إصلاح ذات البين

محمد بن حسن المريخي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ كثرة فتن الدنيا وأزماتها 2/ أهمية إصلاح ذات البين وفضله 3/ بعض سمات المصلحين 4/ منهج الإسلام في إصلاح ذات البين 5/ الانصياع لإصلاح ذات البين

اقتباس

الإصلاح الذي يذهب وحر الصدور، ويجمع الشمل، ويضم الجماعة، ويزيل الفرقة. الإصلاح بين الناس مبعث الأمن والاستقرار ومنبع الألفة والمحبة. الصلح خير كثير تهب رياحه على القلوب المتجافية فتطمئنها، وتمسح على النفوس فتسكنها، وتواجه النزاع...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، بعثه ربه بالهدى ودين الحق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار، والتابعين الأبرار وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

فيا أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله -تعالى- وطاعته، والتمسك بكتابه وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلمَ- ففيهما الهدى والرشاد، والعصمة من الزيغ والضلال؛ فإنه ما زلت قدم، ولا زاغ قلب إلا بسبب البعد عن الوحيين: القرآن والسنّة، فكلما كان ارتباط المرء بالوحيين ضعيفاً كلما كان أقرب للزيغ والتحول، وكلما كان المرء جاهلاً كتاب الله وسنة رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-كان أقرب للوقوع في فخاخ البدعة والانحراف، فاعتصموا بالله ورسوله واستمسكوا حقيقة بالقرآن والسنّة، وكونوا عباد الله كما أمر وأراد: (وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101].

 

عباد الله: تبدو الدنيا للناظر المتأمل خاصة في هذه الأزمات تبدو مليئة بهمومها ومصائبها وأحزانها وانتكاساتها، فهي تحزن المؤمن، وتكدر صفوه، وتؤلم الصديق وتؤرقه، دنيا لا يستمر فرحها، ولا يدوم خيرها، إن أفرحتك الآن أحزنتك بعد قليل، وإن جاءك خيرها توقع شرها بعد حين، فالمغرور من يثق بها، والجاهل من يطمئن إليها، وفي هذا الخضم من أهوالها وبلوائها، ومن بين أمواج محنها وفتنها يجمل الحديث، ويحسن التذكير بشيء من مزايا دين محمد -صلى الله عليه وسلمَ-، لعل الشاردين من تابعيه يرجعون إنه حديث الإصلاح، الإصلاح بين الخصوم، إصلاح ذات البين.

 

الإصلاح الذي يذهب وحر الصدور، ويجمع الشمل، ويضم الجماعة، ويزيل الفرقة.

 

الإصلاح بين الناس مبعث الأمن والاستقرار ومنبع الألفة والمحبة.

 

الصلح خير كثير تهب رياحه على القلوب المتجافية فتطمئنها، وتمسح على النفوس فتسكنها، وتواجه النزاع فتمحقه وتبدده.

 

والصلح نهج شرعي يصان به الناس، وتحفظ به المجتمعات من الجهل والحماقات والنظرات القاصرة والحماسات التي على غير هدى.

 

إصلاح ذات البين به تعمر البيوتات، وتستجلب به المودات، لذلك أمر الله -تعالى- به ورسوله -صلى الله عليه وسلمَ-، يقول تعالى: (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [الأنفال: 1].

 

بل أخبر عز وجل أنه لا خير في كثير من أحاديث الناس وأفعالهم إلا ما كان لله -تعالى- من طاعة وذكر وإصلاح، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإلا فالباقي يذهب هباءً، وأكثره يكتب على المرء ليحاسب عليه، يقول عز وجل: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].

 

وجعل رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- الإصلاح بين الناس أفضل من الصيام والصلاة والصدقة؛ أخرج أبو داود والترمذي وابن حبان في صحيحة عن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أنه قال: "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟"، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: "إصلاح ذات البين فإن فساد ذات البين هي الحالقة" (قال الترمذي: "حديث صحيح"، وفي بعض الروايات: "هي الحالقة لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين"، وفي حديث حسنه الذهبي -رحمه الله-: "أفضل الصدقة إصلاح ذات البين"، وقال الإمام الأوزاعي -رحمه الله-: "ما خطوة أحب إلى الله -عز وجل- من خطوة في إصلاح ذات البين" هذا هو أمر الله -تعالى- في الإصلاح، وهذا ثوابه كما أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-.

 

أما المصلحون الساعون في الإصلاح فهم رجال نبلاء شرفت نفوسهم، وصفت قلوبهم، وصحت عزائمهم، وأشرقت ضمائرهم، وصدق إيمانهم إن شاء الله -تعالى-، شخصيات كريمة بعيدة عن الانفعالات النفسية والتصرفات الصبيانية الطائشة عرفوا أمر الله ورسوله، وسارعوا إلى اغتنام الثواب والأجر، موفقون مسددون يحسنون التصرف، ويزنون الأمور بموازين دين الله والعقل والحكمة، نالوا الدرجة العالية الرفيعة، فقد جعلهم الله -تعالى- ووفقهم، فكانوا مصلحين بين عباده، ساعين في لمّ الشمل، وتضييق الهوّة، ومحاصرة النزاع، وإخماد نار الشقاق.

 

كم يبلغ المرء من النبل والشهامة إذا كان ساعياً في الإصلاح والمعروف، إنه يعظم عند الله -تعالى-، ويعظم عند الناس، ويكبر في عيون أهل الخير؟ كم عمر الله بيوتاً على أيدي المصلحين؟ وكم جمع الله أسراً وعائلات كانت على حافة التفرق والتشتت بكلمة المخلصين؟ وكم آوى الله -تعالى- أطفالاً وصغاراً كادت تحرقهم نار الفراق فأنقذهم الله -تعالى- على يد المصلحين الساعين لإصلاح ذات البين؟

 

إن المصلحين حقيقة -يا عباد الله- الذين يسعون للإصلاح مشاعل نور في المجتمع، وسراج منير للضائعين التائهين.

 

أيها المسلمون: إن ميادين الإصلاح كثيرة فإنه كلما هب نزاع فإنه قابل للإصلاح، يشمل الدماء والأموال والأقوال والأفعال، وكل ما يقع فيه التداعي والتنازع.

 

إصلاح على نهج الشرع يراد به وجه الله وابتغاء مرضاته: (وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].

 

وطريق الإصلاح وأسلوبه يبدأ من كلمة طيبة من رجل عاقل، ونبيل لبيب، يسره أن يسود الوئام بين الناس، كلمة من رجل امتلأ قلبه صلاحاً لا يريد إلا الإصلاح: (إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88].

 

وإن كثيراً من النفوس يكفي في إزالة شحنائها كلمة رقيقة، ولمسة رفيقة، تطفئ نار الحقد والضغينة، ويتلاشى معها الانفعال والشطط، وله المجال الواسع لئن يبالغ في الكلام، وينقل المدح والثناء، ولو لم يكن موجوداً ولو دخل في دائرة الكذب، فهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- يقول: "ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين" (متفق عليه)، وقال: "لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذب في الحرب، والحرب خدعة، والرجل يكذب بين الرجلين ليصلح بينهما، والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذلك" (رواه أحمد ومسلم).

 

وأحياناً يحتاج الصلح إلى بذل أموال بعد الكلمة الطيبة، والتصرف الحكيم، وأنه -والله- ليوجد في دنيا المسلمين من يبذل من خالص ماله لإصلاح بين شخصين ليسوا من أرحامه ولا من قبيلته، وهذه منازل يوفق الله -تعالى- لها من يشاء من عباده.

 

بقي -يا عباد الله- أن يستجيب للإصلاح طرف النزاع الزوجان أو الرجلان أو العائلتان أو نحوهما، وأن يقدرا جهود المصلحين، ويمتثلا أمر الله ورسوله بإصلاح ما فسد، وأن يتقوا الله -تعالى-، ويكونوا مسلمين مؤمنين حقاً: (إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [النور: 51].

 

وليحذروا رد المصلحين المخلصين الذين هيأهم الله -تعالى- ووفقهم لإصلاح ما فسد، وليحذروا عقوبة الله -تعالى-، ولينظروا نظرة بعيدة إلى المستقبل، لينظروا إلى خطورة الخصام إذا لم يصلح أمره، فإنه يمتد إلى الأجيال البعيدة -نسأل الله العافية والسلامة-، ويقع على أقوام ويقع فيه أشخاص لا ذنب لهم فيه إلا أنهم أحفاد فلان وعلان.

 

فليتق الله -تعالى- المتخاصمون، ولينظروا إلى الأمام نظرة بعيدة، وليعلموا أنهم إنما ردوا أمر الله -تعالى- ورسوله إذا ردوا المصلحين المخلصين، وكفى بهذه بلية على المرء أن يرد أمر الله ورسوله.

 

بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم...

 

 

المرفقات

ذات البين1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات