أولادنا

إبراهيم بن صالح العجلان

2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ تربية الولد أمانةٌ 2/ عِظَمُ مسؤولية التربية 3/ ست إضاءات في طريق تربية الأولاد 4/ أهمية التربية بالقدوة 5/ أهمية الدعاء في صلاح الأبناء 6/ صلاحُ الإنسانِ من أسباب صلاح ذريّته

اقتباس

الْوَلَدُ نِعْمَةٌ وَأَمَانَةٌ، لِوَالِدِهِ غُنْمُهَا، وَعَلَيْهِ غُرْمُهَا؛ وَلِذَا، كَانَتْ تَرْبِيَةُ الْوَلَدِ وَصِيَانَتُهُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَاتِ عَلَى كُلِّ أَبٍ ذَاقَ حَلَاوَةَ الذُّرِّيَّةِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إِخْوَةَ الْإِيمَانِ: أَوْلَادُنَا فَلذَاتُ أَكْبَادِنَا، وَثِمَارُ قُلُوبِنَا، وَبَهْجَةُ نُفُوسِنَا، هُمْ سِرَاجُ الْبُيُوتِ وَأَنْوَارُهَا، وَرَيَاحِينُ الْحَيَاةِ وَزِينَتُهَا، نَحْنُ لَهُمْ أَرْضٌ ذَلِيلَةٌ، وَسَمَاءٌ ظَلِيلَةٌ، إِنْ طَلَبُوا أَعْطَيْنَاهُمْ، وَإِنْ غَضِبُوا أَرْضَيْنَاهُمْ.

وَإِنَّمَا أَطْفَالُنَا بَيْنَنَا *** أَكْبَادُنَا تَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ

إِنْ هَبَّتِ الرِّيحُ عَلَى بَعْضِهِمُ *** امْتَنَعَتْ عَيْنِي عَنِ الْغَمْضِ

 

الْوَلَدُ نِعْمَةٌ وَأَمَانَةٌ، لِوَالِدِهِ غُنْمُهَا، وَعَلَيْهِ غُرْمُهَا؛ وَلِذَا، كَانَتْ تَرْبِيَةُ الْوَلَدِ وَصِيَانَتُهُ وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْأَمَانَاتِ عَلَى كُلِّ أَبٍ ذَاقَ حَلَاوَةَ الذُّرِّيَّةِ؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم:6].

 

وَفِي الْحَدِيثِ، يَقُولُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، الرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ، وَهُوَ مَسْؤُولٌ عَنْهُمْ" رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.

 

إِنَّ الْحَدِيثَ عَنْ أَهَمِّيَّةِ تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ تَرْبِيَةً إِسْلَامِيَّةً لَيَتَأَكَّدُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ الْمُغْرِيَاتُ، وَادْلَهَمَّتْ فِيهِ الشُّبُهَاتُ، وَأَصْبَحَتِ الْبُيُوتُ تُغْزَى بِثَقَافَاتٍ وَسُلُوكِيَّاتٍ لَمْ يَعْهَدْهَا الْآبَاءُ وَالْمُرَبُّونَ.

 

أَصْبَحْتَ وَأَنْتَ فِي بَيْتِكَ وَبِيئَتِكَ لَا تَتَحَكَّمُ فِي تَرْبِيَةِ أَبْنَائِكَ، مِنْ كَثْرَةِ الْإِغْرَاءَاتِ وَالْإِغْوَاءَاتِ الَّتِي تُمْطِرُنَا بِهَا الْفَضَائِيَّاتُ وَمَوَاقِعُ الْإِنْتَرْنِتْ.

 

إِنَّ مَسْؤُولِيَّةَ التَّرْبِيَةِ -أَيُّهَا الْأَبُ الْمُبَارَكُ- لَيْسَت بِضْعَ كَلِمَاتٍ تُقَالُ ثُمَّ تَنْتَهِي بَعْدَهَا الْمَسْؤُولِيَّةُ، كَلَّا؛ بَلْ مِشْوَارُ التَّرْبِيَةِ رِحْلَةٌ طَوِيلَةٌ، وَجهْدٌ مُسْتَمِرٌّ، وَتَحَسُّسٌ دَائِمٌ لِلطُّرُقِ الصَّحِيحَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْوَلَدِ فِي مَرَاحِلِ حَيَاةِ عُمْرِهِ.

 

مَعَاشِرَ الْآبَاءِ: وَمِنَ التَّرْبِيَةِ الصَّائِبَةِ مَعْرِفَةُ الطُّرُقِ الْخَاطِئَةِ فِي التَّعَامُلِ مَعَ الْأَوْلَادِ؛ إِذْ إِنَّ الْخَطَأَ فِي تَرْبِيَةِ الْأَوْلَادِ رُبَّمَا أَدَّى إِلَى عَوَاقِبَ مُؤْسِفَةٍ فِي نَشْأَتِهِمْ وَحَيَاتِهِمْ وَمُسْتَقْبَلِهِمْ.

 

فَيَا أَيُّهَا الْأَبُ الْمُبَارَكُ، أَرْعِ لَنَا سَمْعَكَ، وَاسْتَجْمِعْ مَعَنَا قَلْبَكَ إِلَى حَدِيثِ الْأَخْطَاءِ -وَكُلُّنَا ذَلِكَ الْخَطَّاءُ- إِلَى "لَاءاتٍ" سِتٍّ، نَتَعَرَّفُهَا لِنَحْذَرَهَا، وَنَتَّقِيَ آثَارَهَا السَّيِّئَةَ بَعْدَ ذَلِكَ.

 

اللَّاءُ الْأُولَى: لَا لِلْعَسْكَرَةِ. أَيُّهَا الْأَبُ الْمُبَارَكُ: لَا تَجْعَلْ عَلَاقَتَكَ مَعَ وَلَدِكَ عَلَاقَةً عَسْكَرِيَّةً، عَلَاقَةً قَائِمَةً عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَالطَّلَبِ وَالْكَفِّ، فَالْوَلَدُ لَا يَعْرِفُ مِنْ وَالِدِهِ إِلَّا لُغَةَ اللَّوْمِ وَالْعَتَبِ، وَالتَّبْكِيتِ وَالتَّسَخُّطِ، هَذَا الْفَقْرُ فِي الْمَشَاعِرِ، وَالْجَفَاءُ فِي الْأَحَاسِيسِ يُحْدِثُ صَدَمَاتٍ انْعِكَاسِيَّةً فِي نَفْسِ الْوَلَدِ.

 

فَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَرَى الْأَبْنَاءُ مَحَبَّةَ وَالِدِهِمْ ظَاهِرَةً فِي كَلِمَاتِهِ، وَنَظَرَاتِهِ، وَأَفْعَالِهِ، وَحَنَانِهِ! تَذَكَّرْ -يَا رَعَاكَ اللَّهُ- أَنَّ الْكَلِمَةَ الْعَاطِفِيَّةَ الطَّيِّبَةَ الَّتِي تَرِنُّ فِي أُذُنِ طِفْلِكَ هِيَ الْبَذْرَةُ الطَّيِّبَةُ، الَّتِي تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا.

 

وَخَيْرُ الْبَشَرِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَتْ تَظْهَرُ مِنْهُ مَشَاعِرُ الْمَحَبَّةِ لِذُرِّيَّتِهِ حَتَّى أَمَامَ الْآخَرِينَ؛ قَبَّلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سِبْطَيْهِ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ أَمَامَ النَّاسِ، فَرَآهُ أَحَدُ الْجُفَاةِ الْأَعْرَاب، فَقَالَ: أَتُقَبِّلُونَ صِبْيَانَكُمْ؟! إِنَّ لِي عَشَرَةً مِنَ الْوَلَدِ مَا قَبَّلْتُ وَاحِدًا مِنْهُمْ! فَقَالَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ: "إِنَّ مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ" رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

 

وَإِذَا كَانَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ تُظَلِّلُهَا الْمَحَبَّةُ، وَتَكْتَنِفُهَا الْأُلْفَةُ، وَيَغْشَاهَا الْوِدَادُ، كَانَتْ لِلنَّصَائِحِ أَثَرُهَا، وَلِلتَّوْجِيهَاتِ اسْتِجَابَتُهَا.

 

اللَّاءُ الثَّانِيَةُ: لَا تَقْطَعْ حَبْلَ التَّوَاصُلِ. أَيْ: تَوَاصُلِكَ مَعَ ابْنِكَ، وَجُلُوسِكَ مَعَهُ، وَسَمَاعِكَ لَهُ، لَا تَتَعَذَّرُ -أَخِي الْمُبَارَكَ- بِالْمَشَاغِلِ وَكَثْرَةِ الِارْتِبَاطِ؛ فَوَلَدُكَ بِحَاجَةٍ أَنْ تُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ وَقْتِكَ أَكْثَرَ مِنْ مَالِكَ، كُنْ كَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تَتَخَطَّفَهُ رفْقَةُ السُّوءِ، كُنْ كَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَدَّ عُودُ الْوَلَدِ، وَيَصْعُبَ حِينَهَا التَّصَارُحُ وَالْمُصَارَحَةُ.

 

إِنَّ وُجُودَ الْأُذُنِ الْمُصْغِيَةِ لِلطِّفْلِ تُقَوِّي وَشَائِجَ الْمَوَدَّةِ، وَتَبْنِي جِسْرًا مِنَ الثِّقَةِ تُجَاهَ الْأَبِ، فَيَرَى الْوَلَدُ فِي وَالِدِهِ مُتَنَفَّسًا لِهُمُومِهِ، طَبِيبًا لِمُشْكِلَاتِهِ، دَلِيلًا لِحَيْرَتِهِ وَاضْطِرَابَاتِهِ، وَقَدْ أَوْصَتْ دَارِسَاتٌ نَفْسِيَّةٌ وَاجْتِمَاعِيَّةٌ عِدَّةٌ بِأَهَمِّيَّةِ التَّفَاعُلِ بَيْنَ الْأَبْنَاءِ وَآبَائِهِمْ وَأُمَّهَاتِهِمْ، وَتَأْثِيرِ ذَلِكَ فِي تَنْشِئَتِهِمُ الِاجْتِمَاعِيَّةِ، وَفِي الِارْتِقَاءِ بِشَخْصِيَّاتِهِمْ، وَبِخَاصَّةٍ فِي السَّنَوَاتِ الْأُولَى مِنَ الْعُمْرِ.

 

اللَّاءُ الثَّالِثَةُ: لَا تُقَارِنْ. مِنَ الْخَطَأِ إِذَا قَصَّرَ الِابْنُ فِي أَمْرٍ مَا أَنْ يُوَبَّخَ بِسِلْسِلَةٍ مِنَ الْمُقَارَنَاتِ: انْظُرْ إِلَى فُلَانٍ، لِمَاذَا لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ؟! فُلَانٌ أَفْضَلُ مِنْكَ.

 

هَذَا الِانْتِقَادُ يُحْدِثُ إِحْبَاطًا فِي نَفْسِ الطِّفْلِ وَشُعُورًا بِالدُّونِيَّةِ، فَيَكُونُ لَهُ أَثَرُهُ فِي ضَعْفِ شَخْصِيَّتِهِ، وَفَقْدِ الثِّقَةِ بِنَفْسِهِ، فَضْلًا عَمَّا يُسَبِّبُهُ هَذَا الْأُسْلُوبُ مِنْ تَفَجُّرِ الْغَيْرَةِ الْمَحْبُوسَةِ فِي قَلْبِ الطِّفْلِ تُجَاهَ مَنْ يُقَارَنُ بِهِ.

 

تَخَيَّلْ -أَيُّهَا الْأَبُ- لَوِ اسْتُخْدِمَ مَعَكَ هَذَا الْأُسْلُوبُ، أَلَا تُحْدِثُ لَكَ هَذِهِ الْمُقَارَنَةُ تَوَتُّرًا فِي ضَمِيرِكَ؟! فَكَذَلِكَ فِلْذَةُ كَبِدِكَ يَحْمِلُ بَيْنَ جَنْبَيْهِ نَفْسًا كَنَفْسِكَ، تَغْضَبُ وَتَرْضَى، تُحِبُّ وَتَكْرَهُ.

 

فَيَا أَيُّهَا الْأَبُ الْمُبَارَكُ: اقْلَعْ شَجَرَةَ الْمُقَارَنَاتِ مِنْ تُرْبَةِ تَرْبِيَتِكَ، وَازْرَعْ مَكَانَهَا بَذْرَةَ الْأَمَلِ، وَاسْقِهَا بِالتَّشْجِيعِ، وَتَعَاهَدْهَا بِالْحَثِّ عَلَى الْكِفَاحِ.

 

اللَّاءُ الرَّابِعَةُ: لَا تُفَرِّقْ. اجْعَلْ أَبْنَاءَكَ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ، لَا تُمَيِّزْ أَحَدًا عَلَى أَحَدٍ، حَتَّى وَلَوِ امْتَازَ بِذَكَاءٍ، أَوْ فَصَاحَةٍ، أَوْ جَمَالٍ.

 

الْعَدْلُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ؛ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ".

 

كَمْ مِنَ الْمَآسِي عَاشَتْهَا بَعْضُ الْبُيُوتِ بِسَبَبِ هَذَا التَّمْيِيزِ الْأَخْرَقِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ! تَرَى الْبَعْضَ يَسْتَخْدِمُ الْمُتَنَاقِضَاتِ فِي تَرْبِيَتِهِ لِأَوْلَادِهِ، فَيَمْدَحُ هَذَا وَيَهْجُو ذَاكَ، وَيُعْطِي الْأَوَّلَ وَيَمْنَعُ الثَّانِيَ، وَيُرْضِي الْأَصْغَرَ وَيُسْخِطُ الْأَكْبَرَ؛ مِمَّا يُؤَجِّجُ نَارَ الْغَيْرَةِ، وَيُوَلِّدُ رُوحَ الْعدَاءِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ، فَتَكُونُ ثَمَرَتُهُ عُقُوقَ الْأَبْنَاءِ تُجَاهَ الْآبَاءِ؛ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِبَشِيرِ بْنِ سَعْدٍ، وَقَدْ جَاءَ يُشْهِدُهُ عَلَى عَطِيَّةٍ لِأَحَدِ أَبْنَائِهِ: "لَا تُشْهِدْنِي عَلَى زُورٍ"، وَقَالَ لَهُ أَيْضًا: "أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونُوا لَكَ فِي الْبِرِّ سَوَاءً؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: "فَلَا إِذًا".

 

اللَّاءُ الْخَامِسَةُ: لَا تَكُنْ يَتِيمَ الْمُعَامَلَةِ. تَذَكَّرْ -أَخِي الْمُبَارَكَ- أَنَّ الْخَلْقَ مُتَفَاوِتُونَ فِي عُقُولِهِمْ، وَتَفْكِيرِهِمْ، وَدِمَائِهِمْ، وَأَمْزِجَتِهِمْ؛ فَطَبِيعِيٌّ أَنْ يُوجَدَ هَذَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ؛ فَمِنْهُمُ الذَّكِيُّ النَّجِيبُ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ دُونَ ذَلِكَ، مِنْهُمْ سَرِيعُ الِاسْتِجَابَةِ، وَمِنْهُمُ الْبَطِيءُ، مِنْهُمُ الْهَادِئُ، وَمِنْهُمُ الْمُسْتَعْجِلُ؛ فَنَوِّعْ مُعَامَلَتَكَ، وَعَدِّدْ أُسْلُوبَكَ بِمَا يَتَنَاسَبُ مَعَ طَبْعِ الْوَلَدِ وَعَقْلِهِ، وَهَذَا التَّنْوِيعُ فِي التَّوْجِيهِ وَالتَّرْبِيَةِ أُسْلُوبٌ نَبَوِيٌّ، فَقَدْ كَانَ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنَوِّعُ أَسَالِيبَهُ فِي التَّوْجِيهِ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ الْمَنْصُوحِ.

 

وَمِنْ تَنَوُّعِ الْمُعَامَلَةِ أَنْ تُدْرِكَ -أَيُّهَا الْأَبُ الْكَرِيمُ- أَنَّ وَلَدَكَ مُنْذُ زَهْرَاتِهِ حَتَّى يَشِبَّ، يَمُرُّ بِمَرَاحِلَ عِدَّةٍ، وَلِكُلِّ مَرْحَلَةٍ مَا يُنَاسِبُهَا فِي التَّرْبِيَةِ وَالتَّوْجِيهِ؛ فَلَا تُعَامِلْ وَلَدَكَ وَهُوَ فِي سِنِّ التَّمْيِيزِ مُعَامَلَةَ ابْنِ السَّنَتَيْنِ، لَا تُعَامِلْ وَلَدَكَ وَهُوَ عَلَى أَعْتَابِ مَرْحَلَةِ الثَّانَوِيَّةِ مُعَامَلَةَ الْمُبْتَدِئِ فِي التَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ.

 

الضَّرْبُ -مَثَلًا- مَعَ الصَّغِيرِ يُصْلِحُهُ وَيُؤَدِّبُهُ، وَمَعَ الْمُرَاهِقِ قَدْ يَبْنِي بَيْنَ الْوَالِدِ وَوَلَدِهِ جِسْرًا مِنَ الْجَفَاءِ وَالنّفْرَةِ، فَلِكُلِّ مَرْحَلَةٍ أُسْلُوبُهَا وَطَرِيقَتُهَا.

 

وَمِنْ وَحْيِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ الدَّالِّ عَلَى هَذَا: "مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ".

 

اللَّاءُ السَّادِسَةُ: لَا تَكُنْ قَاسِيًا وَلَا مُدَلِّلًا. كُنْ سَهْلًا مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَحَازِمًا مِنْ غَيْرِ إِفْرَاطٍ، فَالْقَسْوَةُ وَالتَّدْلِيلُ طَرَفَا نَقِيضٍ، وَكِلَاهُمَا فِي التَّرْبِيَةِ ذَمِيمٌ؛ فَبَعْضُ الْآبَاءِ تَغْلِبُ عَلَيْهِ رِقَّةُ الْأُبُوَّةِ وَعَطْفُهَا، فَيَعِيشُ طِفْلُهُ فِي كَنَفِهِ حَيَاةَ الدَّلَعِ وَالدَّلَالِ؛ فَأَوَامِرُ الطِّفْلِ مُنَفَّذَةٌ، وَطَلَبَاتُهُ مُنْجَزَةٌ، وَرَغَبَاتُهُ حَاضِرَةٌ، وَكَلِمَةُ "لَا" لَمْ وَلَنْ يَسْمَعَهَا هَذَا الطِّفْلُ الْمُدَلَّلُ.

 

وَهَذِهِ آفَةٌ تَرْبَوِيَّةٌ لَهَا مَا بَعْدَهَا مِنَ السُّلُوكِيَّاتِ الْخَاطِئَةِ الَّتِي يَتَطَبَّعُ عَلَيْهَا الطِّفْلُ، مِنْ عَدَمِ الشُّعُورِ بِالْمَسْؤُولِيَّةِ، وَالِاتِّجَاهِ نَحْوَ الْمُيُوعَةِ، وَظُهُورِ الْأَنَانِيَّةِ عَلَى أَخْلَاقِهِ.

 

وَفِي الْمُقَابِلِ: فَإِنَّ بَعْضَ الْآبَاءِ تَغْلِبُهُ حِدَّةُ الطَّبْعِ، فَيُفْرِطُ فِي الْقَسْوَةِ؛ مُعَلِّلًا قَسْوَتَهُ بِطَلَبِ الْمِثَالِيَّةِ، وَلِيُصْبِحَ وَلَدُهُ بَعْدَهَا رَجُلًا، وَنَسِيَ -أَوْ تَنَاسَى- الْآثَارَ السَّلْبِيَّةَ الْمُنْتَظَرَةَ مِنْ هَذِهِ الْقَسْوَةِ، وَانْعِكَاسَهَا عَلَى شَخْصِيَّةِ الْوَلَدِ، كَالتَّمَرُّدِ عَلَى الْأُسْرَةِ، وَتَحَوُّلِ الطِّفْلِ إِلَى شَخْصِيَّةٍ عُدْوَانِيَّةٍ، أَوْ إِصَابَتِهِ بِصَدَمَاتٍ نَفْسِيَّةٍ.

 

نَعَمْ، قَدْ تَكُونُ الْقَسْوَةُ وَالْحَزْمُ نَوْعًا مِنَ الْعِلَاجِ وَالتَّرْبِيَةِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:

فَقَسَا لِيَزْدَجِرُوا وَمَنْ يَكُ حَازِمًا *** فَلْيَقْسُ أَحْيَانًا عَلَى مَنْ يَرْحَمُ

 

بَيْدَ أَنَّ هَذِهِ الْقَسْوَةَ لَيْسَتْ هِيَ الْأَصْلَ، بَلْ هِيَ آخِرُ الْعِلَاجِ، وَلَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ مُحَاوَلَاتِ الرِّفْقِ وَاللِّينِ، وَتَكُونُ بِالشَّكْلِ الْمَعْقُولِ وَالْمَقْبُولِ، تَكُونُ لِلْبِنَاءِ لَا لِلْهَدْمِ، وَلِلتَّوْجِيهِ وَالتَّقْوِيمِ، لَا لِلْفَظَاظَةِ وَالِانْتِقَامِ، وَفِي مُحْكَمِ التَّنْزِيلِ: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) [آلِ عِمْرَانَ: 159].

 

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَى دَرْبِهِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَيَا عِبَادَ اللَّهِ، وَمِنْ أَهَمِّ وَسَائِلِ إِصْلَاحِ النَّشْءِ التَّرْبِيَةُ بِالْقُدْوَةِ: تَرْبِيَةٌ صَامِتَةٌ، وَلَكِنَّ أَثَرَهَا أَعْظَمُ مِنْ كُلِّ تَوْجِيهٍ، فَالطِّفْلُ مُنْذُ ضَعْفِهِ مَفْطُورٌ عَلَى مُحَاكَاةِ مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، فَأَنْتَ -يَا عَبْدَ اللَّهِ- صُورَةٌ حَيَّةٌ لِأَوْلَادِكَ، فَانْظُرْ مَاذَا تَرْسُمُ فِي شَخْصِيَّتِهِمْ مِنْ خِلَالِ قَوْلِكَ، وَسَمْتِكَ، وَفِعْلِكَ.

 

مشى الطاووسُ يوماً باختيالٍ *** فقلّد شكل مشيته بنوهُ

فقال: علام تختالون؟ قالوا *** بدأتَ به ونحن مُقلّدوهُ

وينشأ ناشئ الفتيان منا *** على ما كان عوَّدَهُ أبوهُ

وَمَا دَانَ الْفَتَى بِحِجًى وَلَكِنْ *** يُعَوِّدُهُ التَّدَيُّنَ أَقْرَبُوهُ

 

الْقُدْوَةُ -يَا أَهْلَ الْإِيمَانِ- لَيْسَتْ كَلِمَاتٍ تُقَالُ، بَلْ هِيَ سُلُوكٌ وَأَفْعَالٌ.

 

شَرْخٌ فِي جِدَارِ التَّرْبِيَةِ أَنْ تَنْهَى طِفْلَكَ عَنِ الْخَطَأِ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ، عَارٌ عَلَيْكَ عَظِيمٌ أَنْ تَنْهَى صَفِيَّكَ عَنِ النَّظَرِ لِلْحَرَامِ، ثُمَّ يَرَاكَ مُرْسِلًا طَرْفَكَ لِلْحَسْنَاوَاتِ وَالْمَلِيحَاتِ!.

 

مَنْ هَجَرَ الْمَسْجِدَ وَالْجَمَاعَاتِ لَا يَنْتَظِرُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَمَنْ هَيَّأَ لِنَفْسِهِ وَبَنِيهِ جَوَّ الْمَعَاصِي وَالْمُحَرَّمَاتِ، لَا يَنْتَظِرُ مِنْ أَوْلَادِهِ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ التُّقَى وَالْعِبَادَاتِ. لَا تَكُنِ الْقِيَمُ وَالْمُثُلُ الَّتِي تُسْقَى لِلْأَبْنَاءِ فِي الصَّبَاحِ تَحْرِقُهَا الْأَفْعَالُ فِي الْمَسَاءِ.

 

الْقُدْوَةُ الْحَقَّةُ -يَا عَبْدَ اللَّهِ- أَنْ يَرَى فِيكَ وَلَدُكَ أَثَرَ تَوْجِيهِكَ وَقَوْلِكَ، يَرَى الِابْنُ خَوْفَ اللَّهِ وَرَجَاءَهُ، وَتَعْظِيمَ حُرُمَاتِهِ وَالْوُقُوفَ عِنْدَ حُدُودِهِ مَاثِلًا فِي حَالِ وَحَيَاةِ أَبِيهِ.

 

أَيُّهَا الْآبَاءُ الْكِرَامُ: وَمِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ صَلَاحِ الذُّرِّيَّةِ وَفَلَاحِهَا: الدُّعَاءُ الصَّادِقُ، وَلَنَا فِي رُسُلِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ؛ فَقَدْ سَجَّلَ لَنَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ ابْتِهَالَاتٍ عَظِيمَةً، وَدَعَوَاتٍ جَلِيلَةً تَضَرَّعَ بِهَا أَنْبِيَاءُ اللَّهِ -تَعَالَى- لِأَوْلَادِهِمْ.

 

فَهَذَا خَلِيلُ الرَّحْمَنِ ابْتَهَلَ إِلَى رَبِّهِ: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) [إِبْرَاهِيمَ:40]، (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ) [إِبْرَاهِيمَ:35]، وَدَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ: (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) [آلِ عِمْرَانَ: 38].

 

وَمَدَحَ الرَّحْمَنُ عِبَادَ الرَّحْمَنِ، الَّذِينَ يَقُولُونَ: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الْفُرْقَانِ:74].

 

وَفِي الْحَدِيثِ الْحَسَنِ: "ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ، لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْوَالِدِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ" رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ.

 

وَأَخِيرًا: أَيُّهَا الْأَبُ الْمُبَارَكُ، تَيَقَّنْ أَنَّ صَلَاحَ نَفْسِكَ وَاسْتِقَامَتَكَ عَلَى دِينِ رَبِّكَ سَبَبٌ لِصَلَاحِ ذُرِّيَّتِكَ، وَحِفْظِ عَقِبِكَ مِنْ بَعْدِكَ.

 

وَفِي خَبَرِ مَنْ غَبَرَ حَفِظَ اللَّهُ مَالَ الْغُلَامَيْنِ حَتَّى كَبِرَا بِسَبَبِ صَلَاحِ أَبِيهِمَا. وَصَدَقَ اللَّهُ، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا!: (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا) [النِّسَاءِ:9].

 

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ.

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات