رسالة الإصلاح في زمن الغربة

عبد الحليم توميات

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:
عناصر الخطبة
1/ إخبار النبي -صلى الله عليه وسلمَ- بغربة الإسلام 2/ غربة الإسلام والمسلمين عند البعثة 3/ نكبات وهجمات تعرض لها المسلمين عبر التاريخ 4/ أصناف الناس أمام غربة الإسلام والمسلمين 5/ سبل الإصلاح ومعالمه

اقتباس

كم غيّرت الأمّة وبدّلت! وفي جميع جوانب الحياة لشرع الله تنكّرت! استبدلت بالبعير بعرا، وبالثّريا ثرى! وبالرّحيق حريقا مدمّرا! وظنّت هذه الأمّة المسكينة أنّها إذا التصقت بذيل الأمم المزيّفة، واتّبعت شعاراتها المحرّفة؛ ظنّت أنّها ركبت قوارب النّجاة، ولكن...

 

 

الخطبة الأولى:

 

بعد الحمد والثّناء.

 

أهلا وسهلا  بالّذين أودّهم *** وأحبّهم في الله ذي الآلاء

أهلا بقومٍ صالحين ذوي تُقى *** غرّ الوجوه وزين كلّ ملاء

يسعون في طلب العلوم  بعفّةٍ *** وتوقّر وسكينة وحياء

يا طالبي علم النبيّ محمّد *** ما أنتم وسواكم  بسواء

 

أمّا بعد:

 

فقد روى مسلم في "صحيحه" عن أبِي هريرَةَ -رَضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "بَدَأَ الْإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ".

 

وجاء وصف هؤلاء الغرباء في بعض الرّوايات أنّهم: "الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي".

 

"بدأ الإسلام غريبا" فقبل البعثة حدثت فترةٌ من الرّسالة -والفترة هي الانقطاع-، لم يُسبق وأن حدثت من قبل، فقد دامت ستّة قرون كاملة، قال تعالى: (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [المائدة: 19].

 

في تلك المرحلة كان يسود العالم دولتان عظيمتان: فارس والرّوم، ومن ورائهما اليونان والهند.

 

أمّا فارس؛ فقد كانت حقلا لوساوس دينيّة فلسفيّة، شاع فيها مذهب زرادشت ومزدك وغيرها، ممّا جعلها تتخبّط في صراعات دينيّة ما لها من زوال.

 

وأمّا الرّومان؛ فقد كانت تسيطر عليهم الرّوح الاستعماريّة، وكانت منهمكة في خلاف عريض بين نصارى الشّام ونصارى مصر، وسادها الانحلال الخلقيّ والظّلم من جرّاء الإتاوات ومضاعفة الضّرائب.

 

أمّا اليونان؛ فكانت غارقة في هوس عريض، وخرافات وأساطير كلاميّة لم تجنِ منها شيئا.

 

أمّا الهند؛ فقد أجمع المؤرّخون أنّها كانت في أحطّ أدوارها دينيّا وخلقيّا واجتماعيّا.

 

والقدر المشترك بين هذه الدّول هو أنّها كانت تتزعّم الحضارة المدنيّة القائمة على أُسُسٍ مادّية لا تمتّ إلى القيم الأخلاقيّة بصلة.

 

أمّا العرب؛ فهم وإن كانوا بعيدين كلّ البُعد عن التّرف الّذي يقودُهم إلى انحلال الرّوم والفرس، وإن لم يكونوا على دراية بفلسفات اليونان، وإن لم يكونوا أصحاب طغيان عسكريّ يفتح لهم شهيّة الاعتداء والاستبداد بغيرهم، وإن كانوا تابعين لفارس والرّوم.

 

ولكنّهم كانوا يتخبّطون في ضلال عقديّ مبين تدعو الفطرة نفسها إلى نبذه وطرحه!

 

فعندئذ كان لا بدّ من أن إصلاح حال البشريّة، وأن تعُود إلى صراط الله ربّ البريّة.

 

ووسْطَ هذا الظّلام الحالك، وفي قلب هذه المهالك؛ يبعث الله -تعالى- أفضل خلقه، وخيرة عباده يخاطبه وهو تحت دثارِه قائلا: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ) [المدثّر: 1 - 2].

 

ويأمره بتبليغ كلمة الله -عزّ وجلّ-: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) [المائدة: 67].

 

الأرضُ تضرَع للسّما *** تهفو إلى أسمى  لقا

بشراك أحمد واستلم *** فبس النبوّة مشرقا

سألت نِياق الحيّ عن أكرم الورى قالت نبيّ بين البرايا معظّما

فقلت لها يا نوق هل تعرفين مقام محمّد قالت بطيبة مقاما مسلّما

فقلت لها يا نوق هل نبع الزّلال من كفّه قالت وقد أروى الجيوش من الظّما

فقلت لها يا نوق هذا محمّد قالت وقد صلّى عليه الله وسلّما

 

فزالت الغربة، وانكشفت الكربة، وجاء الحقّ، وزهق الباطل، وعلَت راية الإسلام، وتبدّدت سحب الظّلام، ولكنّ الأيّامَ دولٌ، والحرب سِجال، ويوم لك ويوم عليك؛ لذلك قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "وسيعودُ غريبا كما بدأ".

 

فقد ابتُليت هذه الأمّة بأزمات عظيمة، ونكبات أليمة، على طول تاريخها، مرورا بأحداث الرّدة السّاخنة، والفتن الدّاخليّة الطّاحنة، ثمّ الهجمات التّتريّة الغاشمة، والحروب الصّليبية الظّالمة، ولكنّ الأمّة مع كلّ ذلك كانت تمتلك مقوّمات النّصر: إيمان صادق، وثقة مطلقة بالله، واعتزاز بهذا الدّين، فكتب الله لهم النّصر والعزّة والتّمكين.

 

ولكنّ واقع الأمّة اليوم، واقع أليم، وخطبها خطب جسيم، انحرفت انحرافا مروّعا عن منهج ربّ العالمين، وسبيل سيّد المرسلين.

 

فما كان من الله إلاّ أن أمضى سنّته الكونيّة على أنّ الذلّ والصّغار على من خالف أمره، وأوغر بالتكبّر صدرَه، وهذه السّنن لا تعرف المحاباة ولا المجاملة، والقرآن يصدع بذلك، لا يزيغ عنه إلاّ هالك، فقد قال تعالى: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران: 165]، وقال: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ) [الرعد: 11].

 

وكم غيّرت الأمّة وبدّلت! وفي جميع جوانب الحياة لشرع الله تنكّرت! استبدلت بالبعير بعرا، وبالثّريا ثرى، وبالرّحيق حريقا مدمّرا! وظنّت هذه الأمّة المسكينة أنّها إذا التصقت بذيل الأمم المزيّفة، واتّبعت شعاراتها المحرّفة، ظنّت أنّها ركبت قوارب النّجاة، ولكن هيهات هيهات! إنّها غرقت وأغرقت، وهلكت وأهلكت.

 

الخطب خطب فادح *** والعيب عيب فاضح

وعارنا في النّاس  لا *** تحمله النّواضح

 

وتأمّلوا كلمة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-: "وسيعودُ غريبا كما بدأ"، فقدّم البُشرَى قبل أن يُخبر بغربة الدّين، ولم يقل: وسيُصبح غريبا! بل قال: "وسيعود غريبا كما بدأ".

 

وأحوال النّاس أمام هذه الغربة ثلاثة:

 

صنفٌ لم يزوّد نفسَه لا بالعلم الناّفع ولا العمل الصّالح، فجاءت أمواج الفتن فأخذته، فصار هو نفسه طعنةً في جسد أمّته.

 

وصنف لا يزال صابرا أمام عواصفها، لكنّه يبكي لحاله، لا يعلم أين المفرّ للحفاظ على رأس ماله، وغفل أنّ الوقت ليس وقت بكاء ونواح.

 

وصنف لا يهتزّ لما يرى إلاّ للتّغيير، والدّعوة إلى صراط العليّ القدير، يدرك أنّ ما يراه هو وعد الله ورسوله وصدق الله ورسوله.

 

هؤلاء هم الغرباء، الّذين وصفهم النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- بقوله: "فطُوبَى للغُرباءِ".

 

وما هي صفتهم؟ وما خبرهم؟ قال: "الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْ سُنَّتِي".

 

الّذين رفعوا شعار الأنبياء كما في قوله تعالى عن شعيب -عليه السّلام-: (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود: 88].

 

الّذين مدحهم المولى بقوله: (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) [الأعراف: 170].

 

ولا سبيل إلى الإصلاح إلاّ بإصلاح الأنفس وتزكيتها: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا) [الشمس:  9 - 10].

 

وأوّل سبل الإصلاح:

 

1- الاعتصام بكتاب الله -عزّ وجلّ- وبسنّة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم-.

 

شعوبك في شرق البلاد وغربها *** كأصحاب  كهف في عميق سُبات

بأيمانهم نوران ذكر وسنّة *** فما بالنا في حالك الظّلمات

 

قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 100 - 101] فكأنّ الله -تعالى- يقول: مهما كان مكر الكافرين الذي تزول منه الجبال، فإنّ إيمانكم لا يمكن أن يزول ما أقمتم على تلاوة الوحي كتابا وسنّة، ومصداق ذلك أيضا قوله -صلّى الله عليه وسلّم-: "تَرَكْتُ فِيكُمْ أَمْرَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا كِتَابَ اللَّهِ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ" [رواه الحاكم والإمام مالك]، وروى البخاري ومسلم عن أبي بكر -رضي َالله عنه- قال: "لست تاركا شيئا كان يعمل به رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- إلاّ عملت به، فإنّي أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ!".

 

ولماّ كان الرّسل أتبع الخلق للوحي اقترن بهم تأييد الله؛ كما قال تعالى: (كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ) [المجادلة: 21]، وقال: (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ) [الصافات: 171 - 173]، وقال: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر: 51]، وهذا الوعد ضمنه الله -تعالى- لأتباع الرّسل، قال الله لموسى وهارون: (أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ) [القصص: 35].

 

وقال لعيسى -عليه السّلام-: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [آل عمران: 55].

 

وقال للنبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال: 64] أي إنّ الله كافيك وكافي الذين اتبعوك.

 

ومن أعجب الأحاديث ما رواه التّرمذي بسند صحيح عن ابن مسعود -رَضي الله عنه- قال: "صلّى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- العشاء، ثمّ انصرف فأخذ بيدي حتّى خرج إلى بطحاء مكّة، فأجلسني، ثمّ خطّ عليّ خطّاً وقال: "لاَ تَبْرَحَنَّ خَطَّكَ؛ فَإِنَّهُ سَيَنْتَهِي إِلَيْكَ رِجَالٌ، فَلاَ تُكَلِّمْهُمْ، فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَلِّمُونَكَ" قال: ثمّ مضى حيث أراد، فبينما أنا جالس في خطّي إذ أتاني رجال كأنّهم الزّطّ -قوم من السّودان أو الحبشة، شبّههم بهم لسوادهم وهيئتهم- في أشعارهم وأجسامهم، لا أرى عورةً ولا أرى قِشراً، فانتهوا إليّ لا يجاوزون الخطّ! ثمّ انصرفوا.

 

فتأمّلوا -إخوتي الكرام- هذه القصّة العجيبة؛ فإنّ استجابة عبدِ الله بن مسعود -رَضي الله عنه- لأمرِ النبيِّ -صلّى الله عليه وسلّم- بلزوم مكانه دفعت عنه شرَّ قومٍ جاؤوه في أبشعِ صورة! ولم يكن بينه وبينهم إلاّ خطّ لو جاءت عليه الرّيح لمحت أثره! لكنّه خطّ لا كسائر الخطوط، إنّه خطّ السنّة: من لزمه كفاه.

 

ورحم الله الإمام الشّاطبيّ المالكيّ القائل: "واعلم أنّ الهلاك في اتّباع السنّة هو النّجاة".

 

فنسأل الله -عزّ وجلّ- أن يوفّقنا لاتّباع كتابه وسنّة نبيّه، وأن يهدينا سبل السّلام، إنّه يهدي من يشاء بإذنه إلى صراط مستقيم.

 

 

الخطبة الثّانية:

 

الحمد لله على إحسانه، وجزيل نِعمه وعظيم امتنانه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له تعظيما لشانِه، وأشهد أنّ محمّدا عبدُه ورسوله الدّاعي إلى سبيله ورضوانِه، اللهمّ صلِّ عليه وسلِّم وبارك عليه وعلى أصحابه وآلِه، وعلى كلّ من اتّبع سبيلَه وسار على منوالِه.

 

أمّا بعد:

 

ومن معالم الإصلاح:

 

2- الالتزام بجماعة المسلمين، واعتزال أسباب الفرقة؛ فإنّ الإسلامَ ما حرَص على شيءٍ بعد كلمة التّوحيد، كما حرَص على توحيد الكلمة؛ ذلك ليكونَ المسلم حقّا من أهل السنّة والجماعة، لا من أهل البدعة والفُرقة، وقد قال الله -تعالى- بعد أن أوصانا باتّباع كتابه وسنّة نبيّه -صلّى الله عليه وسلّم-: (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) [آل عمران: 101] حتّى قال: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران: 103]، ثمّ قال: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) [آل عمران: 105- 106]، قال ابن عبّاس -رضي الله عنهما-: "تبيضّ وجوه أهل السنّة والائتلاف، وتسودّ وجوه أهل الفُرقة والاختلاف".

 

بل إنّ الاجتماع والائتلاف ونبذ الفرقة والاختلاف وصيّة الله لجميع الرّسل، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13].

 

وجعل الله -تعالى- هذه الفُرقة من أعظم أسباب الفشل وذهاب القُوّة، فقال عزّ وجلّ: (وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) [الأنفال: 46]، فالتفرّق والاختلاف أعظم ما يفرح به أعداء الله -تعالى-؛ لأنّ المسلمين باجتماعهم وتراحمهم كالحزمة من الحطب لا يستطيع أحد كسرها، فإذا فُرّقت عن بعضها كُسِرت.

 

وواجب المسلم عند تفرّق النّاس أن يلزم جماعة المسلمين الأصل، وعلى رأسها ما عليه أئمّتهم وعلماؤهم، ويعتزل كلّ من دعا إلى غير دعوتهم، وليضع نُصب عينيه وصيّة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- لأصحابه؛ فقد روى الترمذي عن عقْبةَ بنِ عامرٍ قال: قلت: يا رسُولَ اللهِ! مَا النَّجَاةُ؟ قال: "أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ".

 

واحذر أن تكون من الّذين يسعَوْن في الفتنة، فإنّك تزيد النّار نارا، والأمر خسارا، ولا يمكن أن تنجُو من حبائلها؛ فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ -رَضي الله عنه- قال: قال رسولُ اللهِ -صلّى الله عليه وسلّم-: "سَتَكُونُ فِتَنٌ الْقَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْقَائِمِ، وَالْقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْمَاشِي، وَالْمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنْ السَّاعِي، وَمَنْ يُشْرِفْ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، وَمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ".

 

فالجماعة رحمة، والفرقة عذاب، والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها:

 

كن حلس بيتك إن سمعت بفتنة *** وتوقّ كلّ منافق فتّان

جمل زمانك بالسّكوت فإنّه *** زين الحليم وسترة الحيران

لا تشغلنّ بعيب غيرك غافلا *** عن عيب نفسك إنّه عيبان

 

3- العمل الدّعوي، فالعمل لهذا الدّين مسؤوليّة الجميع، فالدّعوة ليست من واجب الدّعاة فحسب، فقد قال النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم-: "بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً"، "بلِّغوا" تكليف، و"عنّي" تشريف، و"لو آية" تخفيف.

 

وتأمّلوا قصّة أصحاب القرية في سورة " يس"، الّذين أرسل الله إليهم رسلاً ثلاثة! فكُذِّبوا، ولم يمنع وجودُهم من أن يأتِي ذلك المؤمن الّذي قصّ الله علينا خبره قائلا: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ) [يس: 20 - 25].

 

بل ظلّ يحبّ الخير لقومه: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) [يــس: 26 - 27].

 

الشّاهد: أنّه لم يمنعه وجود ثلاثة من الرّسل من أن يكون داعيةً هو الآخر لله -تعالى-.

 

فاللهمّ أنت أصلحت الصّالحين، فأصلح قلوبنا، وأعلِ هممنا، واجعلنا كما تريد لا كما نريد، واجعل أنفاسنا وحركاتنا وسكناتنا وقفا عليك، وخذ بأيدينا إليك.

 

يا نفسُ سحّي  أبدا *** يا نفسُ موتي كمدا

ولا تُحبّي أبدا *** إلاّ الجليل الصّمدا

 

 

المرفقات

الإصلاح في زمن الغربة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات