الليالي المباركات

خالد بن سعد الخشلان

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ سرعة مرور أيام رمضان 2/ فضائل العشر الأواخر من رمضان 3/ فضل ليلة القدر والحث على تحريها 4/ خطورة التفريط في اغتنامها وقيامها 5/ دعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة 6/ أهمية نعمة الأمن في المجتمعات ووجوب المحافظة عليه.

اقتباس

السعيد –والله- من عرف لهذه العَشْر قدرها وفضلها، فشمَّر عن ساعد الجد لاغتنامها بالأعمال الصالحات والطاعات والقربات، فما هي إلا ليالي معدودات عما قريب تمضي سريعة، وتصبح خبرًا بعد عين، قال ابن الجوزي -رحمه الله- عن ليلة القدر: "والله ما يغلو في طلبها عشر ولا شهر ولا دهر، لو أنفق الإنسان عمره في طلبها ما قدرها حق قدرها". ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "لو كانت ليلة القدر ليلة واحدة بالسنة لقمت السنة حتى أدركها"، فكيف يا عباد الله وهي ليلة في شهر واحد من شهور العام، بل في عشره...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وصفيه وخليله وأمينه على وحيه وخيرته من خلقه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أئمة الهدى ومصابيح الدجى ومن تبعهم واكتفى وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله؛ فإن تقوى الله -عز وجل- من أجل المقامات، وأعظم الدرجات، وهي الوصية التي لا يُمَلّ سماعها ولا تكررها؛ فهي وصية ربنا -سبحانه وتعالى- لنا: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللّهَ) [النساء: 131]؛ منَّ الله علينا جميعا بتقواه، وجعلنا من أهل محبته وولايته ورضاه؛ إنه سميع مجيب.

 

عباد الله: هذه أيام شهركم ولياليه أخذت في التقضّي والرحيل، فها أنتم ودَّعتم عُشر الشهر الأولى، وعشره الوسطى، وها أنتم تستقبلون عُشره الأخير؛ فلله ما أسرع مرور الأيام والشهور وكر السنين والأعوام!

 

إنها أيام نقاضيها في أعمارنا، ومراحل نقطعها في رحلتنا إلى الدار الآخرة، فرحم الله عبدًا استيقظ من غفلته، وانتبه لمصيره واستعد لملاقاة ربه.

 

اللهم أيقظنا من رقدات الغفلات، وأعنا على تدارك الخلل والتقصير في الأيام الماضيات، واغتنام بقايا الآجال بالباقيات الصالحات؛ إنك أنت البر الرحيم الغفور الكريم.

 

عباد الله: اعلموا -رحمكم الله- أن عشركم هذه هي خير ليالي العام، أودع الله فيها ليلةً العملُ الصالح فيها خيرٌ من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، أنزل الله -عز وجل- في شأنها سورة كاملة؛ إعلاء لشأنها وبيانًا لعظيم مكانتها وتنويهًا بشرفها؛ فقال -سبحانه وتعالى-: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ * سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) [القدر: 1- 5].

 

وسماها -سبحانه وتعالى- في كتابه بالليلة المباركة أي الكثيرة بركاتها وخيراتها (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ) [الدخان: 3]، فما أسعد مَن وُفِّق لقيامها واغتنامها، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

فيا لله! ما أعظم جوده وأعم إحسانه وأكثر عفوه وغفرانه لعباده الطائعين.

 

أيها الإخوة في الله: السعيد –والله- من عرف لهذه العَشْر قدرها وفضلها، فشمَّر عن ساعد الجد لاغتنامها بالأعمال الصالحات والطاعات والقربات، فما هي إلا ليالي معدودات عما قريب تمضي سريعة، وتصبح خبرًا بعد عين، قال ابن الجوزي -رحمه الله- عن ليلة القدر: "والله ما يغلو في طلبها عشر ولا شهر ولا دهر، لو أنفق الإنسان عمره في طلبها ما قدرها حق قدرها".

 

ويقول ابن القيم -رحمه الله-: "لو كانت ليلة القدر ليلة واحدة بالسنة لقمت السنة حتى أدركها"، فكيف يا عباد الله وهي ليلة في شهر واحد من شهور العام، بل في عشره الأواخر! تالله إن التفريط في اغتنامها وقيامها من أعظم أنواع التفريط وأشد الغبن للعبد.

 

عباد الله: من خير ما تحيا به هذه الليالي المباركة عمومًا وليلة القدر خصوصًا: القيام بالصلاة بين يدي الملك العلام، فلله ما أجمل وقوف المصلين بين يدي ربهم في هذه الليالي يرجون رحمته ويخشون عذابه (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ) [الزمر: 9].

 

ولله ما أغلى دموع المصلين تضرعًا بين يدي ربهم الكريم، وإخباتًا لمولاهم العظيم، وافتقارًا لفضله الكبير؛ فـ"من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

 

ومما تحيا به الليالي دعاء المولى -سبحانه وتعالى- والتضرع بين يديه وسؤاله من خير الدنيا والآخرة؛ فهو -سبحانه- مَن بيده أمور العباد كلها يصرِّف الليل والنهار يقلِّب الليل والنهار كيف يشاء سبحانه! إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.

 

وهو -سبحانه- الذي يقدِّر ما يكون على العباد كل عام في ليلة القدر فيها يُفرَق كل أمر حكيم.

 

فعليكم -يا عباد الله- بالدعاء للمولى الكريم، وأكثروا من قول يا ذا الجلال والإكرام، واسألوا ربكم العفو عنكم، فعن أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- قالت: يا رسول الله أرأيت إن وافقت ليلة القدر ما أقول؟ قال: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني".

 

إنه دعاء جامع لخيري الدنيا والآخرة؛ فإن من تحقق له عفو الله توالت عليه الخيرات والبركات، وتولت عنه الشرور والآفات والبريات، والله لو أن عبدًا قضى عمره كله في طاعة وعبادة لكان في أشد الحاجة إلى عفو مولاه، فكيف بنا ممن خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيئًا، كيف بنا نحن المقصرين المفرطين في طاعة مولانا، كيف بنا ممن تلطخت حياتهم بأوزار الذنوب والمعاصي لا شك أنهم في أشد الحاجة لسؤال الله العفو.

 

فأكثروا -رحمكم الله- في هذه الليالي المباركات من سؤال الله العفو، وقولوا: "اللّهمّ إنّك عفّوٌ كريمٌ تحبُ العفوَ فاعفُ عنّا، اللّهمّ إنّك عفّوٌ كريمٌ تحبُ العفوَ فاعفُ عنّا، اللّهمّ إنّك عفّوٌ كريمٌ تحبُ العفوَ فاعفُ عنّا".

 

كرروا هذا الدعاء واستكثروا منه في سجودكم، وآخر صلواتكم، وفي قنوتكم، وفي خلواتكم وتضرعاتكم؛ فإنه والله مطلب عظيم ومقصود جليل، فنسأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دُعِي به أجاب، وإذا سُئِل به أعطى، وهو -سبحانه- العَفُوُّ أن يعفو عنا ويتجاوز عن سيئاتنا، ويرحم ضعفنا وتقصيرنا ويجبر كسرنا؛ إنه أرحم الراحمين.

 

عباد الله: آخر شهركم خير من أوله، فأروا الله من أنفسكم خيرًا في الطاعة والعبادة، واحذروا الفتور عنها؛ فإن ذلك من تسويف الشيطان وإغوائه، ومن أحسن في أول الشهر فليختم شهره بالإحسان؛ فإن الأعمال بالخواتيم، ومن قصَّر أول الشهر فبين يديه فرصة عظيمة في هذه العشر المباركة لتلافي تقصيره، وتدارك تفريطه، وليكن لكم في رسولكم -صلى الله عليه وسلم- أسوة حسنة؛ فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا دخلت العشر جد واجتهد، وشد المئزر، وأيقظ أهله، وأحيا الليل؛ فاحرصوا -رحمكم الله- على تذكير أهلكم بفضل هذه الليالي المباركات ووجِّهوهم لاغتنامها بالصلاة والدعاء والذكر والتسبيح والتحميد وقراءة القرآن.

 

واعلموا يا عباد الله أن خسائر الدنيا تتلافى، وأن غبنها يمكن تعويضه، لكن خسائر الآخرة وغبنها لا يمكن تعويضها، وما مضى من مواسم الفضل والخير لا يمكن أن يعود أبدًا.

 

اللهم كما وفَّقْتنا لبلوغ هذه العشر وفِّقْنا لاغتنامها على الوجه الذي يرضيك عنا واجعلنا ممن وفقتهم لقيام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا، واجعلنا ووالدينا وذرياتنا وسائر أحبابنا وقرباتنا وأرحامنا من عتقائك من النار يا ذا الجلال والإكرام.

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلًا مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ) [الذاريات: 15- 19].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فإن أفضل الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.

 

عباد الله: من أكبر نِعَم الله علينا في هذه البلاد المباركة هذا الأمن العظيم الذي ننعم به ونتفيأ ظلاله نصوم بأمن، ونذهب المساجد بأمن، ونزور بيت الله الحرام بأمن، ونسعى في الطرقات والأسواق بأمن، والله إن ذلك لمن أعظم النعم التي تستوجب شكر المنعم بها -سبحانه وتعالى- فهو (الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش:4].

 

وتعظم هذه النعمة في الوقت الذي نرى فيه كثيرًا من مجتمعات المسلمين يمر عليهم رمضان تلو رمضان لا يعرفون للأمن سبيلاً؛ خوفًا على الأنفس، وخوفًا على الأعراض، وخوفًا على الأولاد والأهل، وخوفًا على الأموال والممتلكات، استحر القتل فيهم، وابتُلُوا بالتشريد والإخراج من ديارهم ومنازلهم، وأنتم يا عباد الله في هذه البلاد المباركة تنعمون بالأمن الوارف في جميع مناحي الحياة؛ (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].

 

ألا فاتقوا الله عباد الله، واشكروا نعمة الله عليكم بالأمن، وحافظوا على أسباب تحقيق الأمن التي من أعظمها تحقيق التوحيد لله رب العالمين (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ) أي: بِشِرْكٍ (أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام:82].

 

وتطبيق الشريعة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وملازمة الجماعة، والسمع والطاعة لولي الأمر بالمعروف، والنصح لمن ولاه الله أمرنا، والاعتراف بالفضل لأهل الفضل من رجال الأمن الساهرين على حفظه المضحين بأرواحهم من أجل استتبابه واستقراره فلهم منا الدعاء بالحفظ والتأييد والنصر والإعانة.

 

فاللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك يا ذا الجلال والإكرام.

 

هذا وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

وقال عليه الصلاة والسلام: "من صلى عليَّ صلاةً صلى الله عليه بها عشرًا"، اللهم صلِّ وسلم وبارك...

 

 

المرفقات

المباركات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات