سنن الله تعالى في خلقه (8) النعم والنقم

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ جميع النعم من الله –تعالى- وإليه سبحانه 2/من رحمة الله بعباده أن بين لهم سنته معهم في النعم والنقم 3/أمة الإسلام أشبه الأمم بأمة بني إسرائيل؛ لتقارب زمن الأمتين 4/السنة الربانية في التعامل مع النعم تجري على النعم المادية والمعنوية 5/شكر النعم سبب لزيادتها والكفر بها سبب لزوالها. 6/من أعظم الخذلان، وأشد أنواع الخسران؛ إعانة الكفار والمنافقين في نشر الفساد

اقتباس

جَمِيعُ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ –تَعَالَى- وَإِلَيْهِ –سُبْحَانُهُ-؛ فَهُوَ -عَزَّ وَجَلَّ- مَانِحُهَا وَمَانِعُهَا، وَلَا يَمْلِكُ الْخَلْقُ جَلْبَهَا وَالتَّمَتُّعَ بِهَا، وَلَا بَقَاءَهَا وَاسْتِدَامَتَهَا (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آلِ عِمْرَانَ: 154]، (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) [السَّجْدَةِ: 5]، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الْأَنْعَامِ: 115]، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرَّحْمَنِ: 29].

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، الرَّزَّاقِ الْكَرِيمِ؛ مُدَبِّرِ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، يُفِيضُ النِّعَمَ عَلَى الشَّاكِرِينَ، وَيُنْزِلُ النِّقَمَ بِالْكَافِرِينَ (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هُودٍ: 102]، نَحْمَدُهُ عَلَى نِعَمٍ أَتَمَّهَا، وَعَافِيَةٍ أَسْبَغَهَا، وَنِقَمٍ دَفَعَهَا وَرَفَعَهَا؛ فَلَا نِعَمَ إِلَّا نِعَمُهُ، وَلَا أَمْنَ إِلَّا أَمْنُهُ، وَلَا عَذَابَ كَعَذَابِهِ، وَلَا يَكْشِفُ الضُّرَّ سِوَاهُ، وَلَا مَلْجَأَ لِلْخَلْقِ مِنْهُ إِلَّا إِلَيْهِ (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) [النَّحْلِ: 53]، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ؛ أَرَى عِبَادَهُ مِنْ سُنَنِهِ مَا يُوقِظُ قُلُوبَهُمْ، وَيُزِيلُ غَفْلَتَهُمْ، وَيَزِيدُ خَشْيَتَهُمْ، فَيَؤُوبُوا إِلَيْهِ تَائِبِينَ خَائِفِينَ مُنِيبِينَ (وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) [الزُّمَرِ: 54]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ كَانَ أَلْطَفَ النَّاسِ وَأَرْحَمَهُمْ، وَأَطْيَبَهُمْ نَفْسًا، وَأَرَقَّهُمْ قَلْبًا، وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا "وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ، إِلَّا أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفْسِي بِتَقْوَى اللَّهِ –تَعَالَى-، وَالتَّزَوُّدِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ؛ فَإِنَّ الْفِتَنَ تَزْدَادُ، وَإِنَّ الْمِحَنَ تَتَابَعُ، وَإِنَّ الْأُمَمَ تَتَكَالَبُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِمَحْوِهِ وَتَبْدِيلِهِ، وَتَجْتَمِعُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِاسْتِئْصَالِهِمْ، وَلَا ثَبَاتَ عَلَى الْحَقِّ إِلَّا بِكَثْرَةِ الْعِبَادَةِ وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ".

 

أَيُّهَا النَّاسُ: جَمِيعُ النِّعَمِ مِنَ اللَّهِ –تَعَالَى- وَإِلَيْهِ –سُبْحَانُهُ-؛ فَهُوَ –عَزَّ وَجَلَّ- مَانِحُهَا وَمَانِعُهَا، وَلَا يَمْلِكُ الْخَلْقُ جَلْبَهَا وَالتَّمَتُّعَ بِهَا، وَلَا بَقَاءَهَا وَاسْتِدَامَتَهَا (قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ) [آلِ عِمْرَانَ: 154]، (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) [السَّجْدَةِ: 5]، (وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ) [الْأَنْعَامِ: 115]، (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرَّحْمَنِ: 29]، وَالنِّعَمُ وَالنِّقَمُ مِنْ أَمْرِهِ النَّافِذِ، وَمِنْ كَلِمَاتِهِ الَّتِي لَا تَتَبَدَّلُ، وَمِنْ شَأْنِهِ الَّذِي يَقْضِيهِ فِي عِبَادِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تُطْلَبَ النِّعَمُ ابْتِدَاءً وَاسْتِدَامَةً وَزِيَادَةً مِنْهُ –سُبْحَانَهُ-، وَأَنْ تُدْفَعَ النِّقَمُ وَتُرْفَعَ بِدُعَائِهِ وَسُؤَالِهِ وَطَاعَتِهِ –عَزَّ وَجَلَّ-.

 

وَمِنْ رَحْمَتِهِ –سُبْحَانَهُ- بِعِبَادِهِ أَنَّهُ بَيَّنَ لَهُمْ فِيمَا أَنْزَلَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ سُنَّتَهُ مَعَهُمْ فِي النِّعَمِ وَالنِّقَمِ، وَوَضَعَ لَهُمْ قَانُونَهُ الَّذِي إِنْ سَارُوا عَلَيْهِ تَحَقَّقَ لَهُمْ مَا يَطْلُبُونَ، وَصُرِفَ عَنْهُمْ مَا يَحْذَرُونَ. وَقَصَّ عَلَيْهِمْ أَخْبَارَ مَنْ جَرَتْ فِيهِمْ سُنَنُهُ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ؛ لِيُرَاعُوا تِلْكَ السُّنَنَ فَلَا يُصِيبُهُمْ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الَّتِي خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ.

 

وَسُنَّتُهُ –سُبْحَانَهُ- فِي النِّعَمِ ابْتِدَاءٌ وَاسْتِدَامَةٌ وَزِيَادَةٌ، وَفِي النِّقَمِ دَفْعًا وَرَفْعًا جَاءَتْ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إِبْرَاهِيمَ: 7]، وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ كَانَتْ فِي سِيَاقِ الْحَدِيثِ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهِيَ سُنَّةٌ فِي كُلِّ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَفِي أُمَّتِنَا، كَمَا أَنَّهَا سُنَّةٌ فِي الْأَجْيَالِ الْغَابِرَةِ وَالْحَاضِرَةِ وَاللَّاحِقَةِ.

 

وَأُمَّةُ الْإِسْلَامِ أَشْبَهُ الْأُمَمِ بِأُمَّةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ؛ لِتَقَارُبِ زَمَنِ الْأُمَّتَيْنِ، وَتَشَابُهِ تَشْرِيعَاتِهِمَا؛ وَلِذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "أَنْتُمْ أَشْبَهُ الْأُمَمِ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ سَمْتًا وَسِمَةً وَهَدْيًا". فَمَا أَصَابَهُمْ مِنَ الِانْحِرَافِ عَنْ شَرَائِعِهِمْ سَيُصِيبُ فِئَامًا مِنْ أُمَّتِنَا، وَمَا نَزَلَ بِهِمْ مِنَ الْعُقُوبَاتِ عَلَى عِصْيَانِهِمْ سَيَنْزِلُ بِعُصَاةِ أُمَّتِنَا؛ لِأَنَّ سُنَنَ اللَّهِ –تَعَالَى- لَا تَتَبَدَّلُ وَلَا تَتَحَوَّلُ.

 

وَقَوْلُهُ –سُبْحَانَهُ- فِي هَذِهِ السُّنَّةِ الْعَظِيمَةِ: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ) أَيْ: أَعْلَمَ وَأَجْرَى مَجْرَى فِعْلِ الْقَسَمِ؛ فَأُجِيبَ بِمَا يُجَابُ بِهِ الْقَسَمُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (لَأَزِيدَنَّكُمْ) فَاسْتِدَامَةُ النِّعَمِ وَزِيَادَتُهَا مُرْتَهَنَةٌ بِشُكْرِهَا؛ وَلِذَا قِيلَ: "الشُّكْرُ قَيْدُ الْمَوْجُودِ، وَصَيْدُ الْمَفْقُودِ". كَمَا أَنَّ كُفْرَهَا يُؤَدِّي إِلَى زَوَالِ النِّعْمَةِ، وَنُزُولِ النِّقْمَةِ، وَهُوَ مَا يُفِيدُهُ الشَّرْطُ وَجَوَابُهُ فِي قَوْلِهِ: (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنْ شَكَرْتُمْ أُجِرْتُمْ لَا مَحَالَةَ، وَزَادَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى نِعْمَةً، وَإِنْ كَفَرْتُمْ مُنِعْتُمْ وَعُوقِبْتُمْ، وَعِقَابُ اللَّهِ تَعَالَى شَدِيدٌ.

 

وَهَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ فِي التَّعَامُلِ مَعَ النِّعَمِ تَجْرِي فِي النِّعَمِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ، وَفِي النِّعَمِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ: فَمَنْ هَدَاهُ اللَّهُ –تَعَالَى- إِلَى طَاعَةٍ، وَفَتَحَ لَهُ بَابًا مِنَ الْخَيْرِ، فَلَزِمَهُ وَلَمْ يُفَارِقْهُ، وَبَذَلَ فِيهِ وُسْعَهُ، وَأَخْلَصَ فِيهِ لِرَبِّهِ –سُبْحَانَهُ-، وَلَهَجَ بِحَمْدِهِ –عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى مَا فَتَحَ لَهُ؛ أَدَامَهُ اللَّهُ –تَعَالَى- عَلَيْهِ، وَبَارَكَ لَهُ فِيهِ، وَزَادَهُ مِنْهُ، فَوَجَدَ لَذَّتَهُ فِي لُزُومِهِ وَالزِّيَادَةِ مِنْهُ، فَيَرَاهُ النَّاسُ يُضْنِي نَفْسَهُ وَهُوَ يُمَتِّعُهَا، وَيَظُنُّونَهُ يُكَابِدُ عَمَلَهُ وَهُوَ يَرْتَعُ فِي نَعِيمِهِ.

 

وَمَنْ كَفَرَ نِعْمَةَ مَا هُدِيَ إِلَيْهِ مِنَ الطَّاعَةِ، وَمَا فُتِحَ لَهُ مِنَ الْخَيْرِ، فَبَارَحَهُ، أَوْ رَاءَى بِهِ، أَوِ اشْتَرَى بِهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا؛ عُوقِبَ عَلَى كُفْرِهِ بِنِعْمَةِ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ بِضِيقِ صَدْرِهِ، وَقَسْوَةِ قَلْبِهِ، وَتَقْصِيرِهِ فِي عِبَادَتِهِ، وَرُبَّمَا ارْتَكَسَ فِي مَزِيدٍ مِنَ الْإِثْمِ، وَزُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا، فَيَكُونُ عَذَابُهُ أَشَدَّ.

 

وَمَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ –تَعَالَى- عَلَيْهِ بِالْأَمْنِ وَالْجِدَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَهِيَ مَعَاقِدُ النِّعَمِ الدُّنْيَوِيَّةِ؛ فَشَكَرَ اللَّهَ –تَعَالَى- عَلَى نِعَمِهِ وَلَمْ يَكْفُرْهَا، وَنَسَبَهَا إِلَيْهِ –سُبْحَانَهُ- وَلَمْ يَنْسُبْهَا إِلَى نَفْسِهِ، وَسَخَّرَهَا فِيمَا يُرْضِيهِ –عَزَّ وَجَلَّ- وَلَمْ يَعْصِ اللَّهَ –تَعَالَى- بِهَا؛ أَدَامَ اللَّهُ –تَعَالَى- نِعْمَتَهُ وَثَبَّتَهَا، وَزَادَهُ مِنْهَا وَبَارَكَهَا، فَانْتَفَعَ بِهَا أَيَّمَا انْتِفَاعٍ. وَأَمَّا مَنْ بَطِرَ نِعْمَةَ اللَّهِ –تَعَالَى- عَلَيْهِ، فَاسْتَعْلَى بِهَا عَلَى الْخَلْقِ، وَنَسَبَهَا لِنَفْسِهِ وَنَسِيَ الْمُنْعِمَ –سُبْحَانَهُ- فَلَمْ يَشْكُرْهُ، وَسَخَّرَهَا فِي مَعْصِيَتِهِ –عَزَّ وَجَلَّ-؛ فَإِنَّ سُنَّةَ اللَّهِ –تَعَالَى- جَارِيَةٌ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ، فَتُسْلَبُ نِعْمَتُهُ، وَتُرْفَعُ عَافِيَتُهُ، وَتَحُلُّ نِقْمَتُهُ، فَيَخَافُ بَعْدَ الْأَمْنِ، وَيُبْتَلَى بَعْدَ الْعَافِيَةِ، وَيَفْتَقِرُ بَعْدَ الْغِنَى.

 

وَكَمَا تَجْرِي هَذِهِ السُّنَّةُ الرَّبَّانِيَّةُ عَلَى الْأَفْرَادِ فَإِنَّهَا كَذَلِكَ تَجْرِي عَلَى الْأُمَمِ؛ فَالْأُمَّةُ الشَّاكِرَةُ تَزْدَادُ نِعَمُهَا، وَيُبَارَكُ فِيهَا، فَيَنْتَفِعُ بِهَا أَهْلُهَا. وَكُلَّمَا أَحْدَثُوا شُكْرًا جَزَاهُمُ اللَّهُ –تَعَالَى- عَلَيْهِ نِعَمًا، فَتَتَابَعُ نِعَمُهُمْ مَعَ دَوَامِ شُكْرِهِمْ.

 

وَالْأُمَّةُ الَّتِي تُقَابِلُ نِعَمَ اللَّهِ –تَعَالَى- عَلَيْهَا بِالْمَعَاصِي وَالْفُجُورِ أُمَّةٌ حَرِيَّةٌ بِسَلْبِ النِّعَمِ، وَحُلُولِ النِّقَمِ، وَاشْتِعَالِ الْفِتَنِ، وَتَوَالِي الْمِحَنِ؛ لِأَنَّ سُنَّةَ اللَّهِ –تَعَالَى- فِيمَنْ كَفَرَ نِعَمَهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ. وَأَنْوَاعُ عَذَابِهِ –سُبْحَانَهُ- كَثِيرَةٌ أَلِيمَةٌ شَدِيدَةٌ، قَدْ تُصِيبُهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَوْ فِي أَمْنِهِمْ أَوْ فِي رِزْقِهِمْ، أَوْ فِي دِينِهِمْ، وَمُصِيبَةُ الدِّينِ أَعْظَمُ مُصِيبَةٍ، أَوْ يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ أَعْدَاؤُهُمْ (وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) وَعْدٌ رَبَّانِيٌّ مُتَحَقِّقٌ فِي الْأُمَمِ الْمُتَأَخِّرَةِ كَمَا حَقَّ فِي الْأُمَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) [الْأَعْرَافِ: 4]، (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا) [الْكَهْفِ: 59]، (وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً) [الْأَنْبِيَاءِ: 11]، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا) [الطَّلَاقِ: 8- 9]، وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ الْكَثِيرَةِ الدَّالَّةِ عَلَى اطِّرَادِ هَذِهِ السُّنَّةِ فِي كُلِّ مَنْ قَابَلَ نِعَمَ اللَّهِ –تَعَالَى- بِالْفُجُورِ وَالْعِصْيَانِ، وَقَصَّرَ فِي شُكْرِهَا؛ فَإِنَّ اللَّهَ –تَعَالَى- يُبَدِّلُ حَالَهُمْ، وَيَسْلُبُ نِعَمَهُمْ، وَيُوقِعُ بِهِمُ الْعُقُوبَاتِ. نَعُوذُ بِاللَّهِ –تَعَالَى- مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِهِ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِهِ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِهِ، وَجَمِيعِ سَخَطِهِ، وَنَسْأَلُهُ –تَعَالَى- أَنْ يَهْدِيَ ضَالَّ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَكْبِتَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، مِنَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَأَنْ يَرُدَّهُمْ عَلَى أَعْقَابِهِمْ خَاسِرِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاشْكُرُوا نِعَمَهُ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الشُّكْرَ نِعْمَةٌ تَحْتَاجُ إِلَى شُكْرٍ، فَلَا يَنْقَطِعُ شُكْرُ الْمُنْعِمِ -سُبْحَانَهُ- أَبَدًا (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النَّمْلِ: 40].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: مِنْ أَعْظَمِ الْخِذْلَانِ، وَأَشَدِّ أَنْوَاعِ الْخُسْرَانِ؛ طَاعَةُ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ فِي نَشْرِ الْفَسَادِ، وَتَوْطِينِ الْعَبَثِيَّةِ وَالِانْحِلَالِ، وَتَقْدِيمِ أَرَاذِلِ النَّاسِ وَسَقَطَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الشُّذُوذِ الْفِكْرِيِّ، وَالسُّقُوطِ الْأَخْلَاقِيِّ، وَالِانْحِلَالِ الِاجْتِمَاعِيِّ، لِيَكُونُوا قُدْوَةً لِلشَّبَابِ وَالْفَتَيَاتِ. وَلَوْ كَانَتِ الْخَلَاعَةُ وَالْمُجُونُ وَالْغِنَاءُ وَالْمَعَازِفُ تَبْنِي حَضَارَةً وَتَقَدُّمًا لَكَانَتِ الْبِلَادُ الْعَرَبِيَّةُ الَّتِي سَبَقَتْ فِي مَجَالَاتِ الْعَفَنِ الْفَنِّيِّ فِي مَصَافِّ الدُّوَلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَكِنَّهَا تَرْسُفُ فِي قُيُودِ الذُّلِّ وَالْهَوَانِ وَالتَّبَعِيَّةِ وَالْفَقْرِ وَالتَّخَلُّفِ فِي كَافَّةِ الْمَجَالَاتِ الْمَادِّيَّةِ.

 

إِنَّ طَاعَةَ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ لَنْ تُورِدَ مَنْ يُطِيعُهُمْ إِلَّا مَوَارِدَ الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا، وَالْعَذَابِ الْأَلِيمِ فِي الْآخِرَةِ. وَلَنْ يَنْصَحُوا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَلَنْ يَتَوَقَّفُوا عَنِ الْكَيْدِ لَهُمْ، وَالتَّآمُرِ عَلَيْهِمْ، وَالْمَكْرِ بِهِمْ. وَإِنَّ التَّنَازُلَ عَنْ مُحْكَمَاتِ الشَّرِيعَةِ لِإِرْضَائِهِمْ لَنْ يَزِيدَهُمْ إِلَّا عُتُوًّا وَنُفُورًا وَطَمَعًا وَعِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا، وَهُوَ مَا نَهَى اللَّهُ -تَعَالَى- عَنْهُ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ الَّتِي عَرَضَتْ لِأَحْدَاثِ غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ. تِلْكَ الْغَزْوَةُ الَّتِي أَحَاطَ فِيهَا الْعَدُوُّ بِالْمَدِينَةِ فَحَاصَرَهَا فِي جَيْشٍ كَثِيفٍ، مَعَ خِيَانَةِ أَعْدَاءِ الدَّاخِلِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، فَأَطْبَقُوا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَفَكَّيْ كَمَّاشَةٍ، وَعَظُمَ الْكَرْبُ، وَاشْتَدَّ الْخَوْفُ، وَتَوَالَتِ الظُّنُونُ، وَزَاغَتِ الْأَبْصَارُ، وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ. مَوْقِفٌ رَهِيبٌ عَصِيبٌ، حِينَ عَرَضَتْ لَهُ سُورَةُ الْأَحْزَابِ افْتُتِحَتْ بِقَوْلِ اللَّهِ –تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا * وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الْأَحْزَابِ: 1 - 3] فَنَهَى -سُبْحَانَهُ- عَنْ طَاعَةِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ، وَأَمَرَ بِاتِّبَاعِ أَحْكَامِ الدِّينِ الَّتِي تَنَزَّلَ بِهَا الْوَحْيُ، وَبِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ -تَعَالَى- فِي مُوَاجَهَةِ هَذَا الْكَرْبِ الْعَظِيمِ، وَالْمَوْقِفِ الْعَصِيبِ. فَعَمِلَ الْمُؤْمِنُونَ بِالتَّوْجِيهِ الرَّبَّانِيِّ، فَكَانَتْ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) [الْأَحْزَابِ: 25]، فَحَرِيٌّ بِأَهْلِ الْإِيمَانِ أَنْ يَتَعَلَّمُوا مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الْمُحْكَمَةِ الثَّبَاتَ وَالْقُوَّةَ وَالْعِزَّةَ وَالتَّمَسُّكَ بِالدِّينِ، وَالتَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَنْ يُرَدِّدُوهَا فِي كُلِّ كَرْبٍ يَنْزِلُ بِهِمْ، وَيُوَاجِهُوا بِهَا كُلَّ كَافِرٍ يُهَدِّدُهُمْ، وَكُلَّ مُنَافِقٍ يُرِيدُ تَبْدِيلَ دِينِهِمْ، وَإِفْسَادَ مُجْتَمَعِهِمْ، فَإِنَّهُمْ إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ نُصِرُوا (وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا) [الْأَحْزَابِ: 48].

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ ...

 

 

 

المرفقات

الله تعالى في خلقه (8) النعم والنقم - مشكولة

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات