هل تسمع حقا؟

فيصل سعود الحليبي

2022-10-08 - 1444/03/12
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/ اللهث وراء الدنيا والانشغال بها 2/ التفرغ لعبادة الله وحده 3/ الاستجابة لله وبعض القصص في ذلك 4/ المبادرة بالتوبة والاستجابة لأمر الله

اقتباس

لقد كانوا يسمعون نداء الرحمن، ويدّعون الإيمان به، ولكن بئس السماع سماع لا يحيي في القلب طاعة، ولا يثمر في النفس استجابة. أقوام عاشت على هذه الأرض، فأرسل الله لها من يرشدها إليه، فأبت إلا الطغيان والفساد، ولم ترض إلا بالرذيلة والفاحشة لباسًا، ولم...

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد:

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) [الأنفال: 29].

 

كثيرة هي مشاغل الحياة، ومتتالية هي صروف الزمان، أحداث تتلوها أحداث، وخطوب تتبعها خطوب، والإنسان هو الإنسان، تغرّه الدنيا وقد علم دنوَّها، ويلهو عن الآخرة وقد أيقَن ببقائها، صبره على الطاعة قليل، وتطلُّعه إلى الهوى كثير، يكابِد الحياةَ بمرِّها وحلوها، ويغفل عن أسمى غايةٍ خُلق من أجلها، وربّه ينبهه إلى ساحلها، فيقول سبحانه: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56].

 

فسبحان الله! وجد من الإنس من لهث وراء الدرهم والدينار حتى عبده، ووجد منهم من عبد الزهو والفخر، ووُجد منهم من عبد زينة الدنيا الزائلة، فتعسًا لكل من رضي بغير الله ربًا، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإِنْ لَمْ يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلا انْتَقَشَ" (رواه البخاري).

 

إن عبادة الدرهم والدينار والخميصة والقطيفة ليس ناتجًا من عقل صحيح، ولا من قلب سليم، بل من غفلة أعمتهم، حتى غدا الإنسان في زماننا يتخبط في مكابدته لهذه الحياة، يتجاهل أنه خلِق من أجل غاية، وغاية واحدة فقط، وهي عبادة الله وحده.

 

وهل أحد منا يعبد غير الله؟! سؤال يفترض أن يطرح وإن لم تتفوّه به الألسنة، ماذا فهمنا من معنى العبادة؟ أهي مسمّى الإيمان، أم هي رسم الإسلام، أم هي أن يفعل المسلم ما يحلو له من العبادات ويترك ما يخالف هواه منها؟! فيصلي وينظر إلى الحرام، ويصوم ويفطر على الحرام، ويتصدّق ولكن من الربا، ويتزوّج ويزني، ويصلي العشاء في وقتها، ويصلي الفجر في رابعة النهار، ويقوم بحقوق زوجته وذريته ويعقّ والديه، ويقرأ القرآن ويسمع الغناء، تلك هي صفة من صفات بني إسرائيل حينما أنكر الله عليهم ذلك فقال: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) [البقرة: 85].

 

أخي الحبيب: كُرِّمت بعبادة ربك، فارعَ حقوقه، وفضِّلت برسالة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم- فأدّ أوامره: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء: 65] فهل أخضعتَ قلبك وعقلَك لخالقك، فلم تجعل لنفسك رأيًا بعد رأي الله، ولا قضاءً بعد قضائه، ولم تجد في صدرك كراهية لما شرع، وسلّمت بعد ذلك تسليمًا؟! نعم، إننا نسمع الموعظة، ونحضر الجمع، ونصلّي مع الجماعات، ونتلو القرآن، وننصت للحديث، لكن ما حظّ جوارحنا من العمل بما سمعته آذننا وامتلأت به قلوبنا؟!

 

إنني أعلم وتعلمون أنّ النصيحة فيها ثقل على النفوس إلا على نفوس تربّت على محبة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وحرصت على النجاة بأنفسها وأهليها في يوم عظيم الكروب جسيم الخطوب، لكن ما فائدة السماع إن لم تصحبه الطاعة؟! وسائل نفسك: من الذي سمع فعصى؟ إنه أفجَر مخلوق عرفته البشرية منذ أن خلقها الله: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ) [البقرة: 34]، فهل تعتقد أن إبليس -لعنه الله- لم يسمع أمر ربه؟! بل سمع فأبى أن يكون من الساجدين. أتعلم من الذي سمع ولم يطع؟! إنهم بنو إسرائيل، اسمع كيف خلّد الله معصيتهم له بقوله: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمْ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) [البقرة: 93].

 

لقد كانوا يسمعون نداء الرحمن، ويدّعون الإيمان به، ولكن بئس السماع سماع لا يحيي في القلب طاعة، ولا يثمر في النفس استجابة.

 

أقوام عاشت على هذه الأرض، فأرسل الله لها من يرشدها إليه، فأبت إلا الطغيان والفساد، ولم ترض إلا بالرذيلة والفاحشة لباسًا، ولم ترغب إلا في الكفر وصفًا وسمتًا، فألبسهم الله لباسَ الخوف والجوع، وقلّب عليهم الديار رأسًا على عقب، وأغرقهم، وأنزل عليهم بأسَه الذي لا يردّ عن القوم المجرمين.

 

أيحبّ أحدنا إذا سمع الأمر بالخير والنهي عن الشر أن يكون كأمثال ذلك أو هؤلاء؟! الجواب بلا ريب: لا، ونِعم الجواب، ولكن ما معنى أن ينفر صاحب المعصية من النصيحة بتركها، وصاحب الفجور من الأمر بتركه؟! ما معنى أن نتبرم من نصيحة الناصحين وإرشاد المرشدين؟! نواجههم بالحجج، ونخاصمهم بالجدل. ألم يأن لألسنتنا حين يأتي الأمر من الله ورسوله أن تنطق فتقول: سمعنا وأطعنا؟! لقد امتثلتها الملائكة المقربون فهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ونطقت بها مخلوقات عظام ضخام، إنها السموات والأرض حينما قال لها الله -جل في علاه-: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت: 11]، وتفوّه بها أكرم خلق الله عليه فقال حكاية عنهم: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) [البقرة: 285]، وصدّق بها أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- حينما جاءهم النهي عن شرب الخمر التي كانت لها الولع الشديد في نفوسهم، يتحفون بها مجالسهم، ويتناشدون في وصفها الأشعار، ويعاقرونها كلما اشتهوا، وما إن نزل قوله تعالى:  (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ) [المائدة: 91] حتى دلق أحدهم إناءً قد وصل إلى فمه، لم يرض أن يؤجّل استجابته لربه ولو شربة واحدة، وقالوا بنفوس طيّعة راضية: انتهينا ربنا انتهينا، وكسروا القلال وأراقوها في طرق المدينة.

 

أما تنامى إلى أسماعنا قصة ذلك الصحابي البطل الذي زُفّ إلى زوجته في ليلة عرسه وعرسها، لكنه حينما سمع نداء الجهاد في سبيل الله، نهض بكل عزّة وكرامة ليستجيب لنداء ربه، فتوجه إلى أرض المعركة ليغرس قدميه فيها، إما أن يُزفَّ بعدها إلى زوجته منتصرًا مظفرا، أو يزفّ إلى الحور العين في جنّة ربه، وشاء الله -تعالى- أن يختاره شهيدًا، أما جنابته من عرسه فقد تكفّل الله -تعالى- أن تغسّله الملائكة الكرام، حتى رُئي أثر الغسل بعد استشهاده، وسمّي بعدها: غسيل الملائكة، ذاك حنظلة بن عامر، كل هذا الفضل وهذا التكريم بسبب استجابته لله ورسوله.

 

فهل فكّرنا في أن نترجم سماعنا للخير والموعظة إل عمل جاد واستقامة دائمة على دين الله؟!

 

اللهم اهد قلوبنا لطاعتك، واشرح صدورنا لدينك، وتب علينا واغفر لنا، إنك أنت التواب الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعى بدعوته، واتبع سنته إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي أولاً بتقوى الله -تعالى- وطاعته، رضًا بأمره، وتسليمًا بربوبيته، وخضوعًا لعظمته.

 

أيها الأحبة في الله: ماذا ينتظر المسلم بعد سماع المعروف والأمر به، وبعد معرفة المنكر والنهي عنه؟! إن المسلم الواعي والمؤمن اليقظ هو من يبادر بالتوبة ويقلع عن الذنب بدون توانٍ أو تسويف؛ لأن الموت لا يطرق بابك يستأذنك في جذب الروح من الجسد، بل يأتيك بغتة، فاختر لنفسك ميتة حسنة تلقى بها ربك وتنال بها جنته ونعيمه. وماذا يظن صاحب المعصية بصاحب النصيحة؟! هل يظنه يريد أموالاً ودنيا وجاهًا ومنصبا؟! كلا، إنه يريد نجاتك فحسب، وإلا فأنت وهو ستقفان أفرادًا أمام الله -تعالى-، كل سيأخذ جزاءه، وينال نصيبه، فريق في الجنة وفريق في السعير -والعياذ بالله-: (قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ) [ص: 86].

 

إني أربأ بنفسي وبك أيضًا أن نكون ممن يقول الله فيهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة: 206].

 

فانتبه -يا رعاك الله- أن تستكبر على الموعظة بعد سماعها، أو أن تدبّر بظهرك عنها، أو تستحقر صاحبها، أو ترميه في نيته، وتسخر منه في خلقه أو خلقته، فإن من يهزأ بمثل ذلك يستهزئ الله به: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ   اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ) [البقرة: 14 - 15].

 

ولنعلم جميعًا أن أمتنا أمة الاستجابة لربها والرضا بدينها والاعتزاز بإسلامها، بنا يفاخر نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- أقوام الأرض كلها يوم القيامة، يقول الصادق المصدوق -صلى الله عليه وسلم-: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النَّبِيُّ وَالنَّبِيَّانِ يَمُرُّونَ مَعَهُمُ الرَّهْطُ، وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، حَتَّى رُفِعَ لِي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلْتُ: مَا هَذَا؟ أُمَّتِي هَذِهِ؟! قِيلَ: بَلْ هَذَا مُوسَى وَقَوْمُهُ، قِيلَ: انْظُرْ إِلَى الأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ هَا هُنَا وَهَا هُنَا فِي آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قَدْ مَلأَ الأُفُقَ، قِيلَ: هَذِهِ أُمَّتُكَ" (رواه البخاري).

 

هل أدركت -يا أخي- أن قلوبنا إلى الإيمان أقرب، وأنها فطرت على الاستجابة لربها –سبحانه- واتباع نبيه -صلى الله عليه وسلم- ؟! فقط تحتاج منك أن تجعل الدنيا كلها وراء ظهرك بما فيها من فتن وزينة ولهو ولعب وتقبل على الله -تعالى-، لترى بعينك سعادة لا تفوقها سعادة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) [الأنفال: 24].

 

هذا وصلوا وسلموا على حبيب الله ومصطفاه، كما أمركم ربكم فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

اللهم صل على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

تسمع حقا؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات