أن تكون بارا بوالديك

الرهواني محمد

2022-10-06 - 1444/03/10
عناصر الخطبة
1/ مكانة الوالدين في الإسلام 2/ بعض ما لاقاه الآباء من الشدائد والصعاب 3/ بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما 4/ نماذج رائعة في بر الوالدين 5/ حث الوالدين على الصبر على الأولاد

اقتباس

"بر الوالدين" هذه الخصلة تتجلى فيها معاني الطهر والنقاءِ في أرقى درجاتها حيث أن الله -سبحانه وتعالى- اختار لها المقام المرموق، والشأن العظيم، إذ جعل عقب شكره شكر الوالدين: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [لقمان: 14]. وأمر ببِرهما بعد الأمر بعبادته، وعدم...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعِينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فاللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه.

 

معاشر عمار بيت الله: كانت النية أن يكون موضوع خطبة هذه الجمعة موضوعا آخر، ولكن حال دون ذلك كثرةُ الشكاوي من بعض الآباء، وكثرة الأخبار المزعجة التي تؤلم الأسماع وتدمي القلوب مما نشاهده ونسمعه في واقعنا من نُفورٍ وتباعد وخصام وغِلَظة بين الأولاد والآباء، فأحببت أن يكون موضوع خطبة اليوم: "بِر الوالدين" تذكيرا لنفسي أولا ثم لكم عسى أن تتحرك قلوبُنا، وتهتز مشاعرُنا، ونستيقظَ من غفلتنا، فنتصدى لإصلاح هذا الخلل الذي بدأ ينتشر انتشار النار في الهشيم.

 

"بر الوالدين" هذه الخصلة تتجلى فيها معاني الطهر والنقاءِ في أرقى درجاتها حيث أن الله -سبحانه وتعالى- اختار لها المقام المرموق، والشأن العظيم، إذ جعل عقب شكره شكر الوالدين: (أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) [لقمان: 14].

 

وأمر ببِرهما بعد الأمر بعبادته، وعدم الشرك به: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [الإسراء: 23]، وقال سبحانه: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [النساء: 36].

 

وعزز ربنا علاقة الأولاد مع الآباء إذ جعلها علاقة طاعة وعبادة يثاب على فعلها والقيامِ بها كلُّ إنسان، ويُعاقب كلُّ من تركها أو تهاون بها، ففي صحيح الترمذي بسند حسن أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "رضا الرَّبِّ في رضا الوالدِ، وسخطُ الرَّبِّ في سخطِ الوالدِ".

 

فمن أجل أن تسعد -أيها الإنسان- في الدنيا والآخرة وتنعم فيهما أمر الله -جل جلاله- ببر الوالدين، والإحسانِ إليهما، والعطف عليهما، وخفضِ الجناح لهما والترحم عليهما، ومخاطَبتِهما باللين والرفق واليسر والحسنى، وما ذلك إلا لعِظم ومكانة الوالدين عند الله.

 

فما من فضل ولا جميل لبشر في هذه الحياة أعظم من فضل وجميل الوالدين، وما من معروف ولا منة لأحد مثل معروف الوالدين ومنتهما، فحُق لهما بذلك أن يكونا بالمنزلة التي ذكرها الله تعالى في كتابه، وأكد عليها نبينا -صلى الله عليه وسلم- في سنته، قال ربنا: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا) [العنكبوت: 8] فهذه وصية الله لكل إنسان، وصيةٌ ليتذكر تلك الأيام لمّا كان فيها في ظلمات الرحم، فحملته (أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ) [لقمان: 14] مشقة على مشقة، تسعةَ أشهر والأم تلاقي المشاق من حين النطفة، ثم الوَحَم، والمرض، والضعف، والثقل، وتغيرِ الحال.

 

ورغم ما قاست الأم من مشقة وتعب غير أنها كانت تفرح بحركة ولدها وهو في بطنها يميل، وتسر بزيادة وزنه مع أنه عليها حمل ثقيل، ثم جاء وجعِ الولادة، ذلك الوجع الشديد الذي لا يعرف فضاعته ولا ألمه إلا من قاساه من الأمهات: (وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا) [الأحقاف: 15] وضعته بمشقةٍ لحظة الولادة ورأت الأم وقتها الموتَ بعينيها، فلما خرج إلى الحياة وأبصرته إلى جانبها قبلته وضمته إلى صدرها، وسُرعان ما نسيت آلامها وجراحها.

 

هكذا كنت أيتها الفتاة أيتها المرأة، أيها الشاب أيها الرجل أيها الشيخ: قد كنت كذلك أيها الإنسان فأصبحت بعدها رضيعا ولكنك ضعيف، فأحاطك الله برحمته، وأحاطك بأرحم الناس أمّ حنون تسهر على راحتك وأمنك وسلامتك، أمّ جعلت حِجرها لك بيتا وفراشا وصدرها لك غذاء، وظهرها لك مركبا، تحيطك وترعاك، تجوع هي لتشبع أنت، تسهر لسهرك وتتألم لألمك وتنظفك من جميع الأذى وأنت لا تملك لنفسك ضرا ولا نفعا، إذا غابت عنك دعوتَها وناجيتها، وإذا أصابك مكروها استغثت بها ووجدت الأمن عندها.

 

أما أبوك فهو يسعى لمصلحتك، يجهد نفسه بحثا عن لقمة العيش، وينفق عليك من وقته وماله وصحته لكي يُصلحك ويربيك، يشقى لتسعد، ويتعب لتستريح، همه حياتك ومستقبلك.

 

لقد كنت في الصغر ريحانة قلبي والديك، وزينة حياتهما، ومعنى سعادتهما وغرس آمالهما، يسهران الليل إذا اشتكيت، ويتألمان لألمك ويمرضان لمرضك، ويبذلان جهدهما في العطاء إذا طلبت، ويضحيان بكل شيء في سبيل صحتك وسلامتك، ربياك صغيراً، وآثراك على نفسيهما كبيراً، نشأت في أحضانهما ومن غذائهما وقوتهما دبت القوة فيك، وسرى دم الفتوة في عروقك.

 

قد تخطئ في حقهما وهما يصفحان عنك، وقد يريان منك ما يسيئهما ولكنهما يغضان الطرف عنك؛ لأنهما أرحم وأرأف الناس بك.

 

إنهما والداك -أيها الإنسان-، وتلك هي طفولتك وصباك.

 

فلما كبرت واشتد عودك تنكرت للجميل، وكأنك أنت المنعم المتفضل، فما أتعسك إن لم تف بحقهما عليك حال كبرهما؟

 

وهذا مطلب رباني، قال ربنا: (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء: 23].

 

فالله -سبحانه- خص حالة الكبر؛ لأنها الحالة التي يحتاج الوالدان فيها إلى البر والإحسان أكثر، لتغير الحال عليهما بالضعف والكبر، ولأنهما في هذه الحالة يحتاجان منك الرعاية كما كنت تحتاجها في الصغر.

 

فليس البِر في الطعام والشراب واللباس، وإن كان ذلك من البر، فأعظم البر الجانب النفسي، فما يريد منك والداك إلا كلمة حانية، وعبارة صافية، تحمل في طياتها الحب والإجلال، وذلك أثمن ما عندك، قال ربنا: (وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء: 23 - 24].

 

نعم قل (رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) فكما يكون بِر الوالدين في حياتهما، يكون أيضا بعد مماتهما.

 

ومن ظن أن بر الوالدين ينتهي بوفاتهما فقد أخطأ، فهما بعد مماتهما يحتاجان إلى الدعاء لهما بالرحمة، والعفو والمغفرة، مع الإكثار من الصدقة عنهما، وهذا كله مما شرعه الله -جل وعلا- في حق الولد لوالديه، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سأله سائل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ فقَالَ: "نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا".

 

فوالله -معاشر الصالحين والصالحات- ما ذكر الإنسان والديه بعد وفاتهما بدعوة صالحة إلا سخر الله له من يذكره بعد وفاته كما ذكرهما؛ لأن الجزاء من جنس العمل، وكما يُدين الإنسان يُدان.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.

 

إن شأن الوالدين عظيم فمهما اجتهد الإنسان في طاعتهما، والإحسان إليهما، فلن يوفيهما حقيهما، يقول أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: شهد ابن عمر -رضي الله عنهما- رجلاً يطوف بالبيت وقد حمل أمه وراء ظهره، فقال: يا ابن عمر، أتراني جزيتها؟ قال: "لا، ولا بزفرة واحدة، ولكنك أحسنتَ، والله يثيبك على الإحسان".

 

وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- فقال: يا أمير المؤمنين إن لي أمًّا بلغت الكبر، ولا تقضي حاجتها إلا وظهري مطية لها، وأنا أقوم بتوضئتها وأصرف وجهي عنها، فهل أديتُ حقها وشكرها؟ فبكى عمر ثم قال: "إنها صنعت بك ذلك وهي ترجو بقاءك، وأنت تفعله متمنّيًا فراقها بعد حين".

 

وكان أبو هريرة إذا أراد أن يخرج من دار أمه وقف على بابها فقال: "السلام عليك يا أمتاه ورحمة الله وبركاته، فتقول: وعليك يا بني ورحمةُ الله وبركاته، فيقول: رحمكِ الله كما ربيتني صغيراً، فتقول: ورحمكَ الله كما سررتني كبيراً" ثم إذا أراد أن يدخل صنع مثل ذلك.

 

وهذا زين العابدين علي بن الحسين قيل له: إنك من أبرّ الناس بأمّك، ولسنا نراك تأكل معها في صَحْفَةٍ! فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينها فأكونُ قد عققتها".

 

وكان طلق بن حبيب لا يمشي فوق ظهر البيت، وأمه تحته إجلالاً لها وتوقيرًا.

 

فهذه بعض نماذج بِرِّ السلف بآبائهم، فما بال أولادنا اليوم يقصرون في هذا البِر؟

 

قد يقول البعض: إنك تحدثنا عن عهود مضت بما لها وما عليها، ونحن الآن في زمان تحسن فيه إلى والديك ويسيئان إليك، ترحمهما وتكرِمهما ويهِينانِك، تكلمهما بكلام لينٍ وقول طيب فيردان عليك بالقسوة والغلظة، تصلهما ويقطعانك.

 

فأقول لمنِ ابتلي بهذا النوعِ من الوالدينِ: فعليه بالصبرِ، فأفضل البِرِّ بِرُّ مثل هؤلاءِ، وبصبرك تنال الراحة ويتحقق لك الأنس واللذة القلبية، ويرفع الله درجتك ويُعظم أجرك، وإن كانا يجحدان بِرك فالله -سبحانه وتعالى- لا يجحده، وما عند الله خير وأبقى، وإن (إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ) [النحل: 128].

 

وللحديث بقية في جمعة قادمة بحول الله مع: "عقوق الوالدين"، فإلى ذلك الحين أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

 

 

المرفقات

تكون بارا بوالديك

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات