وجوب لزوم جماعة المسلمين وإمامهم

الشيخ عبدالله بن علي الطريف

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/ أهمية اجتماع المسلمين على دينهم وائتلاف قلوبهم 2/ مفاسد الافتراق والتعادي بين المسلمين 3/ كثرة النصوص الشرعية الناهية عن التفرق والآمرة بالاجتماع والائتلاف.

اقتباس

وهذه الخلال الثلاث وما ترتب على الالتزام بها مما لا يُخالجُ القلب ريب أنهن بر وطاعة؛ لأنها من المعروف الذي تعرفه النفوس، وتسكن إليه القلوب.. فالمخلص في عمله ينصح لمن وليَ أمره لأنه يريد له الصلاحَ والفلاحَ، وليس له هدفٌ في مالٍ أو رياسةٍ، ويلتزم بجماعة المسلين ولا يشقّ عصا من طاعة، فمن فعل ذلك دارت من ورائه دعوتهم وحوته وحفظته عن كيد الشيطان وعن الضلالة.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إِنْ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد أيها الإخوة يقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 102، 103].

 

 قال الشيخ السعدي -رحمه الله-: في هذه الآية أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى، وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم، وائتلاف قلوبهم يَصْلُحُ دينُهم وتَصلُح دنياهم.. وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها، من التعاون على البر والتقوى..

 

كما أن بالافتراق والتعادي يختلُ نظامهم وتنقطع روابطهم.. ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه.. ولو أدى إلى الضرر العام.

 

ثم ذَكَّرهم تعالى نعمته وأمرَهم بذِكرها فقال: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً) يقتل بعضكم بعضًا، ويأخذ بعضكم مال بعض، حتى إن القبيلةَ يعادي بعضهم بعضًا، وأهلَ البلدِ الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال، وكانوا في شر عظيم.. وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم-.. فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبُهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد، من تآلفِ قلوبِهم وموالاةِ بعضِهم لبعضٍ، ولهذا قال: (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) أي: قد استحققتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا)؛ بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد -صلى الله عليه وسلم- (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ) أي: يوضحها ويفسرها، ويبين لكم الحق من الباطل، والهدى من الضلال (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) بمعرفةِ الحقِ والعملِ به.

 

وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكراً له ومحبةً، وليزيدَهم من فضله وإحسانه.. وإن من أعظم ما يذكر من نعمِهِ نعمةُ الهداية إلى الإسلام، واتباعُ الرسول -صلى الله عليه وسلم- واجتماعُ كلمة المسلمين وعدمُ تفرقها. ا هـ.

 

وقال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره: قوله: (وَلا تَفَرَّقُوا) أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة، وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلَاثًا، وَيَكْرَهُ لَكُمْ ثَلَاثًا، فَيَرْضَى لَكُمْ: أَنْ تَعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَأَنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ.. وَيَكْرَهُ لَكُمْ: قِيلَ وَقَالَ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ، وَإِضَاعَةِ الْمَالِ" (رواه مسلم).

 

وقَالَ: أَبُو إِدْرِيسَ الخَوْلاَنِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ حُذَيْفَةَ بْنَ اليَمَانِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- يَقُولُ: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنِ الخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ -أستوضحه عنه- مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، -خوفًا من أن أقع فيه أو أدرك زمنه- فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ» قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ» -من الدخان أي ليس خيرًا خالصًا، بل فيه ما يشوبه ويكدّره وقيل الدخن الأمور المكروهة-.

 

 قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ» -أي ترى منهم أشياء موافقة للشرع وأشياء مخالفة له- قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ، دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا» -من أنفسننا وقومنا وقيل هم في الظاهر مثلنا ومعنا وفي الباطن مخالفون لنا في أمورهم وشؤونهم وجلدة الشيء ظاهره-.

 

قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ -عامتهم التي تلتزم بالكتاب والسنة، وأميرهم العادل الذي اختاروه ونصبوه عليهم-. قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» -أي: حتى ولو كان الاعتزال بالعض على أصل شجرة والعض هو الأخذ بالأسنان والشد عليها والمراد المبالغة في الاعتزال- (رواه البخاري).

 

قال الحافظ ابن حجر: "وَقَالَ اِبْن بَطَّال: فِيهِ حُجَّة لِجَمَاعَةِ الْفُقَهَاء فِي وُجُوب لُزُوم جَمَاعَة الْمُسْلِمِينَ وَتَرْك الْخُرُوج عَلَى أَئِمَّة الْجَوْر، لِأَنَّهُ وَصَفَ الطَّائِفَة الْأَخِيرَة بِأَنَّهُمْ "دُعَاة عَلَى أَبْوَاب جَهَنَّم" وَلَمْ يَقُلْ فِيهِمْ "تَعْرِف وَتُنْكِر" كَمَا قَالَ فِي الْأَوَّلِينَ، وَهُمْ لَا يَكُونُونَ كَذَلِكَ إِلَّا وَهُمْ عَلَى غَيْر حَقّ، وَأَمَرَ مَعَ ذَلِكَ بِلُزُومِ الْجَمَاعَة".

 

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام: 159]، قال الشيخ السعدي: "قال الله تعالى: (إن الذين فرَّقوا دينهم وكانوا شيعًا…) يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم أي: شتَّتوه وتفرقوا فيه وكلٌّ أخذ نصيبًا من الأسماء التي لا تفيد الإنسان في دينه شيئًا، كاليهودية والنصرانية والمجوسية، أولا يكمل بها إيمانه بأن يأخذ من الشريعة شيئًا، ويجعله دينه، ويدع مثله، أو ما هو أولى منه، كما هو حال أهل الفرقة من أهل البدع والضلال والمفرقين للأمة.

 

ودلت الآية الكريمة أن الدين يأمر بالاجتماع والائتلاف، وينهى عن التفرق والاختلاف في أهل الدين، وفي سائر مسائله الأصولية، والفروعية، وأمره أن يتبرأ ممن فرَّقوا دينهم فقال: (لست منهم في شيء) أي لست منهم وليسوا منك؛ لأنهم خالفوك وعاندوك. (إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ) يردون إليه فيجازيهم بأعمالهم (ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [الأنعام: 159].

 

أسأل الله تعالى أن يمنَّ علينا بالاجتماع ويُجنبنا الفُرقة، فهي رأس الضياع إنه جواد كريم وصلى الهَ وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله أن هدانا للإسلام وعلمنا الحكمة والقرآن، وأشهد ألا إله إلا الله الملك الديان وأشهد أن محمد عبده ورسوله سيد الإنس والجان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، وسلم تسليماً كثيراً.

 

أما بعد أيها الإخوة: يقول الله تعالى حاثاً على التقوى ومرغباً بها (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].

 

ومن أعظم الأحاديث في تأكيد لزوم الجماعة فوائدها هذا الحديث عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، عَنْ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَبَلَّغَهُ غَيْرَهُ، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ، ثَلَاثٌ لَا يُغِلُّ عَلَيْهِنَّ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ: إِخْلَاصُ الْعَمَلِ لِلَّهِ، وَمُنَاصَحَةُ وُلَاةِ الْأَمْرِ، وَلُزُومُ الْجَمَاعَةِ، فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ» (رواه أحمد وروى نحوه ابن حبان وصححه الألباني).

 

أيها الإخوة: هذا حديث عظيم يحتاج إلى تأمل ووقوف عنده فهو منهج حياة وعمل، ولقد روى: "لا يُغِلُّ عليهنّ قلبُ مُؤمن" بضم الياء وهو من الإغْلال: وهو الخيانةِ في كل شيء.. ويُروى "يَغِلُّ" بفتح الياء من الغِلّ وهو الحِقْد والضِّغن والشَّحْناء. أي: لا يَدْخُله حقْدٌ يُزِيلُه عن الحقِّ.. والغلُّ: الحِقْدُ الكامن في الصَّدْر.. والمعنى أن هذه الخلال الثلاث تُستصلحُ بها القلوب، وتَنْفِي الغلَ عن قلبِ المسلمِ؛ فمن تَمسَّك بها طَهُرَ قَلْبُه من الخِيانةِ والدَّغَلِ والشَّرِ والفسادِ.

 

"فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ تُحِيطُ مِنْ وَرَائِهِمْ" أي تدور "مِنْ وَرَائِهِمْ"، وقوله: "فَإِنَّ دَعْوَتَهُمْ" في معرض التعليل، والتقدير: ولا يُقَصِرَنَّ أحدٌ في لزوم جماعتهم؛ لأن دعوتهم تدور من ورائهم وتحويهم وتحفظهم عن كيد الشيطان وعن الضلالة، فلا ينبغي لأحد أن يجعل نفسه محرومة من بركتهم.. وفي هذا الحديث: تنبيه على أن مَن خرجَ مِن جماعتهم لم تَنَلْه بركةُ دعائهم؛ لأنه خارجٌ عما أحاطَ بهم.

 

وهذه الخلال الثلاث وما ترتب على الالتزام بها مما لا يُخالجُ القلب ريب أنهن بر وطاعة؛ لأنها من المعروف الذي تعرفه النفوس، وتسكن إليه القلوب.. فالمخلص في عمله ينصح لمن وليَ أمره لأنه يريد له الصلاحَ والفلاحَ، وليس له هدفٌ في مالٍ أو رياسةٍ، ويلتزم بجماعة المسلين ولا يشقّ عصا من طاعة، فمن فعل ذلك دارت من ورائه دعوتهم وحوته وحفظته عن كيد الشيطان وعن الضلالة.

 

جعلنا الله منهم ووفق كل والٍ للمسلمين للخير والفلاح.

 

 

المرفقات

لزوم جماعة المسلمين وإمامهم

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات