قصة بئر معونة

عبد الرحمن بن صالح الدهش

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ تميز الصحابة في سائر أنواع العبادة والمعاملة 2/ عرض قصة أصحاب بئر معونة 3/ من دروس القصة: بقاء عداوة أعداء الدين، عدم اليأس 4/ التنبيه على مغالطة اليهود وأشياعهم في حرب غزة.

اقتباس

سبعون صحابياً من خير الصحابة، وفضلائهم، وساداتهم، وقرائهم .من أوصافهم أنهم يحتطبون بالنهار، ويشترون به الطعام فيتصدقون به على أهل الصفة وهم فقراء الصحابة في المسجد-، ويصلون بالليل، ويتدارسون القرآن، فهم القراء، وسَرِيَّتُهم عُرفت بسرية القراء. فما خبرُ هؤلاء القراء السبعين !استمع !فخبرهم محزن، وما حصل لهم مثالٌ سيئ للخيانة في موضع الائتمان، وللغدر في وقت الوفاء بالعهد .كان هذا في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة .جاء أبو البراء عامر بن مالك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فدعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- للإسلام، فلم يسلم، ...

الخطبة الأولى:

 

 

الحمدُ لله يبتلي المؤمنين بالكافرين، ويرفعُ درجة الصابرين، ولا يضيع أجر المحسنين .وأشهد ألا إله إلا الله هيأ لهذا الدين رجالاً عاملين، وأتقياء مجاهدين .وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله بلغ عن ربه وجاهد الكفار والمنافقين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين بإحسانٍ إلى يوم الدين .

 

أما بعد: فما أعظم سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وما أبلغ هدي الصحابة في نصرة دينهم، والقيام لربهم، فقد كانوا رجالاً صادقين، صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فبذلوا أموالهم، وأوقاتهم، وأريقت دماؤهم في سبيل تبليغ رسالة رب العالمين .

 

فهم قدوة للمقتدين، وسِيَرُهم مشرقة في خدمة هذا الدين، فما أحوجنا لمعرفة أخبارِهم، وتدارسِ أحوالهم، تتربَّي من خلالها أنفسُنا، وينشأ عليها أولادُنا، ويتعرَّفُ عليها ناشئتُنا (لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 88- 89].

 

فعبادتهم (تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا) [الفتح: 29].

 

وجهادهم (فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].

ومعاملتهم (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ) [الفتح: 29].

 

أو بعد هؤلاء يبقى تميزٌ لأحدٍ، أو يُعْجَبُ معجَبٌ بشخصٍ، أو يُرى فضلٌ في غيرهم إلا أن يكونَ من التابعين لهم بإحسانٍ .

 

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100]، ومما حُفِظَ مِن أخْبارِهِم، ودُوِّنَ في مَجْدِهم ما حصَلَ لطائِفِة من الصحابةِ بل مِن خَيْرِ الصَّحابِة .

 

عددُهم سَبعونَ صحابياً من الأنصار، وقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار".

 

وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الأنصار لا يحبهم إلا مؤمنٌ، ولا يبغضهم إلا منافق، فمن أحبهم أحبه الله، ومن أبغضهم أبغضه الله".

 

سبعون صحابياً من خير الصحابة، وفضلائهم، وساداتهم، وقرائهم .

 

من أوصافهم أنهم يحتطبون بالنهار، ويشترون به الطعام فيتصدقون به على أهل الصفة وهم فقراء الصحابة في المسجد-، ويصلون بالليل، ويتدارسون القرآن، فهم القراء، وسَرِيَّتُهم عُرفت بسرية القراء.

 

فما خبرُ هؤلاء القراء السبعين !استمع !فخبرهم محزن، وما حصل لهم مثالٌ سيئ للخيانة في موضع الائتمان، وللغدر في وقت الوفاء بالعهد .

 

كان هذا في شهر صفر من السنة الرابعة من الهجرة .جاء أبو البراء عامر بن مالك إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فدعاه النبي -صلى الله عليه وسلم- للإسلام، فلم يسلم، ولم يبعد، أي: أن إسلامه قريبٌ مرجو .

 

ولكنه عرض على النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يرسل بعض أصحابه دعاة إلى نواحي نجدٍ .

فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إني أخافُ عليهم أهل نجد"، فقال أبو البراء: أنا جارٌ لهم، أي: يحميهم ممن يكيدهم.

 

فاختار النبي -صلى الله عليه وسلم- سبعين رجلا من أصحابه وبعثهم معه، وجعل أميرهم واحداً منهم .فساروا إلى هذه المهمة، محتسبين عند الله مسيرهم، فهم رسلُ رسول الله، خرجوا يبلغون رسالةَ اللهِ، ليخرجوا الناس من عبادةِ العبادِ إلى عبادةِ ربِ العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، خرجوا دعاة إلى جنة عرضها السموات والأرض .

 

فلما وصلوا مكاناً يسمى بئر معونة قريباً من منازل بني سُليمٍ، وما علموا أنهم قد وصلوا إلى مضاجعهم، وإلى المكانِ الذي تفيض فيه أرواحهم، وتسجل فيه أسماؤهم شهداءَ عند ربهم .

 

نزلوا بئر معونة، وكان مع واحد منهم واسمه حرام بنُ ملحان، وهو خالُ أنس بن مالك - رضي الله عنهما كان معه كتاب من النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى عامر بن الطفيل أحد صناديد الكفر .

 

فما أن وصل حرامٌ إلى عدو الله عامر هذا، ومعه الكتاب إلا وأخذت عامراً العِزةُ بالإثم، ومنعه كبره أن ينظر في كتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وحينئذ يبدأ مشوار الخيانةِ، ووجه النقض المسود يُطِل على هذا الثلة المؤمنة، بداية بهذا الرسولَ حرام بن ملحان حامل الكتاب .

 

فأشار عامرٌ إلى رجلٍ عنده، فطعن حراماً الصحابيَّ بالحربة من خلفه، غدراً وخيانة، فأنفذها فيه، فخرج دمه في سبيل الله فلما رآه حرامٌ، أخذ من دمه، ونضحه على وجهه ورأسه، ثم قال: الله أكبر، فزت، وربِّ الكعبة !

 

وصدق ! والله .فلأيِّ شيء خرج إلا طاعةً للهِ ورسولِه (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].

 

ماذا يريد بهذا العمل إنه يعطي درساً لهذا الكافر ولكل من سمع بخبره بعطي درساً أنَّ الخروج من الدنيا على وجه العزة في طاعة الله هو الفوز المطلوب .

 

قتل حرامُ بن مِلحان ليسبق السبعين من إخوانه بعد أن ثُلِموا بقتله .وأصحابه نازلون في بئر معونة، ينتظرون خبر صاحبهم .ومن قتل واحداً هان عليه قتل غيره، فخرج الغادر عامر ابن الطفيل، يستحثُ بني سليم على غدر مثلِ غدره

 

فخرجت عُصية، ورعلٌ وذكوان أحياءٌ من بني سليم، خرجوا فأحاطوا بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- .فما أعظمها من مفاجأة، وما أشدَّه من كربٍ، دعاة آمنون، تجمَّع حولهم خونة كافرون، ولكنَّه أمر نافذ، وحكمته قد تخفى، ويبوء بسوء العاقبة من عباده الأشقى

 

تجمعت هذه الأحياء فرأى الصحابة الموتَ عياناً، فهرعوا إلى سيوفهم باذلين قدرتهم، مدافعين عن أنفسهم معتذرين إلى ربهم .

 

فقاتلوا وقتلوا عن بكرة أبيهم، ولم ينجُ منهم إلا رجلٌ كان قائماً على سرحهم، علم بخبرهم لما رأى أفواج الطيور تحول حول جثثهم، فأدرك الوقع، وعلم الخيانة، فرجع إلى المدينة رجع إلى النبي بالأخبار المحزنة، والفاجعة العظيمة، مقتلِ طائفة من أفاضل المسلمين، وخيرة الصالحين .

 

ولئن قتل سبعون رجلاً في أحد، وأسف عليهم النبي -صلى الله عليه وسلم-، ولكن قتلَ الآمنين، وتسلطَّ الخائنين، أبلَغُ من قتل المقاتلين في معركة مستعدين .

 

قال أنس -رضي الله عنه-: "ما رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وجد على أحدٍ ما وجد على أصحاب بئر معونة".

 

فلقد حزن النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم حزناً عظيماً، وقنت شهراً في صلاة الصبح يدعو علي رعلٍ وذكوان وعصية .وكان هذا بدء القنوتِ في النوازل، ولم يكن قنوتٌ قبلُ.

 

فرضي الله عن هذه الطائفة، وأكرم نزلهم، وجمعنا بهم في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين برحمة ربنا أرحم الراحمين .

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله ...

 

إنَّ ما جري على الأمة الإسلامية في صدرها الأول مع نبيها -صلى الله عليه وسلم- أو بعده إنها دروس وعبر فتكالب الأعداء وكيدهم في الزمن الأول هو تكالبهم وكيدهم في الزمن الأخير، ولكن قد تتغير أساليبه ويزداد مكره .

 

ومن دروس هذه الواقعة المحزنة أنَّ اليأس لم يعرف إلى قلوب الصحابة سبيلاً (وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) [آل عمران: 120]؛ فخيانات اليهود، وتسلط النصارى الصليبيين هو من جملة معاداتهم لهذا الدين وحنقهم على أتباع سيد المسلمين .

 

وما تسمعونه وتتابعونه مما يفعله اليهود في أبناء فلسطين العزل هو براهين واضحة على أنهم على عدائهم الأول ولن يخونوا مسيرة أسلافهم، أو يغيروا طريقة أوائلهم، وإن غيَّر المسلمون طريقة أسلافهم، وخانوا تعاليم ربهم .

 

ووالله إن اليهود والنصارى كأنهم فهموا قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120]، كأنهم فهموها أكثر فهماً من كثير من المسلمين قادة وشعوباً .

 

فالعدو المحتل ها هو يجوس خلال الديار فالقتلى ملقون في الشوارع والطرقات والمصابون قطعت عنهم جهود الإغاثة والمساعدات .

 

والسالمون منهم ليسوا بأحسن حظاً من غيرهم فهم في سجن كبير؛ حيث الحصار على مدنهم وقراهم لا يصل إليهم أحد وما هم منها بمخرجين؛ أسنت مياههم وقلت أطعمتهم، فضلاً عن انقطاع الكهرباء وانعدام الخدمات وما عساهم أن يخففوا به شيئاً من المعاناة .

 

ومع عظم الفادحة وكبر النازلة يصاحب كلَّ هذا مغالطة الحقائق، فلا يزال حاملو الصليب في أمريكا وغيرها يبررون هذا العدوان بأنه دفاع عن النفس وينفخون في بوق اليهود، بل إن اليهود هم الذين ينفخون في بوقهم، والقرارات الأممية من مجالس الأمم لا قيمة لها عن أخوان القردة والخنازير قابلوها بما حكى الله عنهم (ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 57].

 

فإلى الله المشتكي، ومن الفرج والنصر يرتجى .فاصدقوا الله بالدعاء لإخوانكم، ولا تسلطوا أعداءكم عليكم بذنوبكم ... فاللهم احفظ المسلمين بحفظك .

المرفقات

قصة بئر معونة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات