بعض معالم الكمال والعظمة في شخصية الرسول

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: السيرة النبوية
عناصر الخطبة
1/ شمولية عظمة النبي الكريم وعالميتها وتفردها 2/ معالمُ كمالٍ وعظمةٍ في شخصية النبي الكريم 3/ دلالات تلك العظمة وذلك الكمال وأهمية تدارسها

اقتباس

ولذلك كان لهذه الشخصية الفذة، شخصية الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، أعلى معالم الكمال البشري، وقد اختاره الله من بين البشر، وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-، قال -تعالى-: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب:40].

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

أما بعد: أيها الإخوة، أوصِيكم ونفسي بتقوى الله -عز وجل-، فهي وصية الله للأولين والآخرين، قال الله -تعالى-: (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:131].

 

أيّها الإخوة: في العصور الماضيةِ والأحقاب السّالفة عاش كثيرٌ من العظماءِ ورجالات التأريخ والديانات، نَقَلتِ الأنباءُ أخبارَهم، ودوّنت الكتبُ أوصافَهم، وسجّلت المدوّناتُ أحوالَهم؛ غيرَ أنه لا يوجدُ أحدٌ من هؤلاء العظماء والرجال من نُقلت أخباره، ودُوّنت صفاته، وحُفظت سيرته، وكُتِب سجلُّ حياتِه، كما كان لنبينا محمدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وقد وصَلَ إلينا ذلك بالنّقل المتواتر.

 

قال الشيخ الطنطاوي -بشيء من التصرف-: أيها الإخوة، إن من الظلم لمحمد، وإن من الظلم للحقيقة، أن نقيسه بواحد من هؤلاء الآلاف من العظماء الذين لمعت أسماؤهم في دياجي التاريخ، من يوم وجد التاريخ، فإن من العظماء من كان عظيم العقل ولكنه فقير في العاطفة، وفي البيان، ومن كان بليغ القول وثّاب الخيال، ولكنه عادي الفكر، ومن برع في الإدارة، أو القيادة، ولكن سيرته وأخلاقه كانت أخلاق السوقة الفجار.

 

ومحمد -صلى الله عليه وسلم- هو وحده الذي جمع العظمة من أطرافها، وما من أحد من هؤلاء، إلا كانت له نواحٍ يحرص على سترها وكتمان أمرها، ويخشى أن يطلع الناس على خبرها، نواحٍ تتصل بشهوته، أو ترتبط بأسرته، أو تدل على ضعفه وشذوذه.

 

أما نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- فوحده الذي كشف حياته للناس جميعا، فكانت كتابا مفتوحا، ليس فيه صفحة مطبقة، ولا سطر مطموس، يقرأ فيه من شاء ما شاء.

 

وهو وحده الذي أَذِن لأصحابه أن يذيعوا عنه كلَّ ما يكون منه ويبلغوه، فرووا كلَّ ما رأوا من أحواله في ساعات الصفاء، وفي ساعات الضعف البشري، وهي ساعات الغضب، والرغبة، والانفعال.

 

وروى نساؤه كلَّ ما كان بينه وبينهنّ، هاكم السيدة عائشة -رضي الله عنها- تعلن في حياته وبإذنه أوضاعه في بيته، وأحواله مع أهله؛ لأنّ فعله كلَّه دين وشريعة. وكُتبُ الحديثِ والسيرِ والفقهِ ممتلئة بها.

 

لقد رووا عنه في كلّ شيء، حتى ما يكون في حالات الضرورة البشرية، فعرفنا كيف يأكل، وكيف يلبس، وكيف ينام، وكيف يقضي حاجته، وكيف يتنظف من آثارها.

 

فأروني عظيمًا آخر جَرُؤَ أن يغامر فيقول للناس: هاكم سيرتي كلها، وأفعالي جميعًا، فاطّلعوا عليها، وارووها للصديق والعدو، وليجد من شاء مطعنًا عليها!.

 

أروني عظيمًا آخر دُوِّنَت سيرته بهذا التفصيل، وعُرفت وقائعُها وخفاياها بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة كما عرفت في حينها، مثل معرفتنا بسيرة نبينا.

 

والعظمة إما أن تكون بالطباع والأخلاق والمزايا والصفات الشخصية، وإمّا أن تكون بالأعمال الجليلة التي عملها العظيم، وإما أن تكون بالآثار التي أبقاها في تاريخ أمته وفي تاريخ العالم، ولكلِّ عظيمٍ جانب من هذه المقاييس تُقاس بها عظمته. أما عظمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فتقاس بها جميعًا؛ لأنّه جمع أسباب العظمة، فكان عظيم المزايا، عظيم الأعمال، عظيم الآثار.

 

والعظماء إما أن يكونوا عظماء في أقوامهم فقط، نفعوهم بقدر ما ضروا غيرهم، كعظمة الأبطال المحاربين والقواد الفاتحين. وإما أن تكون عظمته عالمية، ولكن في جانب محدود في كشف قانون من القوانين التي وضعها الله في هذه الطبيعة وأخفاها؛ حتى نُعمِل العقل في الوصول إليها، أو معرفة دواء من أدوية المرض، أو وضع نظرية من نظريات الفلسفة، أو صوغ آية من آيات البيان، أو قصة عبقرية، أو ديوان شعر بليغ. أما محمد -صلى الله عليه وسلم- فكانت عظمته عالمية في مداها، وكانت شاملة في موضوعاتها.

 

أيها الأحبة: وكان -صلى الله عليه وسلم- مؤمناً بما يدعو إليه، وكثير ممن نعرف من الدعاة، قديما وحديثا، يقولون بألسنتهم ما تخالفه أفعالهم، ويعلنون في الملأ ما لا يأتونه في الخلوات، وتغلب عليهم طبائع نفوسهم، في ساعات الرغبة والرهبة والغضب والجوع والحاجة، فينسون كل ما يقولونه، ولا يمكن أن يكونوا قدوة بكل شيء.

 

أما رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فيتسع مجال الاقتداء به ليشمل كلَ جوانبَ الدينِ المختلفة، وجميعَ مناحي الحياةِ المتنوعة، قال -تعالى-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الحشر:7]. قال الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-: وهذا شامل لأصول الدين وفروعه، وظاهره وباطنه، وأن ما جاء به يتعين على العباد الأخذ به واتباعه، ولا تحل مخالفته.

 

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- قد جمع أصول الكمال البشري، وحاز أعلى مراتب الدين والخلق، فهو -صلى الله عليه وسلم- في مجال الإيمان وطاعة الله أولُ المسلمين، قال -تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162-163]، وهذا تمام الإسلامِ وكماله، فجميع أفعاله -صلى الله عليه وسلم- لله -تعالى- قصدا وتألها، فلا يصرف -صلى الله عليه وسلم- شيئا منها لغير الله -تعالى-، وليس هذا ابتداعا منه من تلقاء نفسه، بل: بِذَلِكَ أُمِرْ. أمرا حتما، لا يخرج من التبعة إلا بامتثاله. وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ: من هذه الأمة.

 

أيها الإخوة: ولذلك كان لهذه الشخصية الفذة، شخصية الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم-، أعلى معالم الكمال البشري، وقد اختاره الله من بين البشر، وفضله على جميع الأنبياء والمرسلين -عليهم الصلاة والسلام-، قال -تعالى-: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الأحزاب:40].

 

فالنبي -صلى الله عليه وسلم- آخر الأنبياء والمرسلين، ويقول -صلى الله عليه وسلم-: "وَإِنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي" رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وهو -صلى الله عليه وسلم- زينة الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ومتممٌ ما بقي من بنائهم الحضاري، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ مَثَلِي وَمَثَلَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟! قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ، وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ" رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.

 

أيها الأحبة: وكان -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا، وهو المتمم لمكارم الأخلاق، والمعلم لمحاسنها، وهو -صلى الله عليه وسلم- مجمعُ الخصال الحسنة، ومنبعُ الآداب السامية، ولقد مدحه الله -تعالى- في القرآن الكريم بحسن خلقه فقال: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم:4]، أي: لعلى أدب عظيم، وهو الوصف الذي تميز به سيد الخلق أجمعين، قَالَ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّمَا بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاقِ"، وفي رواية: "صَالِحَ الْأَخْلَاقِ" رواه الحاكم والبخاري بالأدب المفرد وصححه الألباني عن أبي هريرة -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-.

 

أيها الإخوة: وقد شمل حسن خلقه -صلى الله عليه وسلم- جميع الناس، وظهرت ملامحه في تعامله مع أهله وأقاربه، ففي الصحيحين، عن صاحبه وخادمه أنس -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقا". وهذه شهادة ممن خالطه كثيراً في إقامته وسفره، وحله وترحاله، فشاهد غضبَه ورضاه، وجده ومزاحه، طيلة عشر سنين، لم يتغير فيها النبي -صلى الله عليه وسلم- أو يتبدل.

 

كما لم تكن عداوتُه لأحد أو بغضُه له لتخرجه عن سمته وحلمه -صلى الله عليه وسلم- على شدة أذى خصومه وتنوع كيدهم له، فقد عفا عن (وحشي) قاتل (حمزة)، لما أسلم، وعن هند امرأة أبي سفيان، التي بلغ من حقدها على محمد ودعوته، أن فعلت ما لا تفعله امرأة، ولا يفعله إنسان، لما لاكت كبد حمزة عم النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد أن بقرت بطنه وجدعت أنفه وصلمت [قطعت] أذنيه، واتَّخَذَتْ من هذه وغيرها من قتلى المسلمين قلائد وأقراطًا وأساورَ!.

 

وهاكم الموقف الأكبر لما فتح الله مكة لرسوله -صلى الله عليه وسلم- جمع صناديد قريش الذين كانوا يؤذونه ويضطهدونه، وأصحابه المستضعفين، فقال لهم: "يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟" قالوا: خيرا، أخ كريم، وابن أخ كريم، قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

 

هكذا كان -صلى الله عليه وسلم-، عفوّا عند المقدرة على الانتقام، متنازلا عن حقوقه الشخصية، إلا أن تنتهك حرمات الله، فيغضبُ لله، ويعملُ بحكم الله، ولا يعتدي على أحد في تطبيقه.

 

فصلوات ربي وسلامه عليه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

أيها الإخوة: وكان -صلى الله عليه وسلم- خير خلق الله لأهله، قال -صلى الله عليه وسلم-: "خيرُكم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي". قال أهل العلم: أي خيركم لعياله وذوي رحمه، وقيل لأزواجه وأقاربه، والصحيح -والله أعلم- أن الأهل يشمل جميع من ذكر من الأزواج والأولاد والأقارب؛ فهو -صلى الله عليه وسلم- خير زوج لنسائه، سواء في حالة الانفراد، كما كان مع أم المؤمنين خديجة بنت خويلد -رضيَ الله عنها-، أو في حالة التعدد، كما كان مع من اجتمع عنده من النساء بعد خديجة، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يؤدي جميع حقوقهن بالعدل، لا يفرق بينهن في المعاملة، يعاشرهن بالمعروف، ويخلص لهن في المحبة، في حياتهن وبعد مماتهن.

 

قال ابن كثير -رحمه الله-: وكان من أخلاقه -صلى الله عليه وسلم- أنه جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويوسع عليهم في النفقة، ويضاحك نساءه، ويجتمع نساؤه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كلُ واحدة إلى منزلها، وكان ينام مع امرأة من نسائه في شعار واحد، يضع عن كتفيه الرداء، وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام؛ يؤنسهم بذلك.

 

أيها الإخوة: سيرته -صلى الله عليه وسلم- مَعين لا ينضب؛ فهو القدوة لكل مسلم. نسأل الله أن يرزقنا الاقتداء به إنه جواد كريم.

 

وخير ما تصرف فيه الأوقات قراءة سيرته، والعمل بها، وفقنا الله لذلك؛ إنه جواد كريم...

 

 

المرفقات

معالم الكمال والعظمة في شخصية الرسول

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات