الطريق إلى مدين

عبدالله بن عبده نعمان العواضي

2022-10-09 - 1444/03/13
التصنيفات: شخصيات مؤثرة
عناصر الخطبة
1/ طغيان فرعون 2/ سيرة موسى عليه السلام إلى وصوله لمدين 3/ قصته في مدين 4/ دروسٌ وعِبر من تلك القصة وشخصياتها

اقتباس

وفي هذا اليوم المبارك سنقف -بعون الله- وقفات تدبّرية في ظلال قصة قرآنية، هذه القصة هي قصة موسى -عليه السلام- في رحلة مدين.

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

 

أيها المسلمون: ما أحسنَ إجالةَ النظر في بساتين العِبر، وألذَّ سماع الخبر من كتاب رب البشر، وأنفعَ دروس الحياة إذا استُقيت من كلام الله! فكم في القرآن الكريم من معانٍ عميقة تستكنّ في بطون ألفاظه، وتتهدل من نواصي جمله وأساليبه! والقصة القرآنية منبع غني يتدفق بتلك المعاني والفوائد لمن قرأ فتأمل.

 

وفي هذا اليوم المبارك سنقف -بعون الله- وقفات تدبّرية في ظلال قصة قرآنية، هذه القصة هي قصة موسى -عليه السلام- في رحلة مدين.

 

لقد بعث الله -تعالى- نبيه وكليمه موسى -عليه السلام- رسولاً إلى بني إسرائيل في زمان طغيان فرعون الذي تعدى على حق الخالق، فقال لخاصة قومه: (يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص:38]، وقال لعامة شعبه: (أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى) [النازعات:24]، وتعدى على حق الخلق من بني إسرائيل فجعلهم (شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:4].

 

وكان فرعون قد أُخبر أن ذهاب ملكه سيكون على يدي فتى من بني إسرائيل؛ فكان لا يولد في بني إسرائيل مولود ذكر إلا ذبحه.

 

ولقد أراد الله -تعالى- أن يتربى هذا الذي يذهب الملك على يديه في بيت فرعون، يأكل من طعامه، ويمشي في بساطه، ويتربى في عزه وسلطانه! ولله الحكمة البالغة! ومع ذلك فقد حفظ الله موسى -عليه السلام- في بيت هذا الطاغية من كل سوء حسي ومعنوي.

 

فلما ولدت أم موسى موسى خافت عليه الذبح، غير أن الله -تعالى- قذف في قلبها الاطمئنان لتلقيه في اليمِّ ليصل إلى فرعون فتقول زوجته: (قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) [القصص:9].

 

فبحث له فرعون عن المرضعات، فكانت مرضعتُه أمَّه، فأعاده الله إليها لترضعه بالأجرة، وتنال عز السلطان! (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [القصص:12-13].

 

عباد الله: وبعد ذلك شبّ موسى في بيت فرعون، وفي يوم من الأيام رأى رجلاً من قومه بني إسرائيل يقاتل رجلاً من القبط قوم فرعون، فانتصر موسى للإسرائيلي، فدفع القبطي، ومن قوة الدفع مات القبطي، من غير قصد لقتله.

 

فانتشر الخبر في المدينة، فبدأت المؤامرة تحاك لقتل موسى، فنصحه رجل بالخروج من أرض مصر؛ حرصًا على سلامته من بطش فرعون وملئه، فخرج إلى مدين، فكانت له هذه القصة الشيقة التي سنعيش معها في هذه الكلمة بعون الله -تعالى-.

 

قال -تعالى-: (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ * وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَاأَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ * قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) [القصص:20-28].

 

أيها الأحبة الأفاضل: خرج موسى -عليه السلام- من مصر متجهًا إلى مَدْيَنَ جهة الشام، فوصل إلى مورد أهل مدين فوجد جمعًا كبيراً من الناس يسقون ماشيتهم، ونظر ناحية فرأى امرأتين معهما غنم لهما تنتظران انصراف الرجال لتسقيا غنمهما من غير مزاحمة للرجال، فدعت الرحمة موسى -عليه السلام- لسؤالهما عن سبب ابتعادهما عن السقي، فأخبرتاه بأنهما ينتظران فراغ المورد من الرجال، وليس لهما رجل يسقي لهما إلا أب لا يقوى على ذلك لشيخوخته، فسقى لهما موسى الغنم، ثم لجأ إلى الظل بعد إعياء السفر وجوعه، فدعا الله -تعالى- أن يسخر له ما يذهب جوعه.

 

وحينما عادت البنتان إلى أبيهما مبكرتين على خلاف العادة سألهما أبوهما عن ذلك، فأخبرتاه بما جرى، فأراد ذلك الشيخ الصالح أن يكافئ موسى على جميله الذي أسداه لابنتيه، فأرسل إحدى بنتيه إلى موسى تستقدمه للإكرام، فجاءته تمشي على حياء جم، وذهبت به إلى أبيها، فلما وصل موسى إليه وجد الإكرام والأمان، فطلبت إحدى البنتين من أبيها أن يستأجره لرعي الأغنام لأمانته وقوته، فاختار والدها ما هو أكمل، فعرض عليه أن يزوجه إحدى ابنتيه، على أن يكون المهر أن يرعى الغنم مدة ثماني سنين، وإن أراد الزيادة على ذلك سنتين فضلاً منه فعل، فوافق موسى على هذا العرض الكريم، وأقام مدة عشر، سنين ثم رجع إلى مصر.

 

أيها المسلمون: إن من يتأمل في شخصيات هذه القصة القرآنية العظيمة وأعمال أهلها سيجد فيها عبراً وعظات نافعة يجدر بنا أن نقف عندها؛ لنستقي من معينها، ونتزود من فوائدها.

 

فمن العظات والعبر في أعمال موسى -عليه السلام- وأخلاقه: مشروعية الهجرة في سبيل الله من الأرض التي يخاف فيها المسلم على دينه ونفسه وعرضه، وهي في ذلك قد تكون واجبة وقد تكون مستحبة، حسب الحال. قال -تعالى-: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [النساء:100]. وقال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" رواه أحمد وأبو داود. وفي هجرة رسول الله وأصحابه قدوة حسنة.

 

ومن العبر -كذلك- أن على المسلم أن يبادر إلى صنع المعروف للناس، فيعين المحتاجين، ويفرج كربات المكروبين، ويفعل الخير ابتغاء وجه الله رب العالمين. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة: فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى" رواه مسلم. فكم لهذا الفعل الحسن من أثر نفسي وواقعي بين الناس! وزرعُ مثل هذا الخير في النفوس الكريمة خاصة ينبت سريعًا بإذن ربه فيُكافَأ ذوو المعروف بالمعروف، والجزاء من جنس العمل.

 

فموسى -عليه السلام- سقى للبنتين ابتغاء وجه الله -تعالى- فأثمر ذلك العمل الحسن في أنفس أهل هذا البيت الصالح الشكر عليه، فكان الشكر والمكافأة: الضيافة الكريمة، والأمن الوارف، والزوجة الصالحة، والعيش الحسن.

 

عباد الله: ومن عبر هذه القصة في شخصية موسى -عليه السلام-: بيان مروءة موسى، وعزة نفسه، وكمال رجولته، حينما رأى لؤم أولئك الرعاة على المورد في عدم تقديم المرأتين في السقي، فقام هو بسقي غنمهما دون الرعاة.

 

واليوم، قد يجد الإنسان بعض النساء في بعض الأمكنة لديهن معاملات أو حاجات لكنهن يعانين زحام الرجال، فمن المروءة والعمل الصالح: مساعدتهن وتقديمهن في مثل هذه الأحوال.

 

ومن العبر والدروس في شخصية موسى -عليه السلام-: ظهور عفته ونزاهته؛ فإنه سألهما عن سبب ترك السقي، ولم يتوسع بعد ذلك في كثرة الكلام معهما؛ لعدم الحاجة لذلك. ولا مانع في الشرع من كلام الرجل مع المرأة والمرأة مع الرجل إذا كان ذلك لحاجة مشروعة من غير خضوع في القول وتحسين للخطاب؛ طلبًا للإعجاب وميل القلوب.

 

ثم إن موسى -عليه السلام- عندما جاءته إحدى البنتين تطلب قدومه على أبيها قال لها: "كوني من ورائي، فإذا اختلفتْ عليّ الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها الطريق لأهتدي إليه". ففي هذا عبرة لكل مسلم أن يكون محافظًا على عورات المسلمين وحرماتهم، ساتراً لها، بعيداً عن تتبعها وإفسادها، وإن غاب عنه الرقيب، وسُتِر عن العيون.

 

أيها الأحبة الكرام: ومن الدروس المفيدة من شخصية موسى في هذه القصة: ظهور قوته ونفع الناس بها، والقوة النافعة من الصفات المحمودة في الرجال، و"المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

 

والإسلام يأمر المسلمين أن يكونوا أقوياء في كل مجال تُحمد فيه القوة: أن يكونوا أقوياء إيمانيًا، وبدنيًا، وعلميًا، وماديًا، وغير ذلك.

 

وقد تحدثت إحدى البنتين عن قوة موسى حينما سألها أبوها لما أشارت إلى استئجاره لرعي الأغنام، فقال لها أبوها: "وما علمك بقوته وأمانته؟ قالت: إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلا عشرة رجال، وإني لما جئت معه تقدمت عليه، فقال: كوني من ورائي...".

 

ومن العبر -كذلك- البعد عن سؤال الناس، واللجوءُ إلى الله والافتقار بين يديه وحده، فموسى في ذلك الوقت كان يعاني عناء السفر وألم الجوع، ومع ذلك لم يمد يده ولا لسانه إلى الناس للاستعطاء والاستطعام، بل إنه ساعد البنتين ولم يطلب منهما طعامًا جزاء سقيه لهما، وإنما لجأ إلى الله -تعالى- وعرض عليه حاله فقال: (رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ) [القصص:24] أي: محتاج إلى طعام؛ لشدة الجوع، ومن استغنى بالله أغناه الله، ومن عرض حوائجه على الله وحده ووثق به وأيقن بفرجه كفاه الله اللجوء إلى الخلق.

 

معشر المسلمين: ومن العبر أيضًا: الحرص على العمل الذي يكسب منه المسلم ما يعينه على الزواج وتكوين الأسرة الصالحة، فموسى عمِلَ عشرَ سنوات متصلة من أجل عفة فرجه، وهذه المدة وإن كانت طويلة لكنها حينما كانت من أجل العفة وتحصين الفرج فهي شيء يسير، والحاجة إلى النكاح قد تكون كالحاجة إلى الطعام والشراب.

 

وكذلك من عموم هذا الدرس البليغ: الحرص على السعي في طلب الرزق في الأعمال الدنيوية المباحة؛ فموسى وغيره من الأنبياء قد عملوا وسعوا في مناكب الأرض. قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما أكل أحد طعامًا خيراً من أن يأكل من عمل يده، وإن نبي الله داود -عليه السلام- كان يأكل من عمل يده" رواه البخاري.

 

ثم إن لله -تعالى- حكمة في تقدير هذه المدة؛ حتى ينقطع البحث الفرعوني، ويتطرق إلى خبر موسى التناسي، وتخبو عنه نار الحقد القبطي.

 

ومن العبر -كذلك- الحرص على إتقان العمل، والوفاء بالعهود والشروط وعقود الأعمال؛ فإن موسى -عليه السلام- قد اتفق مع صاحب مدين على أن يكون راعيًا لأغنامه مهراً لابنته، فأدى موسى هذا العمل على تمامه، بل زاد سنتين على الثمان تفضلاً واختياراً لأكمل الأمرين. ففي هذا عبرة لكل عامل وموظف في أن يكون متقنًا لعمله، قائماً بحق عمله من غير خيانة ولا خداع. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" رواه البيهقي.

 

أيها المسلمون: ومن شخصيات هذه القصة: شخصية بنتي شيخ مدين. إن هاتين البنتين الكريمتين قد ظهر عليهما أريج الأخلاق الحسنة، وعبير الأعمال الكريمة، لتكشف ما كان عليهما من سبوغ جلباب الفضائل، وسمات النساء الكوامل.

 

فمن العبر من شخصيتهما ما كان عليهما من الحياء السابغ الذي عبّر عنه بُعدُهما عن مزاحمة الرجال في المورد، وتأخرهما حتى ينصرفوا، فيخلو المكان لهما من غير احتكاك بالرعاة. وهذه سمة كريمة ما أحوجَ بعض نساء اليوم إليها! إذ يشاهد المشاهد في عصرنا جرأة بعض النساء في أماكن الزحام وهن يصدِّعن صفوف الرجال كتصديع الشجعان الصفوف في القتال! حتى صار بعض الرجال يخاف على نفسه منهن أكثر من خوفهن على أنفسهن!.

 

ومن مظاهر الحياء لدى البنتين أن إحداهما لما جاءت تدعو موسى للمكافأة جاءته والحياء يحيط بها من كل جانب، (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ) [القصص:25]، قال عمر -رضي الله عنه- عن هذه البنت -: "إنها ليست بسلفع من النساء -جريئة- خرّاجة ولّاجة، ولكن جاءت مستترة، وضعت كُم درعها على وجهها استحياء". وهذا الخلق المضيء يباين ما عليه بعض النساء اللاتي قد يمشين في الشوارع مِشية متكسرة جريئة يُردن بذلك سرقة الأنظار إليهن وحبسها عليهن.

 

إن الحياء -عباد الله- من أعظم الأخلاق التي تصلح المجتمع، فإذا حُمد من الرجال فهو من النساء أحمد؛ لأنه يصونهن ويحفظهن عن الريب والعدوان، وهو عنوان جمالهن وكمالهن، قال الشاعر:

فجمالُ الرجال عقلٌ رجيحٌ *** والغواني جمالهن الحياءُ

 

وبقدر هذا الخلق الكريم أيضًا تُعرف بقية أخلاق المرأة، وبه كذلك تعرف استقامة المجتمع، رجاله ونسائه.

 

ومن العبر في شخصية هاتين البنتين: برهما بأبيهما، والسعي في مساعدته، وتخفيف العناء عنه، وهذا من الأعمال الطيبة التي ينبغي أن تتوافر في البنات، فيكن من أهل البر بالوالدين، ويفعلن ما يرضيهما بالمعروف.

 

ومن العبر -أيضًا- دقة فراسة تلك البنت التي أشارت على أبيها باستئجار موسى -عليه السلام- حينما تأملت أمانته التي سيأمنون على أنفسهم لوجودها في راعي غنمهم، وفي قوته التي ستعينهم في صلاح أمرهم. قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "أفرس الناس ثلاثة: العزيز في يوسف حين قال لامرأته: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا) [يوسف:21]، وبنت صاحب مدين حين قالت: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ) [القصص:26]، وأبو بكر حين استخلف عمر".

 

بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

 

أما بعد: أيها المسلمون، والشخصية الأخيرة في هذه القصة هي شخصية أبي البنتين، ذلك الرجل الكريم الذي ظهرت عليه صفات الصلاح والخير والكرم، هذا الشيخ المديني يذكر بعض المفسرين والمؤرخين عنه أنه نبي الله شعيب -عليه السلام-، ولكن ليس هناك دليل صريح يدل على أنه هو، ويستدل بعض من يقول: إنه ليس إياه، بل هو شيخ صالح: بأن زمن موسى غير زمن شعيب، وبأنه لو كان شعيبًا لصرح الله باسمه دون وصفه. والله أعلم.

 

أما العبر والدروس من أخلاق هذه الشخصية الكريمة وعملها، فمنها: بيان كرم هذا الرجل الصالح، وحسن شمائله، حيث أكرم موسى -عليه السلام- وكافأه على فعل الخير لبنتيه، والإنسان الكريم إذا أحسن إليه كافأ المحسن على إحسانه، وقد أرشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى ذلك فقال: "ومن صنع إليكم معروفًا فكافئوه؛ فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن حبان.

 

ومن العبر في خبر هذه الشخصية: أن الله -تعالى- يهيئ لعباده الصالحين من يقضي حوائجهم، ويعينهم في إصلاح أحوالهم، فقد هيأ الله لصاحب مدين موسى ليسقي له الغنم، وهيأ لموسى صاحب مدين ليجد عنده الملاذ الآمن والعيش الصالح.

 

عباد الله: ومن الدروس كذلك: بيان حرص الأب على بناته؛ فقد سأل هذا الشيخ بنتيه عن شأنهما حينما تقدما في المجيء ومن عادتهما التأخر؛ سألهما خشية أن يكونا قد زاحما الرعاة أو حصل شيء آخر. وهذا فيه درس نافع للآباء والأمهات في تتبع أخبار الأبناء والبنات ومتابعة أحوالهم، وأن لا يتركوا دون سؤال لكن من غير إفراط يفضي إلى نتائج عكسية.

 

ومن العبر كذلك: أن موسى -عليه السلام- عندما جاء هذا الرجل خائفًا طمأنه وأمّنه وشهد على أعدائه -فرعون وملئه- بالظلم. فمن هذا يستحب للمسلم إذا جاءه مظلوم خائف أن يؤمنه ويسعى لإزالة خوفه ما استطاع؛ فإن ذلك من جلائل الأعمال، خاصة في هذا العصر الذي نرى فيه كثرة النازحين من ظلم الظالمين.

 

ومن الدروس -كذلك- مشروعية عرض الرجل ابنته على من يتوسم فيه الصلاح في دينه ودنياه، وأن ذلك لا يعد عيبًا ولا منقصة، بل هو مدح وكمال وخير يقدمه الأب لبناته؛ فقد فعله خيار عباد الله، فعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- قال: "إن عمر بن الخطاب حين تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد شهد بدراً، توفي بالمدينة، قال عمر: فلقيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، قال: سأنظر في أمري، فلبث ليالي فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا. قال عمر: فلقيت أبا بكر فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر فلم يرجع إلي شيئًا فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليّ حين عرضتَّ علي حفصة فلم أرجع إليك؟ قلت: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت إلا أني قد علمت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ولو تركها لقبلتها" رواه البخاري.

 

ومن الدروس كذلك، أيها الأفاضل: أن الله -تعالى- أوجب على الرجل المهر للمرأة بالزواج وهو حقها صِرفًا، إلا إذا تبرعت به بإرادتها لأبيها أو لغيره؛ فصاحب مدين رغب في أن يصاهر موسى على أن يكون مهر ابنته هو رعي الغنم ثمانِيَ سنين، غير أن هذا المهر في هذه الجهة -كما يقول بعض العلماء- كان في شرع من قبلنا بأنه لا يشترط أن يكون للمرأة. وأجاب بعض العلماء بجواز أن يكون المهر منفعة تقدّمُ للزوجة ولا يشترط أن يكون شيئًا حسيًا، والله أعلم.

 

ومن الدروس -أيضًا- في شخصية هذا الشيخ الكريم: حسن التعامل مع العمّال والمستأجَرين، فتكليف العامل أو الموظف ما لا يشق عليه خلق حسن، وقربة صالحة؛ ولهذا فإن صاحب مدين قال لموسى: (وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ). فما أحوج أصحاب الشركات والأعمال إلى تمثّل هذا الخلق الرائع مع الموظفين والعمال!.

 

فيا أيها المسلمون: هذه بعض الوقفات المهمة وقفناها في رياض هذه القصة القرآنية العظيمة، فلعلنا أن نستفيد منها في حياتنا، وتكون كذلك نبراسًا لنا في تدبر القرآن وأخذ الدروس والعبر من قصصه وأخباره وأحكامه.

 

هذا وصلوا وسلموا على البشير النذير، والسراج المنير....

المرفقات

الطريق إلى مدين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات