوية.

 

الخامس: التوبة إلى الله من الذنوب التي سلطت عليه أعداءه؛ لقي بعض السلف رجل فأغلظ له ونال منه؛ فقال: له قف حتى أدخل البيت ثم أخرج إليك، فدخل فسجد لله وتاب ثم خرج، فقال له: ما صنعت فقال: تبت إلى الله من الذنب الذي سلطك به علي.

 

السادس: الصدقة والإحسان ما أمكنه؛ فإن لذلك تأثيرًا عجيبًا في دفع العين وشر الحاسد.

 

السبب السابع: وهو من أصعب الأسباب على النفس وأشقها عليها، ولا يوفق له إلا من عظم حظه من الله، وهو إطفاء نار الحاسد والباغي والمؤذي بالإحسان إليه؛ فكلما ازداد أذى وشرًا وبغيًا وحسدًا ازددت إليه إحسانًا، وله نصيحة، وعليه شفقة، وما أظنك تُصَدِّق بأن هذا يكون؛ فضلاً عن أن تتعاطاه! فاسمع الآن قوله -عز وجل-: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)، وتأمل حال النبي الذي حكى عنه نبينا -صلى الله عليه وسلم- أنه ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ، وَهُوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ".

 

فما مضى يخاطَب به المحسود، فأما الحاسد؛ فنعوذ بالله من شر حاسد وما حسد؛ فيقال عنه: "الحاسد عقوبته حاضرة دائمة، لا تفارقه ساعة واحدة؛ إنه يتألم لمنظر النعمة كلما رآها، ودواء الحسد أن يسلك الحاسد سبيل المحسود؛ ليبلغ مبلغه من تلك النعمة التي يحسده عليها، ولا أحسب أنه ينفق من وقته ومجهوده في هذه السبيل أكثر مما ينفق من ذلك الغض من شأن محسوده، والنيل منه؛ فإن كان يحسده على المال؛ فلينظر أي طريق سلك؛ فليسلكه، وإن كان يحسده على العلم فليتعلم، أو الأدب فليتأدب".

 

فأما آثار وأضرار الحسد على الحاسد وعلى المجتمع؛ فمنها:

أنه يحلق الدين: كما قال -صلى الله عليه وسلم-: دَبَّ إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تَحْلِقُ الشعر، ولكن تحلق الدين.

 

أنه يمحق البركات، وينشر البغضاء في المجتمع.

 

ومنها خمس عقوبات عاجلة؛ تصل إلى الحاسد قبل أن يصل إلى المحسود مكروه: غم لا ينقطع, ومصيبة لا يؤجر عليها, ومذمة لا يحمد عليها, ويسخط عليه الرب, وتغلق عليه أبواب التوفيق.

 

عباد الله: يتأصل الحسد ويزداد إذا سبَّب ما يسمى بالإصابة بالعين، والعائن إذا كان يخشى ضرر عينه فليدفع شره بقوله: (اللهم بارك عليه) أو (ما شاء الله لا قوة إلا بالله).

 

فعلام تعذب نفسك؟! إنك ترمي حجرًا على أخ لك لتصيب مقتله؛ فلا يصيبه ذاك - إلا أن يشاء الله، بل إنك تشعل نارًا تضطرم ينجو فيها المحسود، وتقع أنت فيها فتحرقك.

 

فإذا رأى المسلم نعمة تساق إلى أخيه فليقنع وليفرح لأخيه، وليوقن أن ذلك من فضل الله على عباده، وليردد كل صباح ومساء قول رسوله-صلى الله عليه وسلم-: "اللهم ما أصبح بي من نعمة أو بأحد من خلقك فمنك وحدك لا شريك لك فلك الحمد ولك الشكر".

هذا وإن الدعاء موقوف بين السماء والأرض حتى يُصلى على النبي كما صح الحديث.

 

فاللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد.

سبحان الله على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنةً للقوم الظالمين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

 

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

 

اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرق. اللهم اسقِ عبادك وبلادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت.

 

اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنع بذنوبنا فضلك. اللهم ارفع عنا الجوع والجهد والعُري، واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه إلا أنت. اللهم اسقنا الغيث، ولا تجعلنا آيسين، ولا تهلكنا بالسنين.

 

اللَّهُمَّ إنَّا نَسْألُك رَحْمَةً مِنْ عِنْدِك تَهْدِيَ بهَا قُلُوْبَنَا، وتُبَيِّضَ بِهَا وُجُوْهَنَا، وتَعْصِمَنَا بهَا مِنْ كُلِّ سُوْءٍ.
اللَّهُمَّ اقْذِفْ في قُلُوْبِنَا رَجَاءَك واقْطَعْ رجَاءَنَا عمنْ سِوَاك.

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا أغَنْى خَلْقِك بك، وأفْقَرَ خَلْقِك إليْك.

 

اللَّهُمَّ أغْنِنَا عَمَّنْ أغْنَيْتَهُ عَنَّا، اللَّهُمَّ صُبَّ عَليْنا الخَيْر صَبَّا صَبَّا، ولا تَجْعَل عَيْشَنَا كَدَّا كَدَّا.

اللهم اهتك ستر من كاد بأمتنا وأمننا وإيماننا وولداننا. اللهم من أراد بأمننا إخلالاً, أو بديننا انحلالاً؛ فأذقه من العذاب وبالاً.

المرفقات

ومن شر حاسد إذا حسد

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات