عوائق طلب العلم الاشتغال بالدنيا وجمع المال

عبد الحليم توميات

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ نعم المال الصالح للرجل الصالح 2/ ذم المال والافتتان به 3/ مفاسد الحرص على المال 4/ فوائد القناعة 5/ الغنى غنى النّفس والسعي للآخرة 6/ أفضلية العلم على المال

اقتباس

حديثنا اليوم عن أمر عظيم، وخطر جسيم، حديثنا عن طوفان كبير كبير، وشرّ مستطير، حديثنا عن مفرّق الجماعات، وهادِم الأُسر والمجتمعات! فكم من أسرة قد فرّق شملها! وكم من جماعة قد شتّت جمعها! وكم من رحم من أجله قُطِعت! وكم من محبّة تلاشت وقُلِعت! كم أضلّ من القلوب! وكم جلب من الكروب! وكم...

 

 

الخطبة الأولى:

 

بعد الحمد والثّناء.

 

أمّا بعد:

 

عباد الله: فيتجدّد لقاؤنا معكم لنواصل الحديث عن بقيّة الأمور الّتي تصدّ عن طلب العلم وتحصيله، فقد ذكرنا إلى غاية الآن أهمّ ما يحول بين المسلمين وهذا الكنز الثّمين، ذكرنا قلّة الصّبر على طلبه، ثمّ الجهل بوجوبه، ثمّ ذكرنا الكبر والحياء، وقد قلنا فيما سبق: إنّ ما يقطع الطّريق عن الخير كثير لا يعدّ، ووفير لا يُحدّ، ولكنّنا نضع أيديَنا على أهمّها، ونذكّر أنفسنا ببيان أشهرها.

 

حديثنا اليوم عن أمر عظيم، وخطر جسيم، حديثنا عن طوفان كبير كبير، وشرّ مستطير، حديثنا عن مفرّق الجماعات، وهادِم الأُسر والمجتمعات، فكم من أسرة قد فرّق شملها، وكم من جماعة قد شتّت جمعها، وكم من رحم من أجله قُطِعت، وكم من محبّة تلاشت وقُلِعت، كم أضلّ من القلوب، وكم جلب من الكروب، وكم جرّ من الذّنوب، صنم هذا الزّمان، وسبب الشّقاء والحرمان، طريق مظلم بظلام آثاره، ومستنقع قذر بقذارة زوّاره.

 

حديثنا اليوم عن المفرّق بين الرّجال، ألا وهو الغلوّ في الاشتغال بجمع المال، وإنّما قلنا: الغلوّ؛ لأنّ الاشتغال بتحصيل القوت، والإنفاق في وجوه الخير هو عبادة من العبادات، وقربة من القربات.

 

فالمال ليس مذموما في نفسه، وشعار الإسلام الّذي لا يتغيّر هو جملة سهلة يسيرة حوت من المعاني الكثيرة، قاعدة تجمع كلّ الخير، وتدفع جميع الضّير، قوله صلّى الله عليه وسلّم لعمرو بن العاص -رَضي الله عنه-: "يَا عَمْرُو! نِعِمَ المَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ".

 

وميزان ذلك: أن يكون بقدر الحاجة، أمّا الغلوّ وصرف جلّ الأوقات في جمعه ورصدِه فذاك من المهلكات، ومن أعظم الموبقات.

 

وإنّ الّذي يُلقِي نظرة على النّصوص القرآنيّة، وما جاء في صحيح السنّة النّبويّة ليجد أنّ الله قد أكثر من الحثّ على الزّهد والقناعة، وعلى الخروج من نعيم الدّنيا وحطامها، وزخرفها وركامها، ونصوص أخرى فيها ذمّ شديد للمال والمسارعة إليه، وتذمّ جمعه والعكوف عليه، وذلك لسببين:

 

الأوّل: لأنّ النّفوس جبلت على طلب المال والسّعي إليه في كلّ حال، كما قال تعالى: (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ) [آل عمران: 14]، وقال: (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) [الكهف: 46].

 

الثّاني: زيادة على الدّاعي النّفسيّ فإنّ هناك الدّاعي الشّيطانيّ الّذي يثير النّفس على السّعي والكدّ إلى حدّ الخروج عن الحقّ، وقد جاء في كلام الحقّ: (أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمْ المَقَابِرَ) [التكاثر: 1 - 2].

 

ولا شكّ أنّه يحصل من اجتماع هذين الدّاعيين تكالب الأمّة على المال، والافتتان به، فاكتفت الشّريعة بما في النّفس من الباعث على تحصيل المال دون أن تكثر من الحضّ على السّعي إليه، وكما يقال في الحكمة: "لا توصِ حريصا"؛ لذلك جاءت نصوص تبيّن أنّ المال يُلهِي المسلم عن كثير من الخير، ومن جملة ذلك: العلم، فأردت أن أجعل لقاءنا اليوم نقاطا هادفة، وإشارات خاطفة، تذكّرنا بوجوب السّعي لجمع العلم كسعينا لجمع المال:

 

أوّلا: تذكّر أنّ المال فتنة روى أحمد والتّرمذي عَنْ كَعْبِ بْنِ عِيَاضٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُولُ: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وَفِتْنَةُ أُمَّتِي الْمَالُ"، "فتنة" أي اختبار من الله الواحد القهّار، فمن أحسن استعماله فلم يلْهِهِ عن الواجبات، ولم يُوقِعْه في المحرّمات فذاك المأجور المحمود، ومن ألهاه عن الصّلاة والزّكاة وطلب العلم فذاك معاقب منبوذ، ولقد جاء في مسند الإمام أحمد عَنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ -رَضي الله عنه- قَالَ: "كُنَّا نَأْتِي النَّبِيَّ -صلّى الله عليه وسلّم- إِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ، فَيُحَدِّثُنَا، فَقَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَالَ: "إِنَّا أَنْزَلْنَا الْمَالَ لِإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادٍ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِ ثَانٍ، وَلَوْ كَانَ لَهُ وَادِيَانِ لَأَحَبَّ أَنْ يَكُونَ إِلَيْهِمَا ثَالِثٌ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ"، وقال الحسن البصريّ -رحمه الله-: "إنّ لكلّ أمّة وثنا يعبد، ووثن هذه الأمّة الدّرهم والدّينار" فكم من متكاسل عن الصّلاة من أجل المال، ومن قاطع للرّحم من أجل المال، ومن آكل للحرام ومن مسيء للجوار من أجل المال، وكم من هاجر للقرآن والعلم وذكر الرّحمن من أجل المال؟! قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ) [المنافقون: 9].

 

وما ترك المنافقون الخروج مع النّبي -صلّى الله عليه وسلّم- للجهاد - ومنه العلم كما سبق بيانه- إلاّ لانشغالهم بذلك، فقال تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا) [الفتح: 11].

 

وهنا تنبيه لطيف جدّا، فإنّ الله -تعالى- قد نهى على لسان رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- عن التشدّد في الدّين، وحملِ النّفس على مجاوزة الحدّ في العبادة، والنّصوص في ذلك كثيرة جدّا؛ ففي الصّحيحين يوم نهى عبدَ اللهِ بنَ عمرو -رَضي الله عنه- عن صيام الدّهر، وقيام اللّيل كلّه قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: "فَلَا تَفْعَلْ! صُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ، فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا"، فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ -رَضي الله عنه- يَقُولُ بَعْدَ مَا كَبِرَ: "يَا لَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم-!"، فانظر -رحمني الله وإيّاك- أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- ينهاه عن الإكثار ومجاوزة الحدّ الوسط من العبادة لئلاّ يهمل حقوقا متعلّقة بنفسه وزوجه وزَوْرِه، فكيف يحقّ للعبد أن يضيّع هذه الحقوق وأعظمها حقّ الله -تعالى- بمجاوزة الحدّ في طلب الدّنيا.

 

ثانيا: أنّ الغلوّ في طلب المال يقود حتما -دون أن تشعر- إلى المحرّمات، لذلك كان المال ممّا أقلق النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-؛ روى البخاري ومسلم عَنْ عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ -رَضي الله عنه- أنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "وَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ".

 

نعم، فإنّه يوم كنّا في ضِيقٍ أو وسط من العيش كانت القلوب مقبلة على الله، وعلى طلب العلم بالله، الطّمأنينة تحدونا، والسّكينة تقودنا، ويوم فُتِحت الدّنيا أغلقت عنّا كثير من أبواب الخيرات، وشلّت جوارحنا عن كثير من الصّالحات، وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رَضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- أَنَّهُ قَالَ: "إِذَا فُتِحَتْ عَلَيْكُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ أَيُّ قَوْمٍ أَنْتُمْ؟" قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ -رَضي الله عنه-: "نَقُولُ كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ، تَتَنَافَسُونَ، ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ، ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ، ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ"، وروى التّرمذي عَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ" المعنى: إنّ حرص المرء على المال والرّياسة والزّعامة أكثرُ فسادا لدينه من الذّئبين للغنم، فشبّه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الحرص على المال والشّرف بالذّئبين الجائعين، وشبّه الدّين بالغنم لما فيها من الخير والبركة، ولأنّ الدّين شعب، فكلّ شعبة من شعبه تشبه غنمة، فالذّئبان الجائعان إذا أرسلا في جماعة من الغنم لن يُفسدا أكثر وأعظم من إفساد الحرص على المال والجاه للدّين، بل إفساد الحرص لدين المرء أشدّ من إفساد الذّئبين الجائعين لجماعة من الغنم إذا أرسلا فيها.

 

وقد أخبر الله -تعالى- عن الّذي يؤتى كتابه بشماله أنّه يقول: (مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ) [الحاقة: 28 - 29]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: "غاية مريد الرّياسة أن يكون كفرعون، وجامعُ المال أن يكون كقارون".

 

ثالثا: تذكّر أنّ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- دعا على العاكف على جمع المال؛ روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ، إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ".

 

رابعا: أنّ القناعة من أسباب الفلاح؛ فقد روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو -رَضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافًا، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ" الكفاف من الرزق ما كفا عن السّؤال مع القناعة، لا يزيد على قدر الحاجة، وذلك لأنّ الّذي يسعى لتحصيل الزّائد عن الحاجة معرّض لأمور ثلاثة: جمعه حساب، وإمساكه عن الواجب عقاب، وتقصيره في المستحبّ نقص في الثّواب، لذلك.

 

خامسا: أنّ القناعة من أسباب السّعادة في الدّنيا والآخرة، روى التّرمذي والحاكم وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ -رَضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُولُ: "طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ لِلإِسْلاَمِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافًا، وَقَنَعَ".

 

أمّا السّعادة في الدّنيا فلأنّه لا يغتمّ لما يراه في أيدي النّاس، قال الترمذي: "وَيُرْوَى عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ قَالَ: "صَحِبْتُ الْأَغْنِيَاءَ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا أَكْبَرَ هَمًّا مِنِّي، أَرَى دَابَّةً خَيْرًا مِنْ دَابَّتِي، وَثَوْبًا خَيْرًا مِنْ ثَوْبِي، وَصَحِبْتُ الْفُقَرَاءَ فَاسْتَرَحْتُ"، ولا يزال العبد مستمسكا بهذه الصّفة، حتّى يصل العبد بذلك إلى أرقى المنازل والدّرجات، ألا وهي الرّضا عن ربّ الأرض والسّموات.

 

والرّضا ثمرة من ثمار محبّة الله -تعالى-، وهو من أعلى مقامات المقرّبين، ومستراح الصّالحين، وجنّة في الدّنيا للعابدين، وحقيقته غابت عن الأكثرين، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) [النّحل: 97]، قال عمرو بن أسلم العابد -رحمه الله تعالى-: "سمعت أبا معاوية الأسود يقول في قوله تعالى: (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً)، قال: الرّضا والقناعة"، وصدق ميمون بن مهران حين قال: "من لم يرض بالقضاء فليس لحمقه دواء".

 

وما أعظم الحديث الّذي رواه التّرمذي عن عبد الله بن محصن الخطمي -رَضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قال: "مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي بَدَنِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا"، "في سربه" بكسر السّين المهملة، أي في نفسه.

 

ولله درّ القائل:

 

العبد ذو ضجر والرّب ذو قدر *** والدّهر ذو دُوَل والرّزق مقسوم

والخير أجمع فيما اختار خالقنا *** وفي اختيار سواه اللّوم والشّوم

 

وقال أبو ذؤيب الهذليّ:

 

والنفس راغبة إذا رغّبتها *** وإذا تردّ إلى قليل تقنع

 

وقال آخر:

 

كن بما أوتيته مقتنعا *** تقتني عيش القنوع المكتفي

كسراج دهنه قوت له *** فإذا غرّقته فيه طفي

 

ويقابل الرّضا السّخط، باب الهمّ والحزن، وبركة الضّنك والعفن، سبب شتات القلب وكسف البال، ومولّد الكرب وسوء الحال.

 

 

الخطبة الثّانية:

 

سادسا: عليك بالدّعاء بأن يرزقك الله القناعة، فمن أراد أن يحوز على هذه الغنيمة فما عليه إلاّ أن يوطّن نفسه على القناعة، ويتحرّى أسبابها، ويقف عند عتبتها حتّى يلج بابها، سائلا المولى -تبارك وتعالى- ما سأله نبيّنا -صلّى الله عليه وسلّم-: "اللَّهُمَّ أَسْأَلُكَ الْقَصْدَ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى، وَأَسْأَلُكَ نَعِيمًا لَا يَنْفَدُ، وَأَسْأَلُكَ قُرَّةَ عَيْنٍ لَا تَنْقَطِعُ، وَأَسْأَلُكَ الرِّضَاءَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَأَسْأَلُكَ بَرْدَ الْعَيْشِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ، وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ، فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ، وَلَا فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ، اللَّهُمَّ زَيِّنَّا بِزِينَةِ الْإِيمَانِ، وَاجْعَلْنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ"، وروى مسلم عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -رَضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- يَقُول: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا".

 

سابعا: أن يتذكّر أنّ الغنى غنى النّفس، جاء في صحيح البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ -ما ينتفع به من متاع الدنيا- وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ"، ومثله ما رواه ابن حبّان في صحيحه عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "يَا أَبَا ذَرٍّ! أَتَرَى كَثْرَةَ المَالِ هُوَ الغِنَى؟" قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: "أَفَتَرَى قِلَّةَ المَالِ هُوَ الفَقْرَ؟" قُلْتُ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ صلّى الله عليه وسلّم: "إِنَّمَا الغِنَى غِنَى القَلْبِ، وَالفَقْرَ فَقْرُ القَلْبِ"، لذلك قال العلماء: إنّ الغنى في قوله: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) [الضحى: 8]، يتنزّل على غنى النّفس، فإنّ الآية مكّية، ولا يخفى ما كان فيه النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قبل أن تفتح عليه خيبر وغيرها من قلّة المال -والله أعلم-، وقال سفيان الثّوري: "سمعت المفسّرين من كلّ جانب يقولون في قوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى) [النجم: 48] أي أرضى، قال سفيان: "لا يكون غنيّا أبدا حتّى يرضى بما قسم الله له، فذاك الغنى"، وعن أبي عمرو الشيباني قال: سأل موسى ربّه -عزّ وجلّ- فقال: "أي ربّ! أيّ عبادك أحبّ إليك؟" قال: "أكثرهم لي ذكرا"، قال: "يا ربّ! فأيّ عبادك أغنى؟" قال: "أقنعهم بما أعطيته".

 

ومن أحسن ما قيل في هذا المعنى، قول الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "إنّما الفقر والغنى بعد العرض على الله".

 

ثامنا: أن يتذكّر أنّ الله يعامله بنقيض قصده، فقد روى البزّار والطّبراني عَنْ أَنَسٍ -رَضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هِمَّتَهُ وَسَدَمَهُ -النّدم والحزن، والهمّ- وَلَهَا شَخَصَ وَإِيَّاهَا يَنْوِي، جَعَلَ اللهُ الفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْهَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ مِنْهَا، وَمَنْ كَانَتْ الآخِرَةُ هِمَّتَهُ وَسَدَمَهُ وَلَهَا شَخَصَ وَإِيَّاهَا يَنْوِي، جَعَلَ الله الغِنَى فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ عَلَيْهِ ضَيْعَتَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ صَاغِرَةٌ"، روى الإمام أحمد في الزّهد عن الحسن -رحمه الله- قال: "محبّ الدّنيا لا ينفكّ من ثلاث: همّ لازم، وتعب دائم، وحسرة لا تنقضي".

 

قال الشّافعي -رحمه الله-:

 

كدود كدودِ القزِّ ينسج دائما *** ويهلك موتا بالّذي هو ناسج

 

ومن أعظم الأحاديث في هذا المعنى ما رواه الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- يَقُولُ: "يَا ابْنَ آدَمَ تَفَرَّغْ لِعِبَادَتِي أَمْلَأْ صَدْرَكَ غِنًى، وَأَسُدَّ فَقْرَكَ، وَإِلَّا تَفْعَلْ مَلَأْتُ يَدَيْكَ شُغْلًا، وَلَمْ أَسُدَّ فَقْرَكَ"، وفي سنن التّرمذي عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رَضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلّى الله عليه وسلّم- قَالَ لَهُ: "إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ " فَقَرَأَ عَلَيْهِ -وكان قرآنا ثمّ نسخ لفظه كما هو معلوم-: (لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) فَقَرَأَ فِيهَا: "إِنَّ ذَاتَ الدِّينِ عِنْدَ اللَّهِ الْحَنِيفِيَّةُ الْمُسْلِمَةُ لَا الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ مَنْ يَعْمَلْ خَيْرًا فَلَنْ يُكْفَرَهُ"، وَقَرَأَ عَلَيْهِ: "وَلَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَانِيًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَانِيًا لَابْتَغَى إِلَيْهِ ثَالِثًا، وَلَا يَمْلَأ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ".

 

فاعلم أنّه لا بدّ من أن يكون المسلم مثالا للسّلوك الحسن والانتظام، فلا يجمع الدّنيا على حساب الدّين، ولا يضيّع دنياه من أجل تعلّم الدّين، فشعار المسلم ودثاره: "أَعْطِ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ".

 

وإنّ الّذي يشتغل بالمال على حساب العلم قد انحرف عن جادّة الصّواب، ذلك لأنّ مال الدّنيا كلّه لا يساوي العلم بالله وبسنّة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-، قال عليّ -رَضي الله عنه-: "العلم خير من المال، العلم يحرسك، وأنت تحرس المال".

 

ومن كلام العلماء:

 

- العلم ميراث الأنبياء، والمال ميراث الملوك والأغنياء.

- المال إذا مات جامعه فارقه، وعلمه لا يفارقه.

- العلم حاكم على المال، والمال لا يحكم على العلم.

- المال يؤتاه المؤمن والكافر، والبرّ والفاجر، والعلم لا يؤتاه إلاّ المؤمن.

- المال يدعو النّفس إلى الطّغيان، والعلم يدعوها إلى الإحسان.

 

لئن رفع الغنيّ لواء مال *** لأنت لواء علمك قد رفعتا

وإن جلس الغنى على الحشايا *** لأنت على الكواكب قد جلستا

وإن ركب الجياد مسوّمات *** لأنت مناهج التّقوى ركبتا

هو العَضْب المهنّد ليس ينبو *** تصيب به مقاتل من ضربتا

وكنز لا تخاف عليه لصّا *** خفيف الحمل يوجد حيث كنتا

يزيد بكثرة الإنفاق منه *** وينقص إن به كفّاً شددتا

وليس لجاهل في الناس معنى *** ولو ملك العراق له تأتّى

وما يغنيك تشييد المباني *** إذا بالجهل نفسك قد هدمتا

جعلت المال فوق العلم جهلا *** لعمرك في القضية ما عدلتا

وبينهما بنص الوحي بون  *** ستعلمه إذا "طه" قرأتا

 

هذا والله الموفّق لا ربّ سواه.

 

 

المرفقات

طلب العلم الاشتغال بالدنيا وجمع المال

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات