دروس وعبر من سورة الفلق (4) العين

محمد بن إبراهيم النعيم

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ ماهيّة العين وبيان أنها حق 2/ خطرها على المجتمع 3/ التحذير النبوي من العين 4/ محاولة إصابة النبي الكريم بالعين 5/ تباين حال الناس في التعامل مع العين 6/ إصابة الإنسان بعين الجن وبِعَيْنِ نفسِه أو أهله 7/ الوقاية من العين 8/ العلاج منها

اقتباس

حديثنا اليوم عن آفة تستنزل الحالق (أي الجبل)، وتورد الرجل القبر، وتُدخل الجمل القدر؛ إنها العين، و"العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين"، هذا ما قاله النبي –صلى الله عليه وسلم-.

 

 

 

الخطبة الأولى:

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين، وتابعيهم، وسلم تسليمًا كثيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد: فإنَّ خير الحديث كتابُ الله، وخير الهدي هديُ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

حديثنا اليوم عن آفة تستنزل الحالق (أي الجبل)، وتورد الرجل القبر، وتُدخل الجمل القدر؛ إنها العين، و"العين حقّ، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين"، هذا ما قاله النبي –صلى الله عليه وسلم-.

فالعين عمل نفسي، وأثر قلبي، إنه كإشعاع غير مرئي ينتقل من قلب الحاسد أو من بصره إلى المحسود عند تحرق قلبه على هذا المحسود. وأمر العين مجرب محسوس، لا ينكره إلا معاند.

 

كنا نتحدث في ثلاث خطب سابقة عن سورة الفلق، وعرفنا بعض أسرارها وأهميتها، وعلمنا الحكمة بأن يأمرنا نبينا –صلى الله عليه وسلم- بقراءتها طوال اليوم أكثر من خمس عشرة مرة، وتحدثنا عن أهمية الاستعاذة من شر كل المخلوقات، ومن فتنة الليل، ومن فتنة السحرة والحساد. واليوم نقف عند آخر آية فيها، وهي أمره -سبحانه وتعالى- بالاستعاذة من العين، قال -تعالى-: (وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) [الفلق:5].

 
وموضوع العين موضوعٌ ذو شجون، فلا يخلو مجلس من المجالس إلا وقد تُحدث أو أسهب في قصص المصابين بالعين، فإن "العين حق"، كلمة قالها الصادق المصدوق –صلى الله عليه وسلم-.

فما خطر العين على المجتمع؟ إنه يبث الرعب وعدم الأمن في المجتمع، فلو افترضنا وجود عيّان في حارة ما، فهل تظنون أن أهل هذه الحارة سيعيشون باطمئنان؟ كلّا! بل سيبث هذا العيان الرعب في قلوب أفراد الحي كلهم إذ لن يأمنوا جانبه.

 
لقد حذر النبي –صلى الله عليه وسلم- من خطر العين، وأمر باتقائها، حتى أخبر –صلى الله عليه وسلم- أن قتلى العين من هذه الأمة كثير؛ حيث روى جابر بن عبد الله –رضي الله عنه- أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال: "أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء الله وقدره بالعين" رواه البزار والطيالسي وحسنه الألباني.

فإذا كان هذا هو عدد الموتى، فما بالكم بعدد المرضى والمصابين في حوادث وكوارث؟
وتأملوا كيف كان استعداد الدول للتصدي لإنفلونزا الخنازير على الرغم من قلة من أصيب به! فكيف إذا كان أكثر هذه الأمة يموت بالعين؟! وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "إن العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر"، وقال أيضا: "إن العين لتولع بالرجل -أي: تعلق بالرجل- بإذن الله حتى يصعد حالقا فيتردى منه" رواه أحمد. فما استعدادنا لاتقاء العين؟.

لقد حاول الكفار إصابة النبي –صلى الله عليه وسلم- بالعين، ولكن الله -تعالى- عصمه، فقد ذكر أهل التفسير سبب نزول الآية: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ) [القلم:51]، فقالوا: كان رجل من العرب يمكث يومين أو ثلاثة لا يأكل، ثم يرفع جانب خبائه فتمر به الإبل فيقول: لم أر كاليوم إبلا ولا غنما أحسن من هذه! فما تذهب إلا قليلا حتى يسقط منها طائفة، فسأل الكفار هذا الرجل أن يصيب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بالعين ويفعل به كفعله في غيره، فعصم الله -تعالى- نبيه وحفظه، وأنزل عليه: (وَإِن يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) [القلم:51].

لقد تباين حال الناس في التعامل مع العين، فمنهم من لم يبال بها، ومنهم من بالغ في الخوف منها وأصابه الوسواس في ذلك حتى نسب كل إخفاق أو فشل يصيبه إلى العين والى الناس الذين نضلوه، فبات يرمي أخطاءه على العين والحسد، ويشك في جميع من حوله أنهم سيحسدونه؛ فلا شك أن كلا الأمرين مذموم وخاطئ، والواجب على المسلم عدم التهوين ولا التهويل في خطر العين.

أما طرق العلاج: فينقسم إلى قسمين: الأول يكون بالوقاية منه قبل العلاج، ويكون أولا: بالحرص على قراءة المعوذتين خمس عشرة مرة في اليوم والليلة: مرة دبر كل صلاة، وثلاث مرات عند الصباح والمساء، وثلاث مرات عند النوم.

ثانيا: بتعويذ النفس أو الأولاد بالرقية الشرعية والأذكار الصباحية والمسائية، والتي منها ما   رواه ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي –صلى الله عليه وسلم- يعوذ الحسن والحسين: "أعيذكما بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة" رواه الترمذي وأبو داود. وما روته خولة بنت حكيم -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: "مَن نزل منزلا ثم قال: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق، لم يضره شيء حتى يرتحل من منزله ذلك" رواه مسلم.

 
ومن فعل هذه الأسباب فلا يخش عيّانا بعد ذلك، فإن عليه بعد ذلك أن ينسى هذا الموضوع ولا يعيره اهتماما ولا يفكر فيه، وليفرغ قلبه من هذا الأمر نهائيا، فلا يجعل ذلك همه ولا يلتفت إلى وساوس الشيطان، فإن نسيان هذا الأمر وعدم ملء القلب به هو من أقوى الأسباب على دفع شر العين، ودفع مرض الوساوس الزائدة من العين.

ثالثا: ومن وسائل اتقاء العين أيضا التبريك، وهو قولك: "اللهم بارك عليه"، للشيء تراه أو يذكر لك فيعجبك، فعن أبي إمامة بن سهل بن حنيف -رضي الله عنه- قال: اغتسل أبي: - أي سهل بن حنيف- بالخرار -وهو من أودية المدينة- فنزع جبّة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض، حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة عذراء! فوعك سهل مكانه، واشتدّ وعكه، فأُخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- بوعكه فقيل له: ما يرفع رأسه! فقال: "هل تتهمون له أحدا؟"، قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فتغيظ عليه فقال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا برّكتَ؟! اغتسل له"، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صُب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته. رواه أحمد والنسائي وابن ماجه.

 

فالشاهد من الحديث أمره –صلى الله عليه وسلم- أن يبرّك، فقال: "ألا بركت"، فالمطلوب أن تبرك على الشيء الذي يعجبك خشية أن تصيبه أو يصاب بالعين بأن تقول: اللهم بارك عليه.

 

ويمكن أن تقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله! امتثالا لقوله -تعالى-: (وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ) [الكهف:39].  

 
فينبغي للمسلم إذا رأى شيئا يعجبه أن لا يصف ولا يشبه، وإنما يبرك، فمن صفات العائن أنه يجيد عبارات الوصف وكلمات التشبيه؛ ولذا تجد على لسانه دائما: "هذا كأنه كذا"، "وهذا كأنه كذا"، وهذا يحدث كثيرا بين الأصدقاء والأقارب حينما يتمازحون فيما بينهم، وهذا خطأ؛ لأنه قد يصيب.

أما ما درج على لسان العوام من قولهم: "الله أكبر عليك"، أو قولهم: "صَلّ على النبي"، لرد ودفع شر العائن، فهذا كلّه لا أصل له ولا يصح، أو قول بعض العوام في بعض الدول: امسك الخشب، فكل هذه طرق غير شرعية للوقاية من الحسد أو العين.

بل إن بعض تلك الطرق تفضي إلى الشرك، كمثل الذين يعلقون التمائم والخرزات الزرقاء، أو صورة الكف ذي الخمسة أصابع وبداخله شكل العين، فكل هذه طرق شركية ابتدعها السحرة والكهنة وباعوها على زبائنهم، وقد قال –صلى الله عليه وسلم-: "من علق تميمة فقد أشرك".

 

وينبغي أن يُعلم أن العين إنسيّة وجنية، بمعنى أنها تصيب من الجنّ كما تصيب من الإنس، فعن أم سلمة -رضي الله عنها- أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال لجارية في بيتها رأى في وجهها سفعة: "بها نظرة، استرق لها" رواه البخاري ومسلم. والسفعة علامة من الشيطان، وقيل: ضربة واحدة منه. والمعنى كما جاء في شرح السنة: بها عين، أصابتها نظرة من الجن. "نعوذ بكلمات الله التامة، من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة".

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من البيان، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على النبي المجتبى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدا عبده ورسوله، صلى الله وعليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- حق التقوى، واتقوا العين، وبالغوا في اتقائها، ولا تبالغوا في الخوف منها.

 

واعلموا أن العائن قد يصيب أقرب الناس إليه من والد أو ولد وإن لم يقصد؛ ولذا يوصى المسلم عموما، والعائن خصوصا، بذكر الله والتبريك حينما يعجبه شيء، وتلك وصية من وصايا النبي –صلى الله عليه وسلم- حيث قال: "إذا رأى أحدكم من نفسه أو ماله أو من أخيه ما يعجبه فليدع له بالبركة؛ فإن العين حق" رواه أبو يعلى والطبراني وصححه الألباني.

بل إن الفرد قد ينضل نفسه دون أن يشعر، قال الغساني: نظر سليمان بن عبد الملك في المرآة فأعجبته نفسه فقال: كان محمد –صلى الله عليه وسلم- نبياً، وكان أبو بكر صديقاً، وعمر فاروقاً، وعثمان حبيباً، ومعاوية حليماً، ويزيد صبوراً، وعبد الملك سائساً، والوليد جباراً، وأنا الملك الشاب! فما دار عليه الشهر حتى مات.

ومن أصيب بالعين وعُرف العائن فيسن أن يُطلب منه الوضوء، ولا يحلّ لأحد أن يرفض الوضوء لو طُلب منه ذلك، لقوله -صلى الله عليه وسلم-: "العين حق، ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استُغسِلتم فاغسلوا" رواه مسلم.

وقد ذكرنا قصة إصابة سهل بن حنيف بالعين، وأن النبي -صلى الله عليه وسلم- سأل أهله: "هل تتهمون له أحدا"، قالوا: عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فتغيظ عليه فقال: "علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت، اغتسل له"، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح، ثم صُب عليه من ورائه، فبرأ سهل من ساعته.

فإن لم يُعرف العائن أو امتنع عن الاغتسال تكبرًا منه وظلمًا؛ فلا علاج إلا بالرقية الشرعية.

ولا يجوز الذهاب إلى السحرة والمشعوذين، أو تعليق التمائم.

نسأل الله -تعالى- أن يعصمنا من العين. نعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق وذرأ وبرأ، ومن شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها، ومن شر ما ذرأ في الأرض وبرأ، ومن شر ما يخرج منها، ومن شر فتن الليل والنهار، ومن شر كل طارق يطرقُ إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن.

اللهم...

 

 

المرفقات

وعبر من سورة الفلق (4) العين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات