أوثق العرى

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الإيمان
عناصر الخطبة
1/ عقيدة الولاء والبراء أوثقُ عُرى الإيمان 2/ أهمية مراجعة أمر تلك العقيدة 3/ وضوح الدلائل على حمل القلب عليها 4/ عدم ارتباطها بالبر والقسط 5/ فضل عشر ذي الحجة 6/ اغتنام العشر

اقتباس

هناك مفاهيم في الإسلام تتعلق بالعقيدة، العقيدة التي هي -بَعد الله تعالى- سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة، والجانب الذي سنتحدث عنه اليوم -إن شاء الله- هو: "عقيدة الولاء والبراء".

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مُضِلّ له، ومَن يُضْلِلْ فلا هاديَ له.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

هناك مفاهيم في الإسلام تتعلق بالعقيدة، العقيدة التي هي -بَعد الله تعالى- سبيل النجاة من النار والفوز بالجنة، والجانب الذي سنتحدث عنه اليوم -إن شاء الله- هو: "عقيدة الولاء والبراء".

 

أيها الإخوة: نحن ونساؤنا وأولادنا نعيش في زمن انفتاح كبير على العالم كله، انفتاح لا مفر منه، تداخلت فيه الأمور، واختلطت المفاهيم، ولربما تسبب ذلك مع -طول الزمن- في نسيان أهل الإسلام لبعض ثوابت العقيدة من دون قصد؛ ولهذا، يجب بين الحين والآخر أن نراجع المسير، وأن نصحح الأخطاء، وأن نؤكد على الصواب، وأن نتواصى بالحق والصبر، وهذا من هدي القرآن؛ فلطالما راجع القرآن مواقف الصحابة عبر حياتهم وصحح الأخطاء، وأكد على العديد من ثوابت العقيدة في مواضع عديدة في كتاب الله.

 

ولهذا قال -تعالى- محذرا: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:16]، وقال أيضا -عز وجل-: (وَلَكِنَّا أَنشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ) [القصص:45].

 

في صحيح الترغيب، عن البراء بن عازب، سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- صحابته ذات يوم: "أَيُّ عُرَى الْإِسْلَامِ أَوْثَقُ؟"، قَالُوا: الصَّلَاةُ، قَالَ: "حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا"، قَالُوا: الزَّكَاةُ، قَالَ: "حَسَنَةٌ، وَمَا هِيَ بِهَا"، قَالُوا: صِيَامُ رَمَضَانَ، قَالَ: "حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ"، قَالُوا: الْجِهَادُ، قَالَ: "حَسَنٌ، وَمَا هُوَ بِهِ"، قَالَ: "إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضُ فِي اللَّهِ".

 

"أوثق عرى الإيمان"، عُرى: جمع عروة، وهي العقدة التي تعقد بين حبلين لربطهما ببعض، أو تلك التي تعقد ليشد بها المتاع، عرى الإسلام هي الوشائج والعقائد التي تربط المسلم بدينه، هي العقد التي تربطه بأصل الإنسان وتشده إليه؛ فأوثقها، أي: أكثرها قوة وثباتا عند الله وأشد ما يشد به المسلم نفسه إلى دينه من تلك الخصال، أو ما سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- في الحديث: "عرى الإسلام"، "هو أن يحب في الله ويبغض في الله".

 

يحب لأجله وحده، لا لعرض مادي، ولا لغرض دنيوي، وليس ذلك فحسب؛ بل ويبغض لأجله أيضا، ليس محبة فقط، الحب والبغض في الله -سبحانه-.

 

عباد الله: العاقل لا يقبل العلم إلا بالدليل؛ فإذا حضر الدليل القاطع الصحيح توقى الجدل، هذا هو الحال إذا كان المسلم متواضعا للحق، إذا سلم من العناد والكبر؛ لأن المتكبر يرد الدليل ولو كان واضحا وضوح الشمس، والمؤمن حقا هو أولى الناس في ابتغاء الدليل؛ لأن القرآن الذي يؤمن بمنهجه أصّل ذلك تأصيلا، فالرسل عندما نادوا إلى التوحيد إنما أتوا للناس بالبينات، الأدلة الواضحة، أتوا بالبينات، والآيات، والبرهان، والسلطان المبين، وما كان الناس ليؤمنوا لولا الله، ثم قوة الدليل.                                                                                                                                                                                                  ولهذا أقول: إن الدلائل قائمة بكل وضوح على ضرورة حمل القلب على حب الله -تعالى- وحب من والاه، وفي الوقت ذاته، بغض من عادى الله -سبحانه- وكفر برسوله.

 

أما النهي عن محبة الكافرين ففي قوله-جل وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ) [الممتحنة:1]، قال ابن سعدي في تفسيره: فإن المودة إذا حصلت تبعتها النصرة والموالاة، فخرج العبد من الإيمان، وصار من جملة أهل الكفر، ومما يدعو المؤمن -أيضا- إلى معاداة الكفار أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة؛ فإنهم قد كفروا بأصل دينكم، وزعموا أنكم ضُلّال على غير هدى. اهـ.

 

وأما المحبة الواجبة ففي قوله -تعالى- في سورة المائدة؛ مَنَّاً على عباده، ومبينا عقيدة المحبة التي لا دين للإنسان دونها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة:54]. جمعت الآية بين الردة عن الدين وبين ما هو ضد ذلك وهو محبة الله -تعالى-: (مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

 

وجعل أول صفة لصدق الإيمان محبة الله، ثم ذكر المقتضيات العملية لتلك المحبة فقال: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ)، فالذلة للمؤمنين الموحدين، والعزة على من كفر بالله وأعرض عنه من صفات المحبين لله، والعزة على الكافر وبغضه في الله، ولا يعارضان البر والإحسان إلى الكافر المسالم والقسط معه، هذا شيء آخر؛ فالله -تعالى- قال في صريح القرآن إنه لا يحب الكافرين... والمتعارف عليه بين الناس أن من أحب كان محبا لأحباب من أحب، ومبغضا لأعدائه، هذا متعارف عليه؛ ولذا قال ابن القيم -رحمه الله-: المحب يحب من يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يوالي محبوبه، ويعادي من يعاديه، ويرضى لرضاه، ويغضب لغضبه، ويأمر بما يأمر به، وينهى عما نهى عنه... وهؤلاء هم الذين يرضى الرب عنهم، ويرضى لرضاهم، ويغضب لغضبهم؛ إذ هم إنما يرضون لرضاه، ويغضبون لما يغضب له. اهـ.

 

وهذا -أيها الإخوة- من كمال المولاة لله -سبحانه وتعالى-: أن تحب من يحب وتبغض من يبغض؛ ولذا، فإنكم ترون أن الله -تعالى- قبل تلك الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، قد أتى بآية إخلاص الموالاة؛ لما جاء فيها النداء للمؤمنين باجتناب موالاة اليهود والنصارى؛ لأن الموالاة تقتدي الانحياز التام، يقول -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [المائدة:51]، (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ): انحيازٌ تامٌّ.

 

ثم جاءت في نهاية السياق آية تبين حصر الولاء والحب لله ولرسوله وللمؤمنين الصادقين، قال  -عز وجل-: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) [المائدة:55].

 

ثم أكد هذا الولاء في الآية التي تلتها، فلم يكتف بالضمير؛ بل سماهم مرة أخرى، قال في الآية: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ)، فذكر أسماءهم مرة أخرى: الله-جل وعلا-، ورسوله، والذين آمنوا؛ تأكيدا على الحصر، فلم يقل: ومن يتولهم في الآية التي تلتها، قال: (وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) [المائدة:56].

 

أي شيء آكد من ذلك في حصر الولاء؟ هذا هو الإسلام، دين الحب؛ ولكن: أي حب؟ حب الله -تعالى-، وحب ما يحبه الله، حب دينه، حب رسوله، حب قيم الإسلام وثوابته؛ وليس هذا فحسب، بل يقتضي خلوص الحب بغض ما سوى ذلك.

 

ولهذا جاء في صحيح الترغيب من حديث أبي أمامة الباهلي قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان".

 

البغض لله يتبع الحب فيه لا مناص... ولا علاقة لهذا بالسماحة والرحمة، السماحة والرحمة شيء والحب والبغض شيء آخر، فلا حب إلا ببغض. طيب؛ ما هو الدليل؟ يقول أحدهم: الدليل هو قوله -سبحانه وتعالى-: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [الممتحنة:4]. أي دليل أوضح من هذا؟.

 

نسأل الله -تعالى- أن يرزقنا كمال حبه وحب دينه ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، والله المستعان.

 

أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

أما بعد: فما زالت أيام الله المباركات، أيام العشر، مازلت تمنحنا فرصاً عظيمة للعمل الصالح، أيام اختارها الله -تعالى- من بين سائر الأيام، وأقسم بها؛ لعظيم شأنها عنده، قال: (وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ) [الفجر:1-2]، فليالي العشر هي العشر الأول من ذي الحجة كما قال المفسرون.

 

وبتعظيمها عظم الله العمل الصالح فيها، ففي صحيح أبي داود وغيره، من حديث ابن عباس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام"، يعني: الأيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: "ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء".

 

من تأثر -أيها الإخوة- بهذا الحديث فشمر للعمل الصالح في هذه الأيام المعدودة السريعة الانقضاء فهنيئا له والله! هنيئا له! ثم هنيئا له! أما من مر عليه الحديث مرورا عابرا هكذا فلم يحرك فيه الهمة بعمل الخيرات والاستباق لها وبقي على ما هو عليه لم يزد في النوافل ولا في التبكير والتهليل ولا قراءة القرآن ولا الاستغفار ولا الصدقة ولا صلة الرحم؛ أسأل الله لي وله الهداية؛ فإنه لا خسران كخسران ساعة مباركة يضاعف فيها الأجر، ويغفر فيها الذنوب.

 

اللهم أصلح قلوبنا وأعمالنا...

المرفقات

أوثق العرى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات