الاستقامة

صلاح الدين بورنان

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ صورة واقعية لضعف الإيمان 2/ ضرر فساد الأخلاق على الأمة 3/ أهمية الاستقامة وثمارها 4/ حقيقة الاستقامة ومفهومها 5/ أنواع الاستقامة 6/ من مكملات الاستقامة.

اقتباس

الاستقامة تعني أن تثبت على الحق, وأن تقف عند حدود الله, وأن تبتعد عما حرّم الله, وأن تسير في الطريق إلى الأمام ولا تتوقف؛ فإن المتوقف لا يسمى مستقيما, ولا تنحرف يمينا ولايسارا, فالاستقامة ضد الإنحراف, والنبي -صلى الله عليه وسلم- خط لأصحابه على الرمل خطا مستقيما, ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا متعرجة مائلة, ثُمَّ قَالَ: "وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ"...

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب:70-71]

 

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

عباد الله: تطالعنا الصحف ووسائل الإعلام ما بين الحين والآخر بأنباء يندى لها الجبين ويتقطع لها القلب؛ لما تدل عليه من ضعف الدين وقلة اليقين, وانحراف الأخلاق وموت الضمائر، تطالعنا الصحف والجرائد باختلسات يختلسها الكبار من الناس, ليست بالمئات ولا بالآلاف ولكن بالملايين وبعشرات ومئات الآلآف.

 

وهذه المصيبة التى نراها في كثير من الأحيان, فعلامَ يدل هذا؟ يدل على موت الضمائر وفساد الأخلاق, وعلى ضعف الإيمان بالآخرة في قلوب الناس, فغلبوا حب الدنيا على الآخرة, غلبوا الأولى على الآخرة,  غلبوا حب المال على حب الله -عزّ وجل-, فلم يبالوا ما أخذوا أمن حلال أمن حرام؟ بل خططوا لكسب الحرام.

 

والإنسان إذا لم يقنعه الحلال لم يشبعه شيء, فلا هو بالقليل يقنع ولا بالكثير يشبع,  صاحب العشرة يريد مئة, وصاحب الألف يبغي الألف مليونا, وصاحب المليون يريد عشرة ملايين أو مئة مليون, وصاحب المائة يريد ملياراً, وصاحب المليار لا يكتفي بالمليار, إنّما يريد أن يزيد ويزيد, ومثل هؤلاء كمثل جنهم يقال لها: "هل امتلأت؟" وتقول: هل من مزيد هل من مزيد.

 

وهذه هي المصيبة؛ مصيبة فساد الأخلاق, وفساد الأخلاق من ضعف الإيمان واليقين, وإذا فسدت أخلاق أمة أصبحت مهددة بالانهيار والزوال, كما قال أمير الشعراء أحمد شوقي:

 

إنما الأمم الأخلاق مابقيت *** فإن هم  ذهبت أخلاقهم  ذهبوا

إذا  أصيب القوم في أخلاقهم *** فأقم عليهم مأتما وعــــويلا

 

والإنسان إذا خربت أخلاقه ومات ضميره؛ يبيع نفسه ويبيع عائلته ويبيع شرفه ووطنه لأعدائه, ولا عجب في الك ولا غرابة, نحن في حاجة إذن للاستقامة, استقامة أخلاقية, الحياة لا تستقيم ولا ترتقي ولا يرتقى الناس إلا بأهل الاستقامة, (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا) [فصلت: 30], لا تستقيم الحياة ولا تنهض إلا بهولاء المستقيمين.

 

جاء رجل للنبي -صلى الله عليه وسلم- وقال: يارسول الله! قل لي في الإسلام قولا لاسأل عنه أحدا بعدك, فقال له: "قل آمنت بالله ثم استقم", إن الرجل لا يريد إكثار الوصايا, بل يريد وصية مختصرة جامعة يعيها ويحفظها ويعمل بها, (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الأحقاف: 13، 14], (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ) [فصلت: 30 - 32].

 

قال أبوبكر -رضي الله عنه-: "(ثُمَّ اسْتَقَامُوا) أي:لم يلتفتوا إلى إله غير الله" أي أخلصوا التوحيد, وعن عمر -رضي الله عنه- قال: "استقاموا لله بطاعة الله, ولم يروغوا روغان الثعالب", استقامة حقيقية على الصراط المستقيم.

 

علمنا الله -تعالى- أن نسأله الهداية كل يوم على الصراط المستقيم, (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) [الفاتحة: 6، 7], هذه هي الاستقامة؛ الاستقامة على هذا الصراط كما قال الله -تعالى- لرسوله: (اسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112].

 

عباد الله: الاستقامة تعني أن تثبت على الحق, وأن تقف عند حدود الله, وأن تبتعد عما حرّم الله, وأن تسير في الطريق إلى الأمام ولا تتوقف؛ فإن المتوقف لايسمى مستقيما, ولاتنحرف يمينا ولايسارا, فالاستقامة ضد الانحراف, النبي -صلى الله عليه وسلم- خط لأصحابه على الرمل خطا مستقيما, ثم خط عن يمينه وعن شماله خطوطا متعرجة مائلة, ثُمَّ قَالَ: "وَهَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ" ثُمَّ تَلا: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: 153]".

 

الاستقامة هي استقامة القلب أولا على توحيد الله؛ فلا ترجوا إلا الله, ولاتخشى إلا الله, ولاتعتمد إلا على الله, ولاتثق إلا بالله, ولا تحب ولاتكره إلا في الله, ولا تعطي ولا تمنع إلا لله, كل شىء عندك موصول بالله, وفي الحديث أن "من أحبَّ لله، وأبغض لله، ومَنَعَ لله، فقد استكمل الِإيمان" (أخرجه أبو داود), هذه استقامة العقيدة, أن تستقيم على التوحيد فلا تتخذ غير الله ربا, ولاتتخذ غير الله وليا, ولاتتخذ غير الله حكما.

 

ثم بعد ذلك استقامة اللسان كما روى الإمام أحمد من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ", واستقامة اللسان دليل على استقامة القلب,  كما في الحديث الصحيح: "ألاَ وِإنَّ في الجسدِ مُضْغَةً؛ إِذا صلَحتْ صلَحَ الجسَدُ كلُّهُ، وِإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجسَدُ كلُّهُ، ألاَ وهْيَ الْقَلْبُ".

 

ثم بعد ذلك استقامة الجوارح كلها على طاعة الله؛ يدك ورجلك وسمعك وبصرك, تستقيم كل جوارحك على طاعة الله؛ فلا ترتكب الحرام, ولاتتعدى حدود الله -عزّ وجل-, هذه هي الاستقامة.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإيّاكم بما فيه من الأيات والذكر الحكيم, وأقول قولي هذا واستغفر الله العظيم لي ولكم, إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله على إِحسانِه، والشّكرُ له على توفيقِه وامتِنانِهِ، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شَريكَ لَه تعظيمًا لشأنِه، وأَشهَد أنّ نبيَّنا وسيّدنا محمَّدًا عبده ورسولُه الداعِي إلى رضوانِه، صلّى الله عليه وعلى آلِه وأَصحابه وإخوانِه، وسلّم تسليمًا كثيرًا.

 

أيها المؤمنون: ومن مكملات الاستقامة كما في قوله -تعالى-: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [هود: 112], (وَلَا تَطْغَوْا) والطغيان أن تتجاوز الحد؛ إما في حقوق الناس, أو حدود الله؛ أن تتجاوز الحلال إلى الحرام, وتتجاوز العدل إلى الظلم, (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [هود: 113], لا تكن عونا لظالم, لا تكن سوطا في يد ظالم, لا تسخر نفسك لظالم؛ فإنّك بذلك تكون شريكه, تكون معه ومن حطب جهنم.

 

وأعوان الظلمة كلاب النار, قَرَأَ أَبُوبَكْرٍ الصِّدِّيقُ هَذِهِ الْآيَةَ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة: 105] فقَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَضَعُونَ هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى غَيْرِ مَوْضِعِهَا أَلَا وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوَا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْ قَالَ: المنكر فلم يغيروه عمهم الله بعقابه", وهذا ما قاله القرآن الكريم: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 25].

 

لا تكن طاغية ولا تركن إلى ظالم, ولا تكن عونا للظالم, هذه هي حقيقة الاستقامة, نحن في حاجة إلى أمة تستقيم على أمر الله, إنما نجح المسلمون في العصور الأولى وانتصروا على الدول الكبرى على الفرس والروم, وأقاموا دولة العدل والإحسان, وأنشأوا حضارة العلم والإيمان, إنما فعلوا ذلك يوم كانوا أهل استقامة على أمر الله.

 

ما أحوج أمتنا إلى الاستقامة, ما أحوجنا أفرادا وجماعات إلى الاستقامة, بالاستقامة تطمئن نفوسنا وتسعد قلوبنا, بدل القلق الذي أتعب الناس, وعذب الناس, الاستقامة بالإيمان, الاستقامة بالسلوك, يجعل الإنسان مرتاح الضمير, ينام ملء جفنيه, ليس بينه وبين أحد خصومة, لم يسرق ولم يختلس.

 

نسأل الله -تبارك وتعالى- أن يكفينا بحلاله عن حرامه, وبطاعته عن معصيته, ويغنينا بفضله عمن سواه اللهم, اللهم ارزقنا الاستقامة, اللهم ارزقنا الاستقامة.

 

ألا صلوا وسلموا على الحبيب المصطفى (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

 

المرفقات

الاستقامة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات