من يبكي دين الله؟

عادل العضيب

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ أسف وحزن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- على موت عمه حمزة –رضي الله عنه- 2/ بكاء الناس على الدنيا وغفلتهم عن الدين 3/ سعي أعداء الإسلام لانحراف المجتمع عن طريق المرأة وبعض شرارات ذلك 4/ الكبير في نظر الإسلام 5/ فشل المحاولات والمؤامرات المحاكة لإفساد المجتمع 6/ تكفل الله بحماية الدين والدفاع عنه

اقتباس

يبكون لأجل كرة! يبكون لأجل مسلسل! يبكون لأجل منصب! يبكون لأجل مال! تثور ثائرتهم ويشتد غضبهم! وتعلو أصواتهم لأجل الدنيا! لكن إذا تعلق الأمر بدين الله سكتوا كأن الأمر لا يعنيهم! فهل...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70 - 71].

 

أما بعد:

 

فيا عباد الله -أيها المسلمون-: في المسند وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- مر بنساء عبد الأشهل يبكين هلاكهن يوم أحد، فقال عليه الصلاة والسلام: "لكن حمزة لا بواكي له"، وفي رواية: لما دخل رسول الله-صلى الله عليه وسلمَ- أزقة المدينة إذا النوح والبكاء في الدور، فقال: ما هذا؟ قالوا: هؤلاء نساء يبكين قتلاهم، فذرفت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- ثم قال: "لكن حمزة لا بواكي له".

 

رسوله الله -صلى الله عليه وسلمَ- يتأسف لعمه سيد الشهداء حمزة؛ شفقةً عليه وحبًا له؛ لأنه لا بواكي له، وقد قتل في أحد؛ لأنه ليس له كثير قرابة في المدينة.

 

حمزة -رَضي الله عنه- وإن لم يكن له بواكي يكفيه أنه بكى دين الله وضحى بنفسه رخيصةً لله، فقد كان الدين عندهم أغلى من أنفسهم.

 

والسؤال: هل أضحى دين الله لا بواكي له؟!

 

أقول هذا وأنا أرى الكثيرين اليوم يبكون للدنيا! ويتألمون لفقد شيء منها! لكنهم لا يبكون لأجل الدين!

 

يبكون لأجل كرة! يبكون لأجل مسلسل! يبكون لأجل منصب! يبكون لأجل مال! تثور ثائرتهم ويشتد غضبهم! وتعلو أصواتهم لأجل الدنيا! لكن إذا تعلق الأمر بدين الله سكتوا كأن الأمر لا يعنيهم! فهل أصبح دين الله لا بواكي له؟!

 

يرون الخير يقل، والشر يكثر، والسفينة تكاد تغرق، فلا يتحركون؛ لأن هذا لا يتعلق بدنياهم بل يتعلق بدين الله، يرون ثوب الستر يمزق، وبناء الفضيلة يهدم، ونقاء المجتمع تلغ فيه الأفواه الآثمة ولا يتحركون.

 

يرون من ينشر شره، ويجاهر بمنكراته، ويصور سخافاته وينشرها على رؤوس الأشهاد ولا يتحركون؛ فهل أصبح دين الله لا بواكي له؟!

 

يرون المجتمع ينحدر انحدارًا خطيرًا، فلا يقض هذا الانحدار مضاجعهم؛ لأن الأمر لا يتعلق بدنياهم بل يتعلق بدين الله، فهل أصبح دين الله لا بواكي له؟!

 

عباد الله: إن السكوت على هذا الانحراف سندفع ثمنه غاليًا، ولن يسلم المجتمع من عقوبة يحدد حجمها وزمانها من بطش بالسابقين، من دمدم على الأمم السابقة بذنبها فسواها ولا يخاف عقباها، ولن ينجو من عذاب الله إلا من كره وأنكر، قال ربنا -جل علا-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 165]، يقول جبير بن نفير: لما فتحت قبرص فرق بين أهلها فبكى بعضهم إلى بعض، فرأيت أبا الدرداء -رَضي الله عنه- جالسًا وحده يبكي، فقلت: يا أبا الدرداء، "ما يبكيك في يوم أعز الله فيه الإسلام وأهله؟! فقال: ويحك يا جبير ما أهون الخلق على الله إذا أضاعوا أمره، بينما هي أمة قاهرة ظاهرة لهم الملك، تركوا أمر الله فصاروا إلى ما ترى".

 

أيها المسلمون: إن بداية الانحراف في كل مجتمع بانحراف المرأة وتمزيق حيائها واختلاطها بالرجال؛ قال عليه الصلاة والسلام: "فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء".

 

ولقد بدأت في المجتمع شرارات إذا تركت أورثت نارًا عظيمةً لا نقدر على إطفائها، وإن من هذه الشرارات المحرقة: رجال يدخلون في أماكن مخصصة للنساء بكامل الزينة يلعبون ويرقصون، وإن من هذه الشرارات: أن البنات أصبحن يجلس بجانب الشباب، هن على طاولة وهم على طاولة مجاورة، وتعلو الأصوات والضحكات في تحد سافر لمشاعر المجتمع المحافظ.

 

وإذا كلمت أصحاب القصور أو الديوانيات اعتذروا بأنهم لا يستطيعون منع الناس.

 

وأقول: نعم، لا يستطيعون، منعتهم دنياهم، منعهم حب المال، وإلا لو جاؤوا بشاعر وأخذ يسب صاحب المكان أو أسرته لعرفوا كيف يوقفونهم، فما بالكم لو سب ملكًا أو أميرًا، كيف سيكون الرد؟!

 

فإلى متى يستمر التحدي للمجتمع من أفراد لا يمثلون المجتمع ومن إعلام لا يمثل الوطن ولا يحتكم إلى دين ولا يراعي العادات والتقاليد؛ حتى تجرأت بعض القنوات على مطالبة المرأة في بلادنا بالتحرر تحت وسم أسموه: "كوني حرةً!" يهدفون من ورائه أن تنفرد المرأة بتصرفاتها بعيدًا عن الدين وبعيدًا عن ولاية أب أو أخ أو زوج، هكذا بكل صراحة، "حلقي برقبتك خارج سجون الظلام والعبودية!"، "أطلقي العنان لخيالك المجنون!"، "من يعرف الحب يومًا لا يمكن إلا أن يكون ثائرًا فأساس الحب هو الحرية!"، "كوني حرةً!"، "كوني حرةً!"، وهكذا ينكشف المستور، وتظهر حقيقة القوم وأنهم عندما يطالبون بقيادة المرأة أو سفرها بدون محرم أو اختلاطها بالرجال، يريدون أن يصلوا لمرحلة التحرر من الدين والعادات والتقاليد، يريدونها أن تتحرر من عبوديتها لربها لتكون عبدةً للشيطان وجنده، وأن تحرر من ولاية أهلها لتكون سلعةً رخيصةً بين أيديهم.

 

أيها المسلمون: إن الكبير اليوم ليس من تصدر المجالس ولا من ملك الأموال.

 

إن الكبير من حمل هم الأمة في قلبه، وسعى لإصلاح مجتمعه، ولو كان شابًا صغيرًا يحتقره الناس.

 

إن الكبير من وضع المال تحت قدميه لأجل حفظ طهارة المجتمع ونقائه.

 

إن الكبير من أدرك أن أقبح تجارة وأخسر تجارة، تجارة من يتاجر بالفضيلة.

 

إن الكبير من رأى أعراض الناس عرضًا له، فلم يرض أن يكون سببًا في تدنيسها، يحدوه قول الأول:

 

أصون عرضي بمالي لا أدنسه *** لا بارك الله بعد العرض بالمال

 

إن الكبير من انتصر على نفسه والشيطان واتجه لبيته، وحذف قنوات الشر والفساد من جهازه.

 

إن الكبير من وقف أمام من أراد أن يعلن منكرًا على الملأ فقال له: اتق الله ولا تكن عذابًا على مجتمعك.

 

إن الكبير من كان عند الله كبيرًا ولو كان في أعين الناس صغيرًا.

 

إن الكبير من سكن دارًا قال الله عنها: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) [الإنسان: 20].

 

اللهم اجعلنا ووالدينا منهم.

 

اللهم صل وسلم على نبينا محمد...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، خلق فسوى وقدر فهدى، الرحمن على العرش استوى، وصلى الله وسلم وبارك على خير الورى محمد المصطفى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد:

 

فيا معاشر المسلمين: وبرغم كل المحاولات والمؤامرات التي تحاك لإفساد المجتمع أو التصرفات الشاذة التي لا تهدف في ظاهرها لشيء إلا لتحقيق شهوة لم تضبط بالشرع، يظل المجتمع في غالبه يرعى الفضيلة، ويحارب الرذيلة، وينكر كل تصرف يأباه الدين.

 

لقد هب المجتمع من أوله إلى آخره هبةً واحدةً أمام دعاة الفساد ورعاته، لقد نطلق الجميع بصوت واحد: نحن مجتمع مسلم يستمد تعاليمه من كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ولا نقبل أن يتدخل في خصوصية مجتمعنا أحد.

 

فشكر الله لكل من تكلم ولكل من نصح، ولكل من وجه على نور من الكتاب والسنة، وجعل هذا في الميزان الأوفى عنده يوم القيامة.

 

أما أولئك الذين سكتوا وكأن الأمر لا يعنيهم، لسان حالهم: للدين رب يحميه؛ كما قال عبد المطلب لأبرهة لما جاء لهدم الكعبة، وأخذ إبلًا لعبد المطلب، فذهب إليه عبد المطلب وطلب الإبل، فقال: تكلمني في الإبل وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك! فقال عبد المطلب: "إني أنا رب الإبل وإن للبيت ربًا يحميه".

 

ونقول: إي والله! والله ما شككنا في هذا طرفة عين: أن الدين له رب يحميه، وهو ناصر دينه، ومعلٍ رايته، ولو اجتمع على هذا الدين من بأقطارها، قال الله: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [التوبة: 32 - 33].

 

ولكنه يهيئ لدينه رجالًا ويختار له أبطالًا يحملونه على رقابهم حتى تشرق شمسه على الدنيا بأسرها، فمن تول عن نصر دين الله ذهب الله به وجاء بقوم غيره: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].

 

وأما أولئك الذين عاشوا لأنفسهم وشهواتهم فهم سيذهبون كما ذهب غيرهم، وسينساهم التاريخ، ولو ذكروا لم يذكروا بما يرفع درجاتهم، ويعلي شأنهم عند الله.

 

عباد الله: نعم "للدين رب يحميه"، نقول هذا ونحن نرى حربًا على الإسلام والمسلمين في كل مكان، "للدين رب يحميه"، فلا خوف على دين الله، لكن الخوف على من تخلى عنه وعن نصرة أولياء الله من سوء العاقبة في الدارين.

 

وتذكروا دائما -أحبتي في الله- أن من عاش لدينه عاش كبيرا ومات كبيرا، ومن عاش لدنياه عاش صغيرا ومات صغيرا ولو رآه الناس كبيرا.

 

اللهم يا قوي ويا قادر ابعث لدينك ناصرًا، واجعلنا من أنصاره.

 

اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنًا وسائر بلاد المسلمين.

 

اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم احفظ حدودنا وانصر جنودنا، اللهم أعدهم سالمين غانمين منصورين.

 

اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم كن للمستضعفين.

 

اللهم هيئ لهذه الأمة أمرًا رشيدًا، يعز فيه أهل الطاعة، وتكسر شوكة أهل العصيان، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى عن المنكر، وتقال كلمة الحق، يا قوي يا قادر.

 

اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك الصالحين.

 

اللهم يسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واجمع لنا بين الدين والدنيا والأخرى.

 

اللهم اجعل ما نستقبل من أيامنا خيرا مما استدبرنا، اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة.

 

اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا رمضان، اللهم بلغنا أيامه في صحة وعافية وسلامة.

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارًا، اللهم اجزهم عنا خير الجزاء الأوفى.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

 

(سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الصافات: 180 - 182].

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

 

المرفقات

يبكي دين الله؟

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات