الاعتزاز بالهوية

الشيخ عبدالله اليابس

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: الفكر والثقافة
عناصر الخطبة
1/ العادة تأثر الضعيف بالقوي 2/ آثار الهوية الموحدة في المجتمع 3/ مظاهر الاعتزاز بالهوية الإسلامية 4/ أساليب وطرق الكفار لطمس هويتنا 5/ وجوب الاعتزاز بالهوية الإسلامية.

اقتباس

إن اللغة من أبرز مظاهر الهوية, ولذلك لما سقطت الأندلس واحتل النصارى بلاد المسلمين, وأنشؤوا محاكم التفتيش منعوا الحديث بالعربية -والتي كانت لغة البلاد-ـ ومن اكتُشف يتحدث بها فيتم القبض عليه وتعذيبه حتى الموت. ولما احتل الفرنسيون بعض بلدان المغرب العربي أجبروا أهلها على تعلم الفرنسية وجعلوها اللغة الرسمية؛ حتى ينسلخ المسلم من هويته العربية ويذوب في القيم الفرنسية...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب, أظهر الحق بالحق وأخزى الأحزاب, وأتمَّ نوره، وجعل كيد الكافرين في تباب, وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الوهاب, الملك فوق كل الملوك ورب الأرباب, غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب, وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المستغفِر التواب, قدوة الأمم، وقمة الهِمَم، ودرة المقربين والأحباب, اللهم صلِّ وسلِّم وبارك عليه وعلى الآل والأصحاب, كلما نبت من الأرض زرع، أو أينع ثمر وطاب.

 

أَمَّا بَعْدُ: (ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

 

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: عندما يسافر الواحد منا إلى أي بلد من بلدان العالم, فإن مما يلفت نظره ولابد عادات المجتمع وتقاليده وهويته, فلكل مجتمع هوية محددة يمكن بها التفرقة بينه وبين المجتمعات الأخرى.

 

وجرت العادة أن الضعيف يتأثر بهوية القوي, وكثير من الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني في شتى دول العالم تسعى جاهدة لنشر ثقافتها وهويتها في البلدان الأخرى من خلال الوسائل المتعددة, فالأمريكان على سبيل المثال يسعون جاهدين لتصدير الثقافة والهوية الأمريكية إلى جميع بلدان العالم مستخدمين كافة السبل, ابتداء بالترفيه والأفلام والموسيقى, مرورًا بالمطاعم والمنتجات الاستهلاكية, وانتهاء بفرضها من خلال الحروب والسلاح, وقس على ذلك جميع الأمم القوية التي تسعى لنشر ثقافتها وهويتها في المجتمعات الأخرى.

 

أيها الإخوة: إن الهوية الموحدة للمجتمع الواحد والاعتزاز بها يوحد صف المجتمع, ويجعله متحدًا في سبيل الدعايات للانسلاخ من قيمه وموروثاته, متمسكًا بتاريخه ورموزه, عزيزًا شامخًا بماضيه وحاضره ومستقبله.

 

إن للمجتمعات الإسلامية هوية موحدة؛ هوية جاء الإسلام بالحث على التمسك بها, فهي توحد المسلمين, توحِّدُ أكثرَ من مليار شخص على ظهر الأرض ليكونوا مجتمعًا واحدًا, ليكونوا إخوة كما قال الله -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات: 10].

 

ومن تأمل النصوص الشرعية وجدها تواترت في الحث على الاعتزاز بالهوية الإسلامية, والتحذير من مشابهة ما عداها من هويات.

 

لقد أمر الإسلام مثلاً بالتزيي بزي المسلمين ونهى عن التشبه بملابس الكفار, ففي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى على عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- ثوبين معصفرين -أي: مصبوغين بالعصفر- فقال: "إن هذه من ثياب الكفار فلا تلبسها"، وجاء النهي أيضًا عن مشابهة الكفار في أوقات عباداتهم, ففي صحيح مسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال لعمرو بن عَبَسة السلمي -رضي الله عنه-: "صل صلاة الصبح، ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس حتى ترتفع، فإنها تطلع حين تطلع بين قرني شيطان، وحينئذ يسجد لها الكفار".

 

لقد أدرك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذه الحقيقة, وحذر منها غاية التحذير, ومع ذلك ففد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أن تقليد هذه الأمة للأمم الكافرة حاصل لا محالة, فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- كما عند البخاري ومسلم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لتتبعن سنن من قبلكم, شبراً بشبر, وذراعًا بذراع, حتى لو سلكوا جحر ضب لسلكتموه", قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: "فمن".

 

أيها المسلمون: إن من مظاهر هوية كل مجتمع: مظهر أفراده, فعندما تشاهد شخصًا لا تعرف من أي البلاد هو فإن أول ما يدلك على إجابة هذا السؤال: مظهره.

 

لقد جاء الإسلام ببيان وتعزيز هوية المسلم في لباسه ومظهره, فلباسه ساتر للعورة, فوق الكعب, ليس حريرًا ولا معصفرًا, وجاء في بيان مظهر المسلم بأنه معفٍ للحيته, حافٌ لشاربه, نظيفٌ في جسده, شعر رأسه متساوٍ ليس بالقزع.

 

لقد تاهت بوصلة الهوية في جانب اللباس عند كثير من الناس, فقد أسبلوا الثياب أو قصروها عن حدود العورة, وحلقوا لحاهم وأطالوا شواربهم, وأدهى من ذلك من يتشبه في لباسه بالكافرين , وينسلخ من هويته إلى هوية غيره.

 

ومن مظاهر الاعتزاز بالهوية: الحديث باللغة العربية؛ فنحن بلد عربي مسلم, لغتنا العربية, وكتاب ربنا ودستور بلدنا عربي, ومع ذلك أصبح البعض يتحدث بغير العربية من غير حاجة.

 

في كل بلد تطأه قدمك ستجد أهل البلد يتحدثون لغته, ويعتزون بها, ولو كان لا يتحدثها غيرهم, وستضطر لتعلم لغتهم أو الاستعانة بمترجم, أما في بلدنا وبعض البلاد الأخرى إذا أتى الأجنبي حادثناه بلغته, أو اضطررنا نحن للاستعانة بمترجم!.

 

إن اللغة من أبرز مظاهر الهوية, ولذلك لما سقطت الأندلس واحتل النصارى بلاد المسلمين, وأنشؤوا محاكم التفتيش منعوا الحديث بالعربية -والتي كانت لغة البلاد-ـ ومن اكتُشف يتحدث بها فيتم القبض عليه وتعذيبه حتى الموت.

 

ولما احتل الفرنسيون بعض بلدان المغرب العربي أجبروا أهلها على تعلم الفرنسية وجعلوها اللغة الرسمية؛ حتى ينسلخ المسلم من هويته العربية ويذوب في القيم الفرنسية. لا بأس بتعلم اللغات الأجنبية, لكن ينبغي ألا يكون الحديث بها إلا في حدود الحاجة.

 

ومن مظاهر الاعتزاز بالهوية: الاعتزاز بالتاريخ -وأعني به ما يسميه الناس اليوم بالتقويم-, إن التأريخ بالتاريخ الإسلامي الهجري رمز من رموز الهوية الإسلامية, فبِهِ يعرف المسلم أزمان عبادته, ويؤرخ مواعيده, وفي نفس الوقت يتحد مع إخوانه في أنحاء العالم الإسلامي في تأريخ واحد.

 

لما احتل النصارى بلاد المسلمين زمن الاستعمار العسكري أرغموهم على استعمال التاريخ الميلادي النصراني, فلما زال الاستعمار فأي عذر بقي في التأريخ بتاريخهم؟!.

 

لقد كره الصحابة -رضوان الله عليهم- التأريخ بتاريخ فارس والروم, والله -تعالى- يقول: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) [التوبة: 36], فهذه عدة الشهور عند الله, وهذا هو الدين القيم, فعلام نميل عنه؟!.

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم, ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, قد قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَه إِلَّا اللهُ رَبُّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ وَقَيَّومُ السَّمَاوَات وَالأَرَضِين، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَى الْمَبْعُوثِ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ, وَأَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللهِ, صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِين، وَعَلَى مَنْ سَارَ عَلَى هَدْيِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّين.

 

أَمَّا بَعْدُ: (ياأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).

 

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: بلادنا هذه بلاد التوحيد, ومهبط الوحي, ومنبع الإسلام, منها شع النور إلى سائر الأرض, تهفو إليها قلوب وأبدان المسلمين في العالم كل يوم خمس مرات, يستقبلونها بقلوبهم قبل أبدانهم, وإذا علموا أنك من السعودية خبروك عن شوقهم للحرمين والكعبة, أو أخبروك بعدد حجاتهم وَعُمَرِهِم, فمالذي ربط بين السعودي وقبلة المسلمين؟.

 

عَلَم بلادنا يحمل شهادة التوحيد, ركن الإسلام الأعظم, وعلى أرضها بيت الله, وقبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وبئر زمزم, وفيها عاش رسول الله وفيها مات, وفيها نزل القرآن, فكيف لا تكون هويتنا إسلامية؟!.

 

إن الاعتزاز بالهوية الإسلامية واجب ديني, كما أنه واجب وطني, ففي اعتزازنا بهويتنا الإسلامية وحدة للمجتمع, وترسيخ لقيمه الأصيلة, وفي اعتزازنا بهويتنا الإسلامية امتثال لأمر الله وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم-, وفي اعتزازنا بهويتنا الإسلامية خير تمثيل لهذه الأمة أمام الأمم الأخرى.

 

إن الشعوب تنظر بتقدير لمن يعتز بهويته أمام المجتمعات الأخرى, ويسقط من عينها المنسلخ من هويته, التائه المتقلب.

 

إن اعتزازك بهويتك والتمسكَ بها لا يناقض استفادتك مما لدى الأمم المختلفة من مخترعات وعلوم, لكن الطامة هو استنساخ ما لدى الأمم الأخرى بحلوه ومره, وعجره وبجره, وأدهى منه وأطم أخذ بعض الناس ما لدى الكفار من سوء وترك العلوم والمبتكرات.

 

لما كنا سادة الدنيا في العلوم والمعارف كان ملوك النصارى يرسلون أبناءهم إلينا ليتعلموا لغتنا, ويأخذوا علومنا ومعارفنا, وكان اللباس العربي الإسلامي في بلاد النصارى دليل على الرقي والتحضر, ثم انقلب الحال وتبدل الأمر.

 

هويتنا لا علاقة لها بالتقدم أو التأخر, فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أعظم معتز بهويته, وهاهم صحابته الكرام فتح الله على يديهم بلاد فارس والروم, وما غيروا شيئًا من هويتهم, وما بدلوا تبديلاً, (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب: 21], يقول عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فإن ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله".

 

أيها الإخوة: تفقدوا هويتكم, وهوية أبناءكم ومن تحت يديكم, واعلموا أن المشابهة في الظاهر تفضي للمماثلة في الباطن.

 

يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-: اعلموا أن الله -تعالى- قد أمرنا بالصلاة على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- وجعل للصلاة عليه في هذا اليوم والإكثار منها مزية على غيره من الأيام, فللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى, وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي, يعظكم لعلكم تذكرون, فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم, واشكروه على نعمه يزدكم, ولذكر الله أكبر, والله يعلم ما تصنعون.

 

المرفقات

الاعتزاز بالهوية

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات