فكوا العاني

محمد عبد الكريم الشيخ

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/فاجعة الأَسْر في الملاحم واقعٌ محتوم 2/ وجوب سعي المسلمين لتخليص أسراهم 3/ الأدلة الشرعية على ذلك 4/الهدي النبوي في فك الأسرى 5/ وجوب تضافر الجميع لفك المأسورين بأيدي الكافرين   

اقتباس

إنّ الأسر إذا حاق بمسلم وجب على المسلمين السعي إلى تخليصه بكل سبيل شرعي, وشأنٌ كهذا أوضح من أن يحتاج إلى فتوى شرعية, أو يتوقف على دراسة فقهيَّة, ولكن، لا بأس من التأكيد على هذه المسؤولية العظيمة, حتى ينهض جميع المسلمين بأعبائها, ويقدروها حق قدرها.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي بيده ملكوت كل شيء, وهو يجير ولا يُجار عليه, وصلى الله على محمد خير خلق الله, وأكرم العباد لديه, وعلى آله وأصحابه الغرِّ الميامين, الذين أطاعوه وما قدموا بين يديه.

 

أما بعد: فإن الله -تعالى- يقول في كتابه: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) [البقرة:155].

 

بمثل هذه الآية يتجلَّد المسلمون من الأسرى والمحبوسين في سجون الكافرين وأشياعهم, كما ويتصبّر بها أهلوهم وذووهم, ولكل منهم [أسوة وقدوة]، فالمأسورون أسوتهم النبي الكريم يوسف سجين البغي والعدوان, والأهلون قدوتهم صاحب الصبر الجميل، يعقوب، عليهما السلام.

 

إنّ فاجعة الأَسْر شيء لا بدَّ منه في كثير من ملاحم المسلمين مع الكافرين, وهو من جملة ما يمحِّص الله -تعالى- به عباده المجاهدين, قال -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال:30]. والإثبات هو الحبس والأسر, وهو أشد المصائب على النفوس الأبيَّة, التي لا تقبل ضيماً ولا ذلة, بخلاف طرفي الأمر في جهاد الأعداء: النصر أو الشهادة، فهما حُسنيان, كما قال الله -تعالى-: (قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) [التوبة:52].

 

وذلك كله من قدر الله بعباده الدعاة والمجاهدين, كما كان علي-رضي الله عنه- ينشد وهو يخوض المعارك:

أيَّ يوميَّ من الموت أفرّ *** يـــوم لا يقــــدر أم يــوم قَدَر

يــــوم لا يقـــدر لا أحذره *** ومن المقدور لا ينجي الحَذر

 

إنّ الأسر إذا حاق بمسلم وجب على المسلمين السعي إلى تخليصه بكل سبيل شرعي, وشأنٌ كهذا أوضح من أن يحتاج إلى فتوى شرعية, أو يتوقف على دراسة فقهيَّة, ولكن، لا بأس من التأكيد على هذه المسؤولية العظيمة, حتى ينهض جميع المسلمين بأعبائها, ويقدروها حق قدرها.

 

أولاً: الأدلة القرآنية والحديثية العامة التي ترمي إلى نصرة المسلم لإخوانه: كقوله -تعالى-: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ) [الأنفال:72]، وما هذه النصرة إلا واجب من واجبات آصرة الديانة، كما قال -سبحانه-: (إِنَّ هَـذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُون) [الأنبياء:92]، فالمسلمون أمة واحدة دون الناس يسعى بذمتهم أدناهم, وتلك النصرة أيضاً من واجبات الأخوة الإيمانية، قال -تعالى-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات:10].

 

ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخْذُلُه ولا يحقره"، قال أهل العلم: الخذل: ترك الإعانة والنصر, ومعناه: إذا استنصر به في دفع السوء ونحوه لزمه إعانته إذا أمكن ولم يكن له عذر شرعي. وأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- بمطلق نصرة المسلم، فقال: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، قال: يا رسول الله, أنصره مظلوماً، فكيف أنصره ظالماً؟ قال: "تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه".

 

ثم الويل لمن تقاعس عن مدِّ يد النصرة إلى مسلم وهو قادر, قال -عليه الصلاة والسلام-: "ما من امرئ مسلم يخذل امرأً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته، وينتقص فيه من عرضه؛ إلا خذله الله في موضع يحب فيه نصرته, وما من امرئ ينصر مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه, وتنتهك فيه حرمته؛ إلا نصره الله في موضع يحب فيه نصرته" رواه أبو داود من حديث جابر وأبي طلحة.

 

وهل فينا من يملك الضمان -على الدهر المتقلب المملوء بالفواجع- من أن تخطفه يدٌ غيلةً؟ أو تنزل بساحته قارعة؟ إنّ المسلم إذا تخاذل عن نجدة إخوانه في الواقعة الواحدة, والحادثة الفذة، فإنّ ربه له بالمرصاد، ويخذله في أحلك ما سيلقى, ويدعه إلى نفسه الضعيفة تستغيث ولات حين مغيث! أخرج الإمام أحمد عن أبي أمامة، عن سهيل، عن أبيه، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَن أذل عنده مؤمن فلم ينصره, وهو يقدر على أن ينصره، أذله الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة".

 

ثانياً: ثمة أدلة تتعلق بهذا الحكم خصوصاً -وهو وجوب فك أسرى المسلمين- ومن ذلك أنّ الله -تعالى- أمر بالقتال لتخليص ضعفة المسلمين, وأسارى المسلمين لهم في الحكم تبع، قال -تعالى-: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَآءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هَـذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً) [النساء:75], قال القرطبي: وتخليص الأسارى واجب على جميع المسلمين، إما بالقتال وإما بالأموال, وذلك أوجب؛ لكونها دون النفوس، إذ هي أهون منها, قال مالك: واجب على الناس أن يُفْدوا الأسارى بجميع أموالهم, وهذا لا خلاف فيه. اهــ.

 

وعن أبي موسى الأشعري-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "فكوا العاني –يعني: الأسير-، وأطعموا الجائع، وعودوا المريض".

 

وفي الصحيح -أيضاً- عن أبي جحيفة، قال: قلت لعلي بن أبي طالب: هل عندكم كتاب؟ قال: " لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة". قال: قلت: فما في هذه الصحيفة؟ قال: "العقل، وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر".

 

وإنّ في السيرة العملية لعبراً تؤثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في فك الأسارى، ومن ذلك القيام بالفداء،  عن عمران بن حصين-رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- فدى رجلاً برجلين، وكان من ديدنه -عليه الصلاة والسلام- نصرة الأسرى بسهام الدعاء التي لا تخطئ أبداً, كما في الصحيح، عن أبي هريرة-رضي الله عنه- أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رفع رأسه من الركعة الأخيرة يقول: "اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة, اللهم أنج سلمة بن هشام, اللهم أنج الوليد بن الوليد, اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين, اللهم اشدد وطأتك على مضر, اللهم اجعلها سنين كسني يوسف".

 

قال ابن العربي المالكي -في أحكام القرآن-: إلا أن يكونوا أسارى مستضعفين: فإنّ الولاية معهم قائمة, والنصرة لهم واجبة بالبدن بألّا يبقى منا عين تطرف حتى نخرج إلى استنقاذهم، إن كان عدواناَ يحتمل ذلك, أو نبذل جميع أموالنا في استخراجهم, حتى لا يبقى لأحد درهم, كذلك قال مالك وجميع العلماء, فإنا لله وإنا إليه راجعون على ما حلَّ بالخلق في تركهم إخوانهم في أمر العدو, وبأيديهم خزائن الأموال, وفضول الأحوال, والعدة والعدد, والقوة والجلد. اهـ.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في الفتاوى: "فكاك الأسارى من أعظم الواجبات, وبذل المال الموقوف وغيره في ذلك من أعظم القربات".

 

إنّ قضية أسارى المسلمين اليوم لدى الدولة الصليبية الأولى, وما في سجون اليهود في فلسطين, ومن في غيابات الجب من الدعاة في سجون الطغاة الجاثمين على صدور المسلمين، أمر يؤرق كل مسلم أبيٍّ غيور, ويقضُّ مضجعه, ولكن الحزن وحده لا يجدي، وإظهار الأسى لحالهم فحسب لا يكفي؛ بل لا بدّ من تحرك عملي لنجدتهم, وتخليصهم من أسر عدوهم, فعلى التجار والميسورين أن يبذلوا أموالهم, ولا يجوز لهم أن يضنوا بها عليهم, وعلى ذوي الجاه والمناصب أن يسعوا بسلطانهم، وعلى أهل العلم والدعوة القيام تحريضاً وتبصيراً بحقوق الأسرى بلسانهم، وعلى أهل الإعلام والصحافة أن يناضلوا بمدادهم وأقلامهم, وأقترح عليهم إنشاء موقع يخصُّ هؤلاء الأسرى على شبكة المعلومات الإلكترونية, يتناول أحوالهم وما آلت إليه أمورهم في كل مكان, على أن يكون هذا الموقع "ربطاً دائماً" يلتحق بكل موضوع إسلامي.

 

فاللهم فك أسر إخواننا من المجاهدين والدعاة في كل أرضك, وردهم إلينا سالمين, غير خزايا ولا ندامى ولا مكلومين, وابطش اللهم بأعدائنا, وخالف بين كلمتهم، واكسر غرورهم, واجعل ما يمكرون به في الليل والنهار مرتداً إلى نحورهم. آمين.

 

 

المرفقات

العاني1

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات