نعمة الأمن والاستقرار وفضل استغلال العشر

الشيخ أ.د عبدالله بن محمد الطيار

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ أهمية نعمة الأمن 2/ بعض ثمرات وجود نعمة الأمن 3/ الأمن منَّةٌ إلهية 4/ واجب المسلمين تجاه نعمة الأمن 5/ فضل العشر الأواخر واستغلالها

اقتباس

في ظلالِ الأمنِ تطمئنُ القلوبُ، وتستقيم حياة الناس ويأمنون، وتُحفَظ الأعراض والأموال، وتُؤمَّن السبل، وتُعمَر المساجدُ، ويقوم الخلق بحق خالقهم، وتُطَبَّق شريعة الله، ويُنشَر الخير، وتسير عجلة التنمية، ويزدهر الإنتاج، ويعمُّ الخير والرخاء. ولو...

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشْهدُ أنْ لا إِله إِلاَّ الله وحدَه لا شريكَ له، وأشْهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه، وعلى آله وأصحابِه والتابعينَ لهم بإحسانٍ وسلَّم تسليماً مزيدا.

 

أما بعدُ:

 

فأوصيكم -عبادَ اللهِ- ونفسي بتقوى اللهِ -جلَّ وعلا-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

 

أيها المؤمنون والمؤمنات: إن من أعظم نعم الله علينا: نعمة الأمن، فإذا وجد الأمن في بلدٍ كان الإنسان فيه آمناً على نفسه، ودينه، وماله، وعرضه.

 

ولا تُنال تلك النعمةُ إلا بالإيمانِ والعملِ الصالحِ، والبعدِ عن الذنوبِ والمعاصي، وأعظم الذنوب: الشرك بالله -تعالى-، قال جل وعلا: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].

 

وفي ظلالِ الأمنِ تطمئنُ القلوبُ، وتستقيم حياة الناس ويأمنون، وتُحفَظ الأعراض والأموال، وتُؤمَّن السبل، وتُعمَر المساجدُ، ويقوم الخلق بحق خالقهم، وتُطَبَّق شريعة الله، ويُنشَر الخير، وتسير عجلة التنمية، ويزدهر الإنتاج، ويعمُّ الخير والرخاء.

 

ولو انفرط عقد الأمن ساعةً لرأيت كيف تعمُّ الفوضى، ويكثر الهرج، ويحل الخوف والفزع في قلوب الناس، وتتعطَّل مصالحهم، ويتسلط الظالمون على المستضعفين، قال جل وعلا: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج: 40].

 

وتأمَّل فيمَن حولك من البلاد ستجد الواقع ناطقًا وعلى هذه الحقيقة شاهدًا.

 

عباد الله: من فضل الله على بلادنا كونها آمنة ومستقرة يفد الناس إليها من كل حدب وصوب، ويرغبون العمل فيها، ويبذلون الغالي والنفيس لسكناها والبقاء على أرضها.

 

وإن من أهم مقومات العيش الكريم ونيل القوة والتمكين والرقي والتعمير: وجود نعمة الأمن؛ وبعدم وجودها تضطرب حياة الناس، وهي ضرورة من ضرورات العيش الهنيء، ونيل السكينة والطمأنينة، وأدلة ذلك من الشرع والواقع أكثر من أن تعد.

 

وأي بلادٍ تفقد أمنها، وتضطرب أحوالها؛ يفر الناس منها، ويفارقونها إلى غيرها، مخلفين وراءهم كل شيء لهم، ينشدون الأمن والاستقرار، حتى لو شردوا وطوردوا، وعاشوا مغتربين عن بلدانهم، معدمين بقية أعمارهم، فالدنيا بأسرها لا تساوي شيئاً بلا أمن ولا استقرار، ولا قيمة لكل ما يملكه الناس من القصور والدور والأموال إذا فقدوا هذه النعمة.

 

ومن نظر إلى ما حولنا من البلاد المضطربة يرى ذلك بعينه في وسائل الإعلام، وأغلب من عجز عن الرحيل عن تلك الدول المضطربة، ينتظر الموت والهلاك في كل لحظة، وكان بقاؤهم فيها جحيماً عليهم؛ لما يلاقونه من الخوف والنقص والجوع، وأنتم تشاهدون أعداد اللاجئين والمشردين في الأرض قد بلغت مئات الآلاف، بل الملايين.

 

عباد الله: إن الأمن مَطْلَب كلِّ أمة، وغاية كلِّ دولة، وهو مِنَّة إلهيَّة، امتنَّ بها جل وعلا على عباده، وذكرها سبحانه في مواضعَ كثيرةٍ من كتابه؛ كما في قوله: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) [قريش: 3 - 4]، وقوله جل وعلا: (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ) [العنكبوت: 67].

 

ولقد كانت أوَّلَ دعوةٍ لأبينا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- وهو في مكة: (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ) [البقرة: 126] فقدَّم عليه الصلاة والسلام نعمة الأمن على نعمة الرزق؛ لأنه لا يهنأ عيشٌ بلا أمان.

 

وروى الترمذي وابن ماجة أن النبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا" (رواه البخاري في الأدب المفرد، والترمذي، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة)، قال المناوي -رحمه الله-: "يعني: من جمع الله له بين عافية بدنه، وأمن قلبه حيث توجه، وكفاف عيشه بقوت يومه، وسلامة أهله، فقد جمع الله له جميع النعم التي من ملك الدنيا لم يحصل على غيرها، فينبغي أن لا يستقبل يومه ذلك إلا بشكرها، بأن يصرفها في طاعة المنعم، لا في معصيته، ولا يفتر عن ذكره" انتهى كلامه.

 

ولمَّا دخل صلى الله عليه وسلم مكَّة عامَ الفتح، منَح أهلها أعظمَ ما تتُوق إليه نفوسُهم "مَن دخَل دارَ أبي سفيان فهو آمِن، ومَن ألقَى السلاحَ فهو آمِن، ومَن دخَل المسجدَ فهو آمِن" (رواه مسلم)، ويقول جلَّ وعلا: (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآَوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأنفال: 26] قال قتادة بن دعامة السدوسي -رحمه الله- في هذه الآية: "كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً وأشقاه عيشاً وأجوعه بطوناً وأعراه جلوداً وأبينه ضلالاً، مكعومين على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه من عاش منهم عاش شقياً ومن مات منهم رديَ في النار، يوكلون ولا يأكلون والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ووسع به في الرزق وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم فاشكروا لله نعمه فان ربكم منعم يحب الشكر وأهل الشكر في مزيد من الله -تعالى-" انتهى كلامه رحمه الله.

 

وإذا تخلَّى الناس عن دينهم وكفروا نعمة ربهم، أحاطت بهم المخاوف، وانتشرت بينهم الجرائم، وانهدم جدار الأمن وادلهمَّ ظلام الخوف والقلق، وهذه هي سنَّة الله التي لا تتخلَّف في خلقه؛ قال جل وعلا: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].

 

وحتى نحافظ على أمن بلادنا؛ فلا بُدَّ من توجيه الأمَّة إلى طاعة الله -تعالى- والاستقامة على شرعه والبعد عن معصيته، والتمسُّك بكتابِه وسنَّة نبيه -صلى الله عليه وسلم-، وأن نعتني بالعلم الشرعي ونشره بين الناس؛ قال ابن القيِّم -رحمه الله-: "وإذا ظهر العلمُ في بلدٍ أو محلَّة قلَّ الشرُّ في أهلها، وإذا خفي العلمُ هناك ظهَر الشرُّ والفساد".

 

وأن نتسمك باجتماع الكلمة، ووحدة الصف، وترك الخلاف والفرقة؛ لأنهما يؤديان إلى التنازع والقتال.

 

وأن نتجنب الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن نحذر من مساربها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنَ إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنِ, إِنَّ السَّعِيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الْفِتَنُ وَلَمَنْ ابتلى فَصَبَرَ فَوَاهًا" (رواه أبو داود، وصححه الألباني).

 

وأن نوقر العلماءُ الربانيُّين والدعاة المخلصين، وأن نسمع لهم، ونأخذ بفتاواهم، وآرائهم، فهم أولى الناس بالأخذ عنهم.

 

وأن نقوم بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فهي صِمام أمان المجتمع المسلم.

 

وأن نعمل على تهيئة محاضِن تربوية للشباب والناشئة، ودعمها ومساندتها.

 

وأن نعالج أسباب انحراف الأبناء، بوضع الحلول المناسبة لهم والتي تساهم بشكل كبير في عودتهم إلى طريق الجادة.

 

وأن نحصن عقول شبابنا وفتياتنا من المذاهب الهدامة والتيارات المشبوهة التي تعمل على نشر الأفكار المنحرفة، ودعوات التغريب، والتكفير والتفجير والإرهاب الذين يشوهون الدين ويخدمون الأعداء.

 

وعلى شباب الأمة تجنَّب العاطفة الهوجاء، وردود الأفعال المتهوِّرة، وتعجُّل الأمور، أو الحكم على المواقف والأحداث دون الرجوع إلى العلماء الربانيين الراسخين في العلم؛ ففي السير ورائهم النجاة بإذن الله -تعالى-.

 

أسأل الله -جل وعلا- أن يحفظ علينا ديننا وأمننا وعلمائنا وولاة أمرنا، ووحدة صفنا واجتماع كلمتنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

بسم الله الرحمن الرحيم: (لإِيلاَفِ قُرَيْش * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْف * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ)[قريش: 1 - 4].

 

بارك اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ.

 

أقولُ ما سمعتمْ، فاستغفروا اللهَ يغفرْ لي ولكم إنه هو الغفورُ الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه، والشُّكرُ له على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له تعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أن محمداً عبدُ اللهِ ورسولُه الداعي إلى جنتهِ ورضوانِه ،صلى الله عليه وآله وصحبِه ومن سارَ على نهجِه إلى يومِ الدينِ، وسلَّم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله -جل وعلا-، واعلموا أنَّ طريق الجنَّةِ يحتاجُ إلى إيمانٍ وصبرٍ وإخلاصٍ وعملٍ، فاستعينوا بالله وابذلوا جهدكم لتحصيل أملكم.

 

عباد الله: ها هي العشر الأخيرة من رمضان قد أقبلت، وها هو الثلث الآخر منه قد دخل، وهي فرصة عظيمة لا تتكرر إلا كل عام، ينظر فيها الربُّ -جل وعلا- إلى تنافس عباده المؤمنين القائمين الراكعين الساجدين المستغفرين بالأسحار.

 

إنها العشر المباركة التي كان نبيكم -صلى الله عليه وسلم- يجد فيها ويجتهد، بل ويشد فيها مئزره إذا دخلت، ويحيي فيها ليله، ويوقظ أهله.

 

إنها العَشْر الأخيرة من رمضان التي هي أعظمُ فضلاً، وأرفع قدرًا، وأكثر أجرًا.

 

عباد الله: وفي هذه العشر ليلة هي خير من ألف شهر: (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ) [القدر: 3]، "من قامها إيمانا واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه".

 

وفي هذه العشر يسن الاعتكاف، فقد كان صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده.

 

ويسن في هذه العشر: كثرة البذل والعطاء؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة، وهكذا قوافل الإغاثة في بلادنا -ولله الحمد والمنة- فليس خافياً ما يقوم به مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية في تقديم المساعدات والمعونات للشعوب والدول المنكوبة ورفع المعاناة عنهم، وذلك تنفيذاً لتوجيهات خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله ووفقه لخيري الدنيا والآخرة- بتلمّس حاجات الأشقّاء اليمنيين، والوقوف معهم في محنتهم، وتقديم المتطلّبات الأساسية لتكفل لليمنيين حياة كريمة.

 

أسأل الله -تعالى- أن يبارك في جهوده الخيّرة، وأن يخلف بلادنا خيرا مما تنفق.

 

كما أسأله تعالى أن يعيننا وإياكم على استغلال هذه العشر فيما يرضيه عنا، وأن يوفقنا وإياكم لقيام ليلة القدر، وأن يكتبنا وإياكم ووالدينا والمسلمين من عتقائه من النار، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

هذا وصلوا وسلموا على الحبيب المصطفى فقد أمركم الله بذلك فقال جلَّ من قائل عليماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب: 56].

 

 

 

المرفقات

الأمن والاستقرار وفضل استغلال العشر

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات