التحذير من المجاهرة بالمعاصي, ومقارنة بين زمننا وزمن أجدادنا

الشيخ أحمد بن ناصر الطيار

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ ضوابط الاختلاف في الرأي والحرية الشخصية 2/ ذم الدعوى إلى الحرية على إطلاقها 3/ أهمية وجود دُعاةِ النصح والخير والصلاح 4/ مقارنة بين حالنا وحال أجدادنا 5/ وجوب شكر نعم الله وعدم المجاهرة بالمعاصي.

اقتباس

إذا كانتْ قوانينُ البشر لا يُسمح بتجاوزها ومُخالفتها, وكثيرٌ منها يشوبها الظلم والخطأ, فكيف يُسمح بتجاوز أعظم وأشرف وأصح نظامٍ في الكون, وهو النظام الذي وضعه خالق العباد؟ إنّ دعوى الحرية على إطلاقها: دعوى تحمل في طياتها الانحلالَ والخراب, وتُشَرِّعُ الفسادَ الأخلاقيَّ والعقائديّ والأمنيّ.. ولكن حينما يُجاهِر العاصي بمعصيته, فقد أضر بالآخرين, حيث يُجرئ الناس على التمرد على القيم النبيلة, ويُحرض الناس على الاقتداء به وبأمثاله الفاسدين..

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي بعث في رأس كلِّ مائةِ سنةٍ مَن يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وأقام في كل عصر مَن يحوط هذه الأمة بتشييد أركانها.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, شهادةً يُزيح ظلامَ الشكوك صُبْحُ يقينها، وأشهدُ أنَّ سيدنا محمدًا عبده ورسوله, المبعوثُ لرفع كلمة الإسلام وتشييدها، وخفضِ كلمة الكفر وتهوينها وتوهينها، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه ليوثِ الغابةِ وأُسْدِ عرينها, وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعد: معاشر المسلمين: إنَّ الاختلاف الحاصلَ بين الناس أمرٌ جُبلوا عليه, ولا يُمكن أنْ يستقيم الدين ولا الدنيا بدونِه.

 

ولكنْ ثمَّةَ أمورٌ, اتفق البشر على عدم السماح بالخلاف فيها, ولا يُسمح فيها بوجهات النظر, كالمخدرات والعنصرية والإرهاب والرشاوى ونحوها.

وقضية الحرية وما يُراد من طرحها, لا تُقرها على إطلاقها كلُّ دول العالم, فلا يَسْمَح أحدٌ بالحرية في مُخالفة الأنظمة والقوانين البشريّة.

ولذلك سعت كلّ الدول إلى وضع أنظمةٍ تُحرمُ على الناس تجاوزها, وتُعاقب أشد العقوبة من يُخلّ بها.

 

فإذا كانتْ قوانينُ البشر لا يُسمح بتجاوزها ومُخالفتها, وكثيرٌ منها يشوبها الظلم والخطأ, فكيف يُسمح بتجاوز أعظم وأشرف وأصح نظامٍ في الكون, وهو النظام الذي وضعه خالق العباد؟

إنّ دعوى الحرية على إطلاقها: دعوى تحمل في طياتها الانحلالَ والخراب, وتُشَرِّعُ الفسادَ الأخلاقيَّ والعقائديّ والأمنيّ.

 

والحرية كما في القوانين الغربية: هي قدرة الإنسان على إتيان كل عمل لا يُضِرُّ بالآخرين.
والإسلام في الجملة قرر هذا, فلا إكراه في الدين, ولا يجوز التجسس على الناس, ولو ظُنّ أنهم يزنون أو يشربون الخمر في بيوتهم.

ولكن حينما يُجاهِر العاصي بمعصيته, فقد أضر بالآخرين, حيث يُجرئ الناس على التمرد على القيم النبيلة, والأخلاق الشريفة, ويُحرض الناس على الاقتداء به وبأمثاله الفاسدين.

فالإسلام لا يُجْبِرُ أحدًا أنْ يدخل في الإسلام, ولا أنْ يرجعَ فاسدُ العقيدة إلى العقيدة الصحيحة ما لم يُجاهر بها, فهذا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه, قال للخوارج وهم من أفسد الناس معتقدًا: "إِنَّ لَكُمْ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَمْنَعَكُمْ فَيْئًا مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا، وَأَنْ لَا نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ، وَأَنْ لَا نَبْدَأَكُمْ بِالْقِتَالِ حَتَّى تَبْدَأُونَا بِهِ".

 
بل ولا يَسمح الإسلامُ بالتجسس على بيت أحدٍ ولو كان فيه منكرًا, فهذا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما-, خرجا ليلاً في ضواحي بِالْمَدِينَةِ, فَبَيْنَمَا هُما يَمْشيان إذ رؤوا سِرَاجًا فِي بَيْتٍ, فَانْطَلَقُوا إليه حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْهُ, فإِذَا بَابٌ قد فتُح جزءٌ منه, وسمعوا فِيهِ أَصْوَاتًا مُرْتَفِعَةً، فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَأَخَذَ بِيَدِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: "أَتَدْرِي بَيْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: لاَ، قَالَ: هَذَا بَيْتُ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ, وَهُمُ الآنَ يشربون الخمر, فَمَا تَرَى؟ 

فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: "أَرَى أنّا قَدْ أَتَيْنَا مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، نَهَانَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: (وَلاَ تَجَسَّسُوا) فَقَدْ تَجَسَّسْنَا, فَانْصَرَفَ عُمَرُ عَنْهُمْ وَتَرَكَهُمْ". (رواه البيهقي وصححه الحاكم والذهبي).

فدين الإسلام جاء بالقيم النبيلة العالية, وحَفِظَ للناس حقوقهم وحريَّتَهم, ما لم يُجاهروا بالفسق والكفر والفجور. 

 

حتى في قضيّة الردة, فلم يُعرف منذ عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى يومنا هذا, أنّ أحدًا قُتل لردته عن الإسلام, إلا مَن جاهر في ذلك, وأعلن التمرد على دين المسلمين, واستفزهم بإظهار مُخالفته لهم في أغلى ما يملكون. 

والإسلام لم يأتِ بإزالة المنكرات عن الوجود, فهذا مما لا يُمكن, فقد حدثت منكرات عظيمة في زمن النبوة, فقد ارتد بعض المسلمين, وزنا بعضهم, وشرب الخمر آخرون, والنبي -صلى الله عليهم وسلم- بين ظهرانيهم.

ولكن الإسلام جاء بمنع ظهور المنكرات, وعدم السماح بالمجاهرة بها.

معاشر المسلمين: إنّ مُجاهرة المفسدين جريمةٌ لا يجوز السكوت عليها, وهم بذلك يُخالفون سياسةَ وتوجهات الدولة وولاة الأمر.

فقد خالفوا الشرع الحكيم, وخالفوا ولاة أمرنا وعلماءنا, ونابذوا المجتمع المحافظ المسلم, الغيورَ على محارِمِه وأعراضه.

 

وحينما علم الغرب المنحط والمنحل, أنه لم تبق دولة تخلو من البدع والضلالات العلنية, سوى هذه الدولة المباركة, سعوا في إفساد ذلك, ولن يتمكنوا إلا بتحريك العملاء, وهم من أبناء جلدتنا, ويأتمرون بأمر أسيادهم من الغرب المنحل.

وعلى مرّ الزمان, وباستقراء التاريخ: نجد أنَّ العدوَّ لا يتمكنُ مِن الإطاحة بأيِّ دولةٍ مهما صغر حجمها, وقلّ سكانها, إلا إذا اشتروا ضمائر من يريدون غزوهم, واتخذوا خونة وعملاء لهم.

فلا يجوز أن نسمح لعملاء الغرب, أنْ يخونوا ولاة أمرهم وبلدهم.

إخوة الإيمان: إذا وُجِدَ المنكرُ وارتفعَ وجُوهر به: فالواجبُ على كلِّ مسلمِ محبٍّ لدينه، غيورٍ على مجتمعهِ، أن يكونَ موظَّفَ حِسْبَةٍ، وأن يستجيب لله، فيكون من أولي البقية الذين ينهون عن السوء, الذين قال الله تعالى عنهم: (فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ) [هود: 116].

إنه لا يكفي وجود الصالحين ولا كثرتهم, ولا يمنع الله عقوبة المجتمع الذي ظهر فيهم الفساد لأجلهم, بل يمنع العقوبة العامة إذا وُجد المصلحون, الذين يُصلحون ما أفسد المجرمون والظالمون.

إخوة الإيمان: إنَّ تصارع الخير والشر, يكون بمقدار غلبة أهل أحدهما على أهل الآخر، فإذا غلب أهل الخير انقبض دعاة الشر والفساد، وإذا انعكس الأمرُ انبسط دعاة الشر وكثروا.

ووجودُ دُعاةِ النصح والخير والصلاح: أعظمُ مَكْسَبٍ للمجتمعات، فبهم تُستدفع العقوبات، ويرتدع الغواةُ عن الكثير من غيّهم, ويخاف المفسدون من إظهار فسادهم

نسأل الله تعالى أن يرزقنا شكر نعمه, ودوام طاعته, إنه على كل شيء قدير.

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على المبعوثِ رحمةً للعالمين, وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد: معاشر المسلمين: إنَّ من يرى الفساد الأخلاقيّ والعقائدي, الذي عمّ دول العالم, ومدى طغيان شهوة الفرج والنفس والمال, علم أنّنا بنعمة عظيمةٍ في هذا البلد لا تُقدّر بثمن, ولا يكاد يُرى مثيلها فيما مضى من الزمن.

وكم عاش أجدادُنا في فقر وخوف وجوع, وكمْ رَمَتْ بهمْ هذه الأرضُ المقفرةُ شرقًا وغربًا, يبحثون عن لقمة العيش, ووالله لو خرجوا من قبورهم ورأونا لربما قالوا: هذه الجنة التي وُعدنا, ولن يُصدقوا أنّ هذه هي الدنيا التي رحلوا عنها, لقد رحلوا عن أرضٍ قاحلةٍ لا يكاد يُوجد فيها ماء, سوى عيُونٍ يسقون منها بمشقة وعناء, وهم يرون هذا الأرض في عهد أحفادهم يُجلب لهم الماءُ من البحار, عذبًا زلالاً, ومضخات الماء لا يخلو منها مكان.

رحلوا عن أرض لا يكادون يشبعون من تمر يابس, وأكبر أمانيهم أن يشبعوا من الرُّطب, ويرون أحفادهم تُجلب لهم أطيب الفواكه والنعم من دول العالم, ويرون غداءهم يحتوي على أسماك طريّة, ولحوم شهيّة, وفواكه منوعة, وصنوفٍ من الطعام التي لم يخطر في بالهم أنّ في الجنة مثلَها.

ولن يُصدقوا أنّ الرجال الذين كانوا يرحلون للعمل عندهم, غيّر الله حالهم وأفقرهم حتى جاءوا يعملون عند أحفادهم.

لن يُصدقوا أنّ بلادًا كانت تأتيهم الصدقات من قِبلهم, هم اليوم تصلهم صدقاتُ أحفادهم.

فمن غيّر حالنا وأنعم علينا؟ من أغنانا وأشبعنا وأعزنا؟ إنه الله الكريم الرحيم, أفيليق بنا أن نعصيه وقد أنعم علينا؟ أيليق بنا أنْ نُجاهر بما يُغضبه وقد أرضانا بما أمدّنا به من النعم؟

فلْنتق الله يا أمة الإسلام: ولْنعد إلى ربِّنا المنعمِ علينا, ولنحذر من معصيتِه ومُخالفة شرعِه.

نسأل الله تعالى أن يغفر لآبائنا وأجدادنا, وأن يحشرنا معهم في الفردوس الأعلى من الجنة, إنه سميع قريب مجيب.

 

 

المرفقات

من المجاهرة بالمعاصي, ومقارنة بين زمننا وزمن أجدادنا

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات