التكليف دائما بعد العطاء

أحمد شريف النعسان

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/ فضل عشر ذي الحجة وبعض الأعمال المشروعة فيها 2/ تفلت الناس عن الأوامر الشرعية وتركهم لها 3/ التكاليف بعد العطاء وبعض الأدلة والشواهد على ذلك 4/ شروط وجوب الأضحية 5/ إهدار المفسدين للمال في الباطل

اقتباس

أيها الإخوة الكرام: هناك كثير من الناس من أهل الغفلة ينفقون أموالهم في سبيل الأهواء والشهوات, وفي سبيل شياطين الإنس والجن, ينفقون بدون حساب, وإذا ما أراد أحدهم أن ينفق في سبيل الطاعات والقربات تراه شحيحاً على نفسه...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله: يقول الله -تبارك وتعالى- في كتابه العزيز: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَر) [الكوثر: 1 - 3].

 

أمة سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: لقد ذكرت لكم في الأسبوع الماضي بأن هذه الأيام هي أيام عشر ذي الحجة, وهي أيام عظيمة, ومن عظمتها عند الله -تعالى-: أقسم بها مولانا -عز وجل- بقوله: (وَالْفَجْر * وَلَيَالٍ عَشْر * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْر) [الفجر: 1- 3].

 

وبين لنا النبي الأعظم سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- حقيقة هذه الأيام من حيث الأعمال عند الله -عز وجل-, فقال: "ما مِنْ أَيامٍ العَمَلُ الصَّالحُ فِيها أَحَبُّ إِلى اللَّهِ مِنْ هذِهِ الأَيَّامِ" يعني: أَيامَ العشرِ "قالوا: يا رسول اللَّهِ وَلا الجهادُ في سبِيلِ الله؟ قالَ: "ولا الجهادُ في سبِيلِ الله، إِلاَّ رَجُلٌ خَرجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ, فَلَم يَرجِعْ منْ ذلك بِشَيءٍ" [رواه البخاري].

 

أيها الإخوة الكرام: لقد ذكرت لكم من الأعمال الصالحة: صيام الأيام التسعة منها؛ لأن صيام يوم واحد منها يعدل سنة, وقيام ليلة منها -وأقل القيام صلاة العشاء والفجر في جماعة- يعدل قيام ليلة القدر.

 

يا عباد الله: العمل الصالح في هذه الأيام محبوب عند الله -عز وجل- أكثر منه في غيرها, وأحب الأعمال إلى الله -تعالى- في العاشر منها بعد صلاة الفجر في جماعة, وبعد صلاة العيد, هي: الأضحية, حيث يتقرب بها العبد إلى الله -عز وجل-, وذلك لقوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: "مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ" [رواه الترمذي].

 

أيها الإخوة الكرام: كلما جاءت الأيام العشر, وجاء وقت الأضاحي بدأت الأسئلة تتكرر من بعض المؤمنين: هل الأضحية واجبة أم سنة مؤكدة؟ هل تجب على كل فرد من أفراد الأسرة أم على رب الأسرة فقط؟ هل تجب الأضحية في كل عام أم في العمر مرة واحدة؟ هل تجب على الزوج والزوجة والأولاد ذكوراً وإناثاً أم يكفي أن يقوم بها واحد من أفراد الأسرة, ولو كان كل واحد منهم مالكاً للنصاب؟ هل يجوز أن نأكل الأضحية كاملة أم نوزع ثلثها؟ أسئلة كثيرة.

 

تكثر الأسئلة عن الأضحية ولا أدري, هل كثرة الأسئلة حول هذه الأضحية من أجل الالتزام بها أم من أجل التفلت منها؟

 

بعض الناس يكثر السؤال بقصد التفلت من الالتزام بها, والسر في ذلك هو ضعف الإيمان؛ لأن الإيمان يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة, وينقص حتى يدخل صاحبه النار.

 

نعم -أيها الإخوة الكرام-: إن الذي ربى الإيمان في قلبه, وزاد ببركة الطاعات، تراه يبحث عن الالتزام, لا أقول عن الالتزام بالفرض أو الواجب أو السنة المؤكدة وغير المؤكدة, بل يبحث عن المندوب والمستحب ليتقرَّب إلى الله -تعالى-؛ لأنه يرى في ذلك مغنماً, ولأنه علم أنه ما خُلق إلا للعبادة, وعلم أن الحياة الدنيا مزرعة للآخرة, فلا يترك باباً من أبواب الخير إلا ويلجه تقرُّباً إلى الله -تعالى-.

 

أيها الإخوة المؤمنون: التكليف من الله -تعالى- دائماً وأبداً لا يكون إلا بعد العطاء, ويكون التكليف ضمن دائرة الوُسع, قال تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا) [البقرة: 286] فما من تكليف إلا بوسعنا ولا يكون هذا التكليف إلا بعد العطاء، ودليل ذلك:

 

أولاً: سورة الكوثر: قال تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر) [الكوثر: 1 - 2] فما كلَّف بالنحر إلا بعد العطاء.

 

ثانياً: يقول الله -تعالى- في سورة قريش: (لإِيلاَفِ قُرَيْش * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْف * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْت * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) [قريش: 1 - 4] ما كلَّفهم بالعبادة إلا بعد إطعامهم من جوع وتأمينهم من خوف.

 

ثالثاً: يقول الله -تعالى- في سورة البقرة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاء بِنَاء وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُون) [البقرة: 21 - 22].

 

أيها الإخوة: والتكليف من الله -تعالى- ليس مقصوراً على الرجال دون النساء, وليس مقصوراً على الآباء والأمهات دون الأبناء والبنات, فكلُّ من أعطاه الله -عز وجل-، وملَك نصاباً، وجبت عليه الأضحية.

 

ما هو الكوثر؟

 

أيها الإخوة الكرام: من تمام فضل الله -عز وجل- علينا: أنه يعطي ثم يكلِّف, ولا يكلِّف إلا بما هو في وسعنا, فالله -تعالى- يقول: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر) [الكوثر:  1- 2] فما هو الكوثر الذي أعطيه سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-؟

 

هناك فئة من الناس من أهل الشطط خرجوا عن دائرة الصواب, وفسَّروا القرآن العظيم من منطلق الأهواء والعصبيات التي مزَّقت جسد هذه الأمة, فقالوا: "الكوثر هو السيدة فاطمة -رضي الله عنها-".

 

ونحن نقول: خير ما يفسر القرآنَ القرآنُ, وخير ما يفسر القرآنَ بعد القرآنِ حديثُ سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, ولنسمع إلى تفسير الكوثر من حديث سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-، روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَاتَ يَوْمٍ بَيْنَ أَظْهُرِنَا إِذْ أَغْفَى إِغْفَاءَةً ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مُتَبَسِّمًا, فَقُلْنَا: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيَّ آنِفًا سُورَةٌ, فَقَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) [الكوثر: 1- 3] ثُمَّ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْكَوْثَرُ؟" فَقُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ, قَالَ: "فَإِنَّهُ نَهْرٌ وَعَدَنِيهِ رَبِّي -عز وجل-, عَلَيْهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ, هُوَ حَوْضٌ تَرِدُ عَلَيْهِ أُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ, آنِيَتُهُ عَدَدُ النُّجُومِ, فَيُخْتَلَجُ الْعَبْدُ مِنْهُمْ فَأَقُولُ: رَبِّ إِنَّهُ مِنْ أُمَّتِي, فَيَقُولُ: مَا تَدْرِي مَا أَحْدَثَتْ بَعْدَكَ".

 

وروى الإمام البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- أنه قال: "بَيْنَمَا أَنَا أَسِيرُ فِي الْجَنَّةِ إِذَا أَنَا بِنَهَرٍ, حَافَتَاهُ قِبَابُ الدُّرِّ الْمُجَوَّفِ, قُلْتُ: مَا هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاكَ رَبُّكَ, فَإِذَا طِينُهُ أَوْ طِيبُهُ مِسْكٌ أَذْفَرُ".

 

هذان الحديثان رواهما الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما, وهما أصدق الكتب بعد كتاب الله -عز وجل-, ونحن نعلم بأن هناك فئة من الناس تحاول الطعن في السنة المطهرة, وخاصة في الصحيحين لحاجة في نفوسهم, فأمرهم إلى الله -تعالى-, وإنا لنرجوا الله -عز وجل- أن نلقى الحبيب الأعظم سيدنا محمداً -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- وهو يبتسم لنا في أرض المحشر, ونرجوا الله أن لا يعبس في وجهنا الحبيب -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, وأن نكون من أهل الاتباع لا من أهل الابتداع, وأن نكون ممن عاهدوا الله وصدقوا في عهدهم, وما بدلوا تبديلاً.

 

فأجمل ما في الإنسان أن يلتزم الأدب, وأن لا يقول في القرآن العظيم برأيه, ولا يفسر الآيات من منطلق الأهواء والعصبيات, فالكوثر هو الخير الكثير الذي أُعطيه سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, كما يقول ذلك ابن عباس -رضي الله عنهما-.

 

روى الإمام البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه قال: "الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ, فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهَرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ".

 

نعم، لقد أُعطي سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- الخير الكثير, لقد أعطاه الله النبوة والرسالة وجوامع الكَلِم والكوثر والسيدة فاطمة التي منها نسل آل بيت سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.

 

أيها الإخوة الكرام: فالأضحية واجبة على كلِّ من ملك النصاب من الرجال والنساء, وهذا الوجوب ما كان إلا بعد العطاء, وعلينا جميعاً أن نحرَّض بعضنا بعضاً على التقرب إلى الله -عز وجل- بالأضاحي, الزوج يرغِّب زوجته, والزوجة ترغِّب زوجها, والوالدان يرغِّبان الأبناء والبنات، وهكذا.. وأن تطيب نفوسنا بذلك.

 

تروي أمُّنا الطاهرة المطهَّرة الصدِّيقة بنت الصدِّيق, حبيبة سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, المبرَّأة من فوق سبع سماوات، أن النبي -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- قال: "مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ مِنْ عَمَلٍ يَوْمَ النَّحْرِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ إِهْرَاقِ الدَّمِ, إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلافِهَا, وَإنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللَّهِ بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ مِنْ الأَرْضِ, فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا" [رواه الترمذي].

 

حرِّضوا كلَّ من ملك النصاب أن يتقرَّب إلى الله -تعالى- في ذلك حتى لا يندم واحد منا يوم القيامة، قال تعالى: (وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ * وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُون) [المنافقون: 10 - 11].

 

ليكن كلُّ واحد منا حريصاً على ميزان حسناته أن يكون مثقلاً بالطاعات والقربات, ومن جملة ذلك الأضاحي؛ كما يقول سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-: "إِنَّهَا لَتَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَظْلافِهَا".

 

أيها الإخوة الكرام: هناك كثير من الناس من أهل الغفلة ينفقون أموالهم في سبيل الأهواء والشهوات, وفي سبيل شياطين الإنس والجن, ينفقون بدون حساب, وإذا ما أراد أحدهم أن ينفق في سبيل الطاعات والقربات تراه شحيحاً على نفسه, وربُّنا -عز وجل- يقول: (وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ) [محمد: 38].

 

يا عباد الله: العمل الصالح يحبه الله -تعالى-, وخاصة في هذه الأيام, وأحبُّ الأعمال إلى الله في العاشر من هذه الأيام هي الأضحية, فتقرَّبوا إلى الله -تعالى- بالأضاحي وطِيبوا بها نفساً.

 

اللهم إنا نسألك الاتباع لحضرة سيدنا محمد -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-, حتى نلقاك وأنت راضٍ عنا، آمين.

 

أقول هذا القول, وكلٌّ منا يستغفر الله, فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

المرفقات

دائما بعد العطاء

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات