الحظ الوافر في العشر الأواخر

خالد بن علي أبا الخيل

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: رمضان
عناصر الخطبة
1/ جريان الأيام وانقضائها 2/ منزلة العشر الأواخر وفضلها 3/ الجد والاجتهاد في العشر الأواخر 4/ الفتور عن العمل الصالح في العشر الأواخر والتحذير من ذلك 5/ وصايا مهمة على أبواب العشر

اقتباس

حلت بنا ليالِ شريفة، وأيام منيفة، ولحظاتٍ كريمة، أيامٌ ذخائر، وعشرٌ أواخر، إنها من فضائل الأيام ونفائس الأوقات، وكرائم الساعات، عشرٌ شريفاتٌ مليحات، عشرٌ جليلاتٌ حميدات، عشرٌ زاخرات بالأطايب والمكرمات، عشرٌ تبتهج بالأنوار والرحمات، وحظيت بالجود والهبات، عشرٌ لُب لباب الشهر، وأيامه العظيمة الغُر، وأنجمه البهيات...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي جعلنا من أهل الصيام، وأشهد أن لا إله إلا الله، جعل العشر خير ختام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله خير من اجتهد في العشرِ بالقيام، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه أجمعين، نافسوا واجتهدوا بالقرآن والصيام والقيام.

 

أما بعد:

 

فاتقوا الملك العلام تفوزوا بدار السلام، فالصيام موصلٌ لتقوى ذي الجلال والإكرام.

 

أيها المسلون: هكذا الأيام تجري وتمضي كحلمٍ في المنام، والعين تسدل دمعها بانسجام، بالأمس نستقبل شهر الصيام، وكان استقبالًا مفرحا من جهودٍ مشكورة، وأعمالٍ مبرورة، وركعاتٍ معدودة، وختماتٍ متتالية، وصلةٍ وصدقات، وإطعام وبصمات، فالحمد لله رب الأرض والسماوات، فدلفت الأيام، وتقافزت الساعات، وكادت الشمس تغيب، وضعُف نور القمر، ودنا الرحيل، وأزف التحويل، فذهب من شهرنا ثُلثاه، وبقى عشرٌ نورٌ ومباهاة.

 

السؤال المطروح دون إحراجٍ وتأنيبٍ جريح: إن كانت الأيام الماضية مشغولةً بالعبادة، ومملوءةً بالذكر والقيام والقراءة، ويسُرك من ما مضى من أيامها بما أودعتها وملأتها، فعلى طريقك سر، وبأعمالك سُر، وبختام شهرِك دُم، وبالأعمال الصالحة اختم، وإن كانت الأخرى التشاغل والتناسي والتهاون، فاجتهد ما دام في الوقت فسحة وفي الشهر بقية، فالخيل تمشي رويدًا رويدا، وعند الختام تُسرع سيرها، وتظهر قوتها، وتخرج طاقتها؛ لعلمها أن النهاية هي الرقابة المعتبرة، وأن العبرة بكمال النهاية، فالأعمال بالخواتيم، فأحسن وداعك، فالعَبرة عند ختام الدمعةِ لا تُنسى، وكم لها من همسةٍ وصدى.

 

أيها الإخوة الصائمون: في هذه اللحظات، وفي هذه الساعات المعدودات حلت بنا ليالِ شريفة، وأيام منيفة، ولحظاتٍ كريمة، أيامٌ ذخائر، وعشرٌ أواخر، إنها من فضائل الأيام ونفائس الأوقات، وكرائم الساعات، عشرٌ شريفاتٌ مليحات، عشرٌ جليلاتٌ حميدات، عشرٌ زاخرات بالأطايب والمكرمات، عشرٌ تبتهج بالأنوار والرحمات، وحظيت بالجود والهبات، عشرٌ لُب لباب الشهر، وأيامه العظيمة الغُر، وأنجمه البهيات الزُهر، ليالي ما أجمل أنوارها، وأكبر قدرها، ليالي ما أرفع ذكرها وشرفها ورسمها، ليالي يود المؤمن إحياءها واغتنامها، ونورها، وحلاوتها، وفوزها، وثوابها، زهرة الشهر وسره، ودرته، وبره.

 

أيها الصائمون: كم يسعى الصالحون فيها بالجد والعمل! والمسارعة بالعبادات والطاعات، وحسن العمل.

 

يا معشر الصائمين والقائمين والذاكرين: اجتهدوا في عشركم، وابذلوا قُصارى جهدكم، فربما تكون هذه ختام أعماركم، فربما لا تدركوها في أعماركم، فكأنك قيل لك: هذه آخر عشرٍ تدركها، وآخر ليالٍ تعيشها، فماذا يكون حالك؟! وماذا سوف يكون عملك؟! كم أُناسٌ كانوا معنا في شهرنا الماضي! بل كم من إخواننا صلوا معنا وصاموا معنا وقاموا معنا!

 

كم كنت تعرف ممن صام من سلفٍ *** من بين أهلٍ وجيرانٍ وإخوانِ

أفناهم الموت واستبقاك بعدهمُ *** حيًا فما أقرب القاصي من الداني

 

بادروا -رحمكم الله- فرص هذه العشر قبل فواتها، اغتنموا مواسم الخيرات بِعمارتها، احذروا الغفلة والإضاعة، والتجاهل والإهمال والجفوة، احفظوا نفوسكم عما فيه شقاؤها، وغضوا أبصاركم فيها، وصونوا ألسنتكم فيها، احذروا فضول النظرات واللحظات والكلمات والمشروبات والمطعومات، احذروا كثرة النوم، وجلسات الاستراحات، والذهاب إلى الأسواق لغير حاجة، وحاول أن تقضي حاجتك في نهارك لتجعل ليلك لربك، لا تُشغل نفسك بالتافهات، والزيارات الفاضلات، نظم وقتك في عشرك، كم تقرأ وتصلي! كم تدعو وتسجد وتبكي! كم ختماتك وركعاتك وصدقاتك وبرك وإحسانك!

 

معشر الصائمين: من الملحوظات أن بعض الصائمين والصائمات كلما أخذ رمضان في النقص أخذ هو في النقص، فتجده في أول الشهر جادًا مجتهدًا، وفي آخره كسلانًا مقصرًا، والأكمل أن يكون آخره أحسن منه في أوله جدًا واجتهادا، عملًا واحتسابا، وبعض الناس إذا حلت العشر ونزلت تشاغل عنها، والهمة ضعفت، والعزيمة تقاعست، وآخرون عنها مشغولون، وفي لياليها هائمون، وفي نهارها نائمون، لا يفكرون ولا يعتبرون.

 

وآخرون لا يجتهدون إلا الأوتار من العشر، كليلة إحدى وعشرين وثلاثٍ وعشرين وسبعٍ وعشرين وهكذا، وآخرون لا يعملون ولا يصلون إلا ليلة السابع والعشرين، وآخرون يجدُّون في النهار، وفي الليل كُسالى غافلون، وآخرون عكس أولئك في الليل يجتهدون، وفي النهار نائمون، والموفقون الناصحون يستغلون ويستثمرون العشر ليلًا ونهارًا، ولأوقاتهم يحافظون، فالعشر تصفيةٌ وتنقية، وتربيةٌ وتزكية، فمن الحرمان أن تمر مر السحاب دون ثمرةٍ وإياب! هذا وكان هدي نبيكم كما وصفته عائشة -رضي الله عنها- عملٌ غريب، وجدٌ عجيب، تضاعفٌ في الأعمال، وتكاثرٌ من خير الخصال، فوصفته في أربع خصال، فقالت: "إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وجد واجتهد"، "شد مئزره" كنايةً عن الجد في العبادة، وقيل: اعتزال نسائه، وكلاهما صحيح، وعملٌ صالح نجيح، فإحياء ليالي ليله بالعبادة، فأحيا ليله في العبادةِ والطاعة.

 

هكذا -يا صائمون- نبيكم يعظم عشركم، ينكف عن المباحات وسائر الملذات حتى لا يشتغل عن العبادة، ولا يضيع وقته، ولا يفوته حزبه، وكان اجتهاده لا يقتصر على نفسه، بل يتعدى نفعه إلى غيره، والأقربون أولى بالمعروف، فيوقظ أزواجه للمشاركة في العبادة، فأين الآباء الصُلحاء الذين يسارعون للقيام، ويدعون أبناءهم نياما؟! أو يتركونهم في الشوارع والطرقات، وأمام القنوات والملهيات بلا حسابٍ ولا عتاب؟

 

ورب الأرباب يقول في مُحكم الكتاب: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) [طه: 132]، وكان السلف -رضوان الله عليهم- يُعظمون ثلاث عشرات، ومنها: العشر الأواخر لما فيها من البركات والرحمات والخيرات والمآثر، قال سفيان: "أحب إليَّ إذا دخل العشر الأواخر أن يجتهد بالليل، ويجتهد فيه، ويُنهض أهله وولده إلى الصلاة إن أطاقوا ذلك".

 

في هذه العشر خصائص انفرادية: نزول القرآن، وليلة القدر، والاعتكاف.

 

قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد الذي منَّ علينا بهذه العشر، وجعلنا من أمة سيد البشر.

 

أيها الصائمون: وصايا وتُحف في هذه العشر، ونُتف عض عليها بالأواصر، واعقد عليها الخناصر، وربي عليها الصغير والأهل والأكابر:

 

أولها: كثرةٌ من قراءة القرآن، أكثر من تلاوة القرآن في هذه العشر، وضاعف قراءتك عن العشرين الأول من هذا الشهر، فرمضان شهر القرآن، كيف لا وعشره الأخيرة أُنزل فيها القرآن! فأجل جُلَّ وقتك تلاوة كلام ربك.

 

ثانيًا: كن دَعّاءً ألزم الدعاء، ألزم الدعاء وأجعله هُجيراك في ليلك ونهارك، لا سيما في أسحارك وأنت تقوم في هذه الليالي، وأكثر ولازم ما وصى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عائشة: "اللهم إنك عفوٌ تحب العفو فأعفُ عني"، وكذا سؤال الله القبول: (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [البقرة: 127].

 

ثالثًا: لا تفوتك الصلوات مع الجماعة، فبعض الناس لسهره وإرهاقه يسهر ليله وينام نهاره، وربما امتد فنام عن صلواته كالظهر والعصر مع الجماعة.

 

رابعًا: عليك بقيام الليل، فإن استطعت ألا تفوتك فأفعل.

 

يا رجال الليل جدوا *** رُب داع لا يُردُ

ما يقوم الليل إلا *** من له عزمٌ وجدُ

 

احرص أن تصلي صلاة القيام كاملة؛ لتحظى بالأجور والفائدة، وصلاة التراويح والقيام واحدة كلها قيام ليل، والتفريق إنما هو من العامة، فلا تفوتك صلاة الليل أولًا وأخرًا مهما كانت ظروفك، ومن شعائر هذه العشر المباركة وخصائصها البارزة: صلاة التهجد والقيام، فقم -يا أخي- ودع عنك التواني والكسل، فاز والله من كان بالله متصل.

 

(كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الذاريات: 17 – 18]، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) [السجدة: 16]، (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا) [الفرقان: 64]، وقد تواتر الخبر عن سيد البشر: "إن الله ينزل نزولًا يليق بجلاله وعظمته كل ليلة إلى السماء الدنيا، فيقول حين يبقى ثلث الليل الأخر: من يدعوني فاستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له".

 

قد روى الثقات عن خير الملا*** بأنه عز وجلَّ وعلا

في ثلث الليل الأخير ينزل *** يقول هل من سائلٍ فيُقبل

هل من مسيء طالب للمعذرة*** يجد كريمًا قابلًا للمغفرة

يمن بالخيرات والفضائل *** ويستر العيب ويعطي السائل

 

قال أبو الدرداء: "صلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور"، وقيل للحسن: "ما بال المتهجدين من أحسن ناس وجوهًا" قال: "لأنهم خلوا بالرحمن فألبستهم من نوره".

 

قم الليل يا هذا لعلك ترشد *** إلى كم تنام الليل والعمر ينفدُ

أراك بطول الليل ويحك نائمًا *** وغيرك في محرابه يتهجدُ

أترقد يا مغرور والنار تُوقدُ *** فلا حرها يطفى ولا الجمر يخمدُ

 

أيها المسلمون: إن جوف الليل ملازم الخائفين، ولذة العابدين، وأنيس المستوحشين، وواحة المتعبدين، ونعيم الطائعين، ومناجاة المحبين، وخلوة المتقين، فجنوبهم عن المضاجع واجفة، وقلوبهم من خشية الله خائفة.

 

خامسًا: عليك بالصدقة، عليك بالصدقة ولو بشيءٍ قليل من إطعام طعام أو تفطير صائم، أو كسوة محتاج أو سد حاجة.

 

سادسًا: عليك بالأذكار المطلقة والمقيدة، والاستغفار والتوبة، فالذكر أكبر معين على العبادة، أكثر من لا إله إلا الله، لازم لا إله إلا الله.

 

سابعًا: تحرى ليلة القدر، فهي خيرٌ من ألف شهر، هي أشفاع العشر وأوتاره، فهي فرصة العمر، وجبين الدهر، وفوز البشر، أعظم الليالي وأذكاها، أبركها وأعلاها، فهي ميدان التسابق، ومركب النجاة، والتجارة الرابحة، والحياة الطيبة، ليلةٌ لا يُوصف فضلها، ولا يُحد خيرها، ولا يُدرك برها، ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر: "من قامها إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه".

 

فأحيوا هذه العشر من فاتحتها إلى خاتمتها بالقيام والدعاء، والذكر والقراءة والبكاء، فإن الحكمة مجهولة أي ليلةٍ هي؛ ليجتهد المرء عشره كلها، ويواصل العبادة فيها، فلا رؤية تحدُها ولا منام يخصها، فاحذروا من نشر الرسائل في الوتس والنت من تحديدٍ، أو جزمٍ بتقييدٍ، ونحو ذلك مما يوهن الهمم ويضعف القمم.

 

ثامنًا: احرص على الاعتكاف، إذا لم تفرط في واجبٍ عليك، كتربية أولادك، والحفاظ على نسائك، وبرك بآبائك وأمهاتك، فهو سنة قوليةٌ فعليةٌ إقراريه، وليُعلم أن الاعتكاف المقيد إنما هو في العشر كلها، وهذا اعتكافٌ مقيد، أما الاعتكاف المطلق فالصحيح أنه لا حد لأكثره، ولا حد لأقله، والخلاصة في الاعتكاف وسره هو قطع العلائق عن الخلائق؛ للاتصال بالرب الخالق قراءةً وعبادة، ذكرًا وصلاة، ودعاءً وبكاء وقربة، لا إسرافٌ وتبذير، وحديثٌ وكلامٌ كثير، ونومٌ وتفريط.

 

هذا وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يبارك لنا في عشرنا هذه.

 

اللهم بارك لنا في هذه العشر، اللهم بارك لنا في هذه العشر، اللهم بارك لنا في هذه العشر، وأعظم لنا الأجر، وبلغنا ليلة القدر، اللهم بلغنا ليلة القدر، اللهم بلغنا ليلة القدر، اللهم اجعلنا ممن يقومها إيمانًا واحتسابا، اغفر ذنوبنا، ويسر أمورنا، واستر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهم وفقنا لما تحب وترضى من القول والعمل.

 

والله أعلم.

 

 

المرفقات

الوافر في العشر الأواخر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات