طوبى للغرباء

الشيخ هلال الهاجري

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ غربة الدين في بلاد المسلمين 2/ سمات الغرباء وفضائلهم 3/ أبرز أعمال الغرباء والصالحين.

اقتباس

كانوا وعادوا قليلاً في النَّاسِ وفي البِلادِ.. ولكنَّهم إلى اللهِ -تعالى- من أحبِّ العبادِ.. تعرفُهم من أعمالِهم وأقوالِهم وأخلاقِهم المُستقيمةِ.. بل حتى من وُجوهِهم المُستنيرةِ.. أجسادُهم تمشي على الغبراءِ.. وقلوبُهم تُحلِّقُ في السَّماءِ.. يجمعُهم بالإسلامِ وَصفاً مُحزِناً.. فالإسلامُ غَريباً.. وهم الغُرباءُ.. وما أدراكَ ما الغُرباءُ؟! لا يُؤثِّرُ في دينِهم ما حولَهم من الفَسادِ.. فهم مُصلِحونَ ثابتونَ بتثبيتِ ربِّ العبادِ.. قليلٌ قد أحاطَ بهم أهلُ الزَّيغِ والعنادِ. يَتمسَكُّونَ بالحقِّ فلا يُعانَونَ.. ويَنْصَحونَ النَّاسَ فلا يُطاعونَ...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لله؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

 

(يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].

 

أَمَّا بَعْدُ: كانوا وعادوا قليلاً في النَّاسِ وفي البِلادِ.. ولكنَّهم إلى اللهِ -تعالى- من أحبِّ العبادِ.. تعرفُهم من أعمالِهم وأقوالِهم وأخلاقِهم المُستقيمةِ.. بل حتى من وُجوهِهم المُستنيرةِ.. أجسادُهم تمشي على الغبراءِ.. وقلوبُهم تُحلِّقُ في السَّماءِ.. يجمعُهم بالإسلامِ وَصفاً مُحزِناً.. فالإسلامُ غَريباً.. وهم الغُرباءُ.. وما أدراكَ ما الغُرباءُ.

 

قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "بدأَ الإسلامُ غريبًا، وسيعودُ غريبًا كما بدأَ"، ثُمَّ بشَّرَهم بقولِه: "فطوبى للغُرباءِ"، قالَ الصَّحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم-: ومَنْ هُمْ يا رسولَ اللهِ؟، قالَ: "الَّذين يُصْلِحونَ إذا فَسدَ النَّاسُ".. فلا يُؤثِّرُ في دينِهم ما حولَهم من الفَسادِ.. فهم مُصلِحونَ ثابتونَ بتثبيتِ ربِّ العبادِ.. قليلٌ قد أحاطَ بهم أهلُ الزَّيغِ والعنادِ.

 

يَتمسَكُّونَ بالحقِّ فلا يُعانَونَ.. ويَنْصَحونَ النَّاسَ فلا يُطاعونَ.. وينهونَ عن المنكرِ فيُعادَونَ.. عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرو -رضيَ اللهُ عنهما-، عن النَّبيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قالَ: "طوبى للغرباءِ"، قلنا: وما الغُرباءُ؟، قالَ: "قومٌ صالحونَ قليلٌ في نَاسِ سوءٍ كثيرٍ، مَنْ يَعصيهِمْ أكثَرُ مِمَّن يُطيعُهم".

 

مَن منكم يستطيعُ أن يمسَّ جمرةً تشتعلُ بأطرافِ أصابعِه؟.. هؤلاءِ الغُرباءُ يَقبِضونَ على دينِهم كما تُقبضُ الجمرةُ بكفِّ اليدِ.. فكيفَ يأكلُ وكيفَ يشربً وكيفَ ينامُ من بيدِه جمرةٌ؟.. عن أبي ثعلبةَ الخُشني -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قالَ: قالَ رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "فإِنَّ من ورائِكُم أيَّامًا، الصَّبرُ فِيهِنَّ مِثلُ القَبْضِ على الجَمْرِ، لِلعامِلِ فِيهِنَّ مِثلُ أجْرِ خَمسِينَ رَجُلًا يَعمَلُونَ مِثلَ عَمَلِكُمْ"، قيلَ: يا رسولَ اللَّهِ أجرُ خمسينَ رجلًا منَّا أو منْهم؟، قالَ: "لا بل أجرُ خمسينَ منْكم".

 

وإذا كانتْ قد ظهرتْ غربةُ الدِّينِ في أواخرِ عهدِ الصحابةِ -رضيَ اللهُ عنهم-، وأحسَّ الصحابةُ -رضيَ اللهُ عنهم- بغربةٍ بعدَ زمنِ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، يقولُ أَنَسٌ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- في زمنِ التَّابعينَ: "إِنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أَعْمَالًا هِيَ أَدَقُّ فِي أَعْيُنِكُمْ مِنْ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- مِنْ الْمُوبِقَاتِ"، يَعْنِي الْمُهْلِكَاتِ، فماذا سيقولَ لو رأى زمانَنا هذا؟.. وماذا عسى أن يقولَ الغُرباءُ، في زمنِ الفِتنِ العمياءِ؟.

 

طوبى لكم أيُّها الغُرباءُ.. الذينَ يأمرونَ بالمعروفِ وينهونَ عن المنكرِ، في زمانٍ نُكِّستْ فيه المفاهيمُ البشريةُ، وأصبحتْ المعصيةُ حُرِّيةً شخصيةً، وصارَ المنكرُ مصبوغاً بالضوابطِ الشَّرعيةِ، وأمسى الباطلُ تحميه الأنظمةُ الطَّاغوتيةُ.

 

فلا عليكم، فأنتم بعدَ اللهِ -تعالى- سببٌ لنجاةِ البلادِ والعبادِ، قالَ تعالى: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود: 117]، ولم يقلْ صالحونَ، بل هم صالحونَ في أنفسِهم، مُصلِحونَ لغيرِهم، عن النُّعْمَان بْن بَشِيرٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، عَنِ النَّبِيِّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- قَالَ: "مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا، كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا، وَنَجَوْا جَمِيعًا".

 

فلا تلتفتوا إلى المُثبِّطينَ.. الذينَ يقولونَ: إنَّ النصيحةَ لا تُسمعُ، وإنَّ الذِّكرى لا تنفعُ، وإن الشَّكوى لا تَردَعُ، واقرأوا عليهم: (وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف: 164- 165].

 

طوبى لكم أيُّها الغرباءُ.. وأنتم ترونَ التَّوحيدَ قد سُفكَ دمُه بينَ البُلدانِ.. فهناكَ تُعبدُ القبورُ والأضرحةُ والأوثانُ.. وهناكَ السَّحرةُ والعرَّافينَ والكُّهَّانُ.. وهناكَ يُذبحُ للشَّجرِ والحجرِ والجانِ.. وهناكَ تُعلَّقُ التمائمُ والقلائدُ والخَرَزاتُ.. وهناكَ الموالدُ والأعيادُ المُبتدَعاتُ.. وهناكَ الولاءُ والبراءُ قَد ماتَ.. وهناكَ الحلفُ بغيرِ ربِّ الأرضِ والسَّماواتِ.

 

فاملأوا قلوبَكم إيماناً وتوحيداً، وردِّدوا قولَه سبحانَه: (أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ -تعالى- اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ * أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النمل: 63- 66].

 

طوبى لكم أيُّها الغرباءُ.. وأنتم ترونَ حالَ المُصلِّينَ في المساجدِ، فهذا يأتي مُتأخِّراً ويخرجُ بعدَ السَّلامِ، وهذا لا يعرفُ من الصَّلاةِ الشُّروطَ ولا الأركانَ ولا الأحكامَ، وهذا يعبثُ في السَّاعةِ والنَّظارةِ والأقلامِ، وهذا قد استغرقَ في الوساوسِ والأفكارِ والأوهامِ، وهناكَ الصُّراخُ والجِدالُ وفضولُ الكلامِ، وهناكَ تصدَحُ من الجوالاتِ المعازفُ والأنغامُ، وما إن تنتهي الصَّلاةُ حتى ترى على الأبوابِ الزِّحامَ، ويُخيَّمَ على المكانِ الهدوءُ والظَّلامُ، فضاعتْ في بيوتِ اللهِ عمودُ الإسلامِ، فأينَ رجالُ المسجدِ الذينَ قالَ اللهُ -تعالى- فيهم: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوّ وَالاَصَالِ * رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَإِقَامِ الصّلاَةِ وَإِيتَاءِ الزّكَاةِ) [النور: 36- 37]؟، وأينَ أهلُ المسجدِ الذينَ قالَ فيهم رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "المسجِدُ بيتُ كلِّ تقيٍّ"؟.

 

طوبى لكم أيُّها الغرباءُ.. وأنتم ترونَ تغيُّرَ الأحوالِ، واختلاطُ النِّساءِ بالرِّجالِ، فأصبحتْ المرأةُ سكرتيرةً وموظفةَ استقبالٍ ومندوبةَ مبيعاتٍ ومُرشدةً سياحيةً، وأصبحتْ تُلقي الدَّوراتِ وتحضرُ الاجتماعاتِ، وعضوٌ فعَّالٌ في مجالسِ الإداراتِ، وصديقةُ عملٍ وشريكةُ التُّجَّارِ، دونَ حجابٍ ولا سِتارٍ، دونَ اسغرابٍ أو إنكارٍ، فلم يَقَرْنَ فِي بُيُوتِهِنَّ، وَتَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى، وخَضَعْنَ بِالْقَوْلِ، فَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ، فاللهم عُذراً، واللهم سِتراً، واللهم رُدَّنا إليكَ رداً جميلاً.

 

طوبى لكم أيُّها الغرباءُ.. وأنتم ترونَ كثيراً من المجالسِ فاكهتَها الغيبةُ والكَذبُ، والمعازفَ فنَّاً وجمالاً وحضارةً، والغِشَّ والرَّشوةَ ذكاءً وشطارةً، والتَّساهلَ في النَّظرِ إلى المُتبرجاتِ، لمتابعةِ الأخبارِ والتَّحليلاتِ، وصرفَ الأوقاتِ بالتَّفاهاتِ والمُبارياتِ، وعقوقَ الآباءِ والأمهاتِ، والتَّشبهَ بالفاسقينَ والفاسقاتِ، وهجرَ القُرآنِ وقلةَ الأذكارِ والدَّعواتِ، ويُقتلُ المسلمونَ جماعاتٍ كثيرةً، وصارَ الإسلامُ جريمةً خطيرةً.

 

ومع تلاطمِ أمواجِ الشَّهواتِ، وتلبُّدِ سُحبِ الفِتنِ، لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ، فانُهُوا عن الفسادِ، وذكِّروا العبادَ، فأنتم غرسُ اللهِ -تعالى- في الدِّينِ، قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لا يَزَالُ اللهُ يَغْرِسُ في هذا الدينِ غَرْسًا، يَسْتَعْمِلُهم فيه بطاعتِه إلى يومِ القيامةِ"، ولكم سَلفٌ فيمن قبلكم من النَّاجينَ، (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116].

 

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: "عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ، وَلَا تَسْتَوْحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ، وَكُلَّمَا اسْتَوْحَشْتَ فِي تَفَرُّدِكَ فَانْظُرْ إِلَى الرَّفِيقِ السَّابِقِ، وَاحْرِصْ عَلَى اللَّحَاقِ بِهِمْ، وَغُضَّ الطَّرْفَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَإِذَا صَاحُوا بِكَ فِي طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّكَ مَتَى الْتَفَتَّ إِلَيْهِمْ أَخَذُوكَ وَعَاقُوكَ".

 

يا معشرَ الغرباءِ الدِّينِ إنَّ لكم *** في كلِّ معركةٍ سَيفٌ ومَيدانُ

أنتم لها يا جنودَ الحقِّ فاصطبروا *** ما ضاعَ حقٌ له جُندٌ وأعوانُ

وإن تساقطتِ الأبدانُ هامدةً *** فالحقُّ تفديه أرواحٌ وأبدانُ

وللغريبِ إذا بانتْ مرابعُه *** وَجْدٌ يطوفُ به الدنيا وتِحنانُ

لكننا غُرباءُ ضَمَّنا أملٌ *** بأنَّ مستقبلَ الإسلامِ ريَّانُ

إني لألمحُ في الأُفقِ البعيدِ سَنى *** تحدو به في طَريقِ اللهِ رُكبانُ

صوتٌ من اللهِ والإسلامُ يجمعُنا *** أكرمْ بجامعِنا: ربٌّ وقرآنُ

 

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِّ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ، ناصرِ الدِّينَ وأهلَه، خاذلِ الكفرَ والنِّفاقَ وملتَه، والصَّلاةُ والسَّلامُ علي عبدِه ورسولِه نبيِّنا وقائدِنا وشفيعِنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعينَ.. أما بعدُ:

 

طوبى لكم أيُّها الغرباءُ.. يا من أطاعَ ربَّه تعالى، واتَّبع نبيَّه -صلى اللهُ عليه وسلمَ-، وتمسَّكَ بعقيدتِه الصَّافيةِ، وغضَّ بصرَه، وحفظَ سمعَه، ومسكَ لسانَه، وتحرَّى الحلالَ، واجتنبَ الحرامَ، فهو كماشٍ فوقَ أرضِ الشَّوكِ، ولم يخُضْ مع الخائضينَ.

 

طوبى لكم أيُّها الغرباءُ.. يا من لا يزالُ يرى المنكرَ مُنكراً، والمعروفَ معروفاً، والحقَّ حقَّاً، والباطلَ باطلاً، ولم يرضخْ لضغوطِ الواقعِ، ولا لمُتطلَّباتِ الزَّمانِ، ولا لعاداتِ النَّاسِ، ولم يتلوَّنْ مع المُتلَوِّنينَ، ولم يبعْ دينَه بعَرَضٍ من الدُّنيا قليلٌ.

 

طوبى لكم أيُّها الغرباءُ.. وأنتم ثابتونَ في زمنِ الانزلاقِ، وتُدافعونَ أهلَ الفجورِ والنِّفاقِ، وترونَ الخطرَ القادمَ من الآفاقِ، على بلادِنا إن لم نشكرْ نعمةَ العزِيزِ الرَّزاقِ.

 

طوبى لكم وأنتم تغارونَ على دينِكم، وتنصحونَ لوليِّ أمرِكم، وتحرصونَ على أمنِ بلادِكم، وتخافونَ سخطَ ربِّكم.

 

فالثَّباتَ الثَّباتَ.. والاستعانةُ بربِّ الأرضِ والسَّماواتِ.. (وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) [الإسراء: 74].

 

وأخيراً.. بُشرى لكم أيُّها الغرباءُ.. ففي الحديثِ بُشارةٌ بنُصرةِ الإسلامِ بعد غربتِه الثانيةِ، "وسيعودُ غريبًا كما بدأَ"، فكما كانَ بعدَ الغربةِ الأولى، عِزٌّ للمسلمينَ وانتشارٌ للإسلامِ، فكذا سيكونُ له بعدَ الغربةِ الثانيةِ نصرٌ وانتشارٌ، وصدقَ اللهُ تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [النور: 55].

 

اللهم أعزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، وأذلَّ الشركَ والمشركينَ، ودمرْ أعداءَ الدينِ، واجعل هذا البلدَ آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائرَ بلادِ المسلمينَ.

 

اللهم وفقْ وليَ أمرِنا خادمَ الحرمينَ الشريفينَ لما تحبُ وترضى وخذْ به للبرِ والتقوى، اللهم وفقه ووليَ عهدِه ونائبِه الثاني لما فيه صلاحُ البلادِ والعبادِ، اللهم احفظهم ووفقهم للصالحاتِ وهيئ لهم البطانةَ الصالحةَ يا ربَ العالمينَ.

 

اللهم فرِّج همَ المهمومينَ من المسلمينَ، ونفِّسْ كربَ المكروبينَ، وفكَ أسرَ المأسورينَ، واقضِ الدينَ عن المدينينَ، واشفِ برحمتِك مرضانا ومرضى المسلمينَ، اللهم اغفر ذنوبَنا، واستر عيوبَنا، ويسر أمورَنا، وبلغ فيما يرضيك آمالَنا يا حيُ يا قيومُ يا ذا الجلالِ والإكرامِ.

 

اللهم أصلح أحوالَ المسلمينَ، وأرغدْ عيشَهم، وارفع بلاءَهم، وأصلح قادتَهم، واجمعهم على الكتابِ والسنةِ يا ربَ العالمينَ، اللهم انصرْ إخوانَنا في فلسطينَ على اليهودِ الغاصبينَ، اللهم كن لإخوانِنا في غزةَ معيناً ونصيراً، ومؤيداً وظهيراً.

 

اللهم أنزل عذابَك ورجزَك وسخطَك على من حاصرَهم وآذاهم، يا قويُ يا عزيزُ يا ربَ العالمين، عبادَ اللهِ (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)، فاذكروا اللهَ العظيمَ الجليلَ يذكركُم واشكروه على نعمِه يزدكم، ولذكرُ اللهِ أكبرُ، واللهُ يعلمُ ما تصنعونَ.

 

 

المرفقات

للغرباء3

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات