رسالة إلى يائس

عمر بن عبد الله المقبل

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ تطير وتشاؤم العرب ومحاربة النبي –صلى الله عليه وسلمَ- له 2/ بعض المواقف النبوية في محاربة اليأس 3/ الحاجة إلى التذكير بخطورة اليأس 4/ بعض صور اليأس ومظاهره 5/ بعض مفاسد اليأس وسلبياته

اقتباس

سل هذا الرب الكريم الذي: "يغفر ذنباً، ويُفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلّم جاهلاً، ويَهدي ضالاً، ويرشد حيران، ويغيث لهفان، ويَفُك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويَشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويَقبل تائباً، ويَجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويُقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمّنُ روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، يُعز ذليلاً، ويُذل عزيزاً، ويعطي سائلاً، ويَذهب...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي ملأ قلوبَ عباده الموحدين من محبته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أسكن في الدنيا من شاء في جنة الأُنْس قبل دخول جنته، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، عاش العبودية لله في عسره ويسره، ورخائه وشدته؛ فصار القدوة في شأنه كلّه لأمته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ما غرب نجم وأشرق من مشرقِهِ.

 

أما بعد:

 

فمَنْ الأمة التي كان بعض أفرادها إذا أراد سفراً أخرج ألواحه، وزجر طيره، فإن تيامنت مضى وتفاءل، وإن أخذت ذات اليسار تشاءم ولم يسافر!

 

من هي الأمة التي كان بعض أفرادها إذا عاينوا الأعور من النّاس أو البهائم، أو الأعضب أو الأبتر؛ تطيّروا وتشاءموا؟! كما تطيّروا من الطير إذا رأوها على تلك الحال، فكان زجر الطّير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطيّر، ثمّ استعملوا ذلك في كلّ شيء؟!

 

إنهم العرب -وليسوا وحدهم في باب التشاؤم، بل تشاركهم في هذا الاعتقاد الفاسد أمم أخرى، كما يظهر جلياً من كتاب "الحيوان" للجاحظ وغيره- العرب الذين امتنّ اللهُ عليهم ببعثة محمد -صلى الله عليه وسلمَ-: (يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِين) [الجمعة: 2]، فزكّاهم بالوحيين من هذه الخرافات والجهالات، وعلّمهم أعظم كاسح لهذه الضلالات: التوحيد الذي يعلّق القلوبَ بالله وحده، لا بطير، ولا بحيوان، ولا يتأثر سلباً بمحسوس ولا مرئي ولا مسموع.

 

علّمهم التوحيد، الذي أورثهم توكلاً على الله، واعتماداً عليه؛ فانقشعت بالتوحيد سُحُبُ الجهل والخرافة، وصارت القلوب به أقوى قدرةً على بناء الدنيا، وعمارة الآخرة.

 

ولم يكن اليأس الذي حاربه صلى الله عليه وسلمَ متعلقاً بهذه الأمور الخاصة فحسب، بل حارب اليأس الذي يسري إلى النفوس عند اشتداد الأزمات، وتكالب الأعداء على الأمة، وله في ذلك المقامات المشهودة: يأتيه خبّابُ بن الأرتّ مع بعض الصحابة -رَضي الله عنهم-، وهو صلى الله عليه وسلمَ مُتوسد بُردةً في ظلِّ الكعبة، قال خباب: "فشكَونا إليه، فقلْنا: ألا تستَنْصِر لنا؟ ألا تدعُو اللهَ لنا؟ فجلس مُحمَرّاً وجهُه، فقال: "قد كانَ مَن قبلَكم يؤخَذُ الرجلُ فيُحفَر له في الأرض، ثم يُؤتى بالمِنشارِ، فيُجعَل على رأسِه فيُجعل فرقَتَينِ، ما يصرِفُه ذلك عن دينه، ويُمشطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دون عظمِه من لحم وعَصَبٍ، ما يصرِفُه ذلك عن دينه، والله لَيُتِمَّنَّ اللهُ هذا الأمرَ حتى يسيرَ الراكبُ ما بين صنعاءَ وحضرموتَ، ما يَخافُ إلا الله والذئبَ على غنمِه، ولكنكم تَعْجَلون" [أخرجه البخاري (3852)، وأبو داود (2649)، واللفظ له].

 

موقف خبّاب هذا تتكرر صورته في واقعنا وبألوان مختلفة، ومشاهد متنوعة، يفسّره أصحابُه بالحدَب على هذا الدين، والضيقِ ذرعًا بتكالب الأعداء.

 

فيأتي الجوابُ النبوي المليء باليقين، والمشحون بتفاؤل يبدّد غيومَ اليأس، لا ليخبره بأن أمَدَ هذا الأذى سيتوقف، بل ليُقسم له، وهو الصادق البارُّ -صلى الله عليه وسلمَ- بأن هذا الدين الذي يُحاصَر في شعاب مكّة، ويتسلط صناديدُ الكفر على ضعَفَة أهله، سينتشر انتشاراً يبلغ من أثره أن يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت -وهي مناطق يتيه فيها الذكي، ويخاف فيها القوي-، لا يخشى شيئاً سوى الله الذي اختار هذا الدين الخاتم، والذئبَ على غنمه!

 

ومن ألطف المواقف النبوية في هذا: أنه لما كانت النفوس مشحونة في صلح الحديبية بسبب الشروط -التي كانت في ظاهرها غبناً للمسلمين-، وجاء سهيل بن عمرو مندوباً عن المشركين، قال صلى الله عليه وسلمَ مباشرة: "سهل لكم من أمركم" [البخاري (2731)].

 

سبحان الله! حتى في هذا المقام لم يدع التفاؤل! ولسان الحال: وماذا يصنع اليأس إلا القعود وشماتة العدو والحاسد؟ وماذا يفعل الفأل في النفوس إلا الانطلاق في فسحة الحياة الرحبة، والعمل المثمر الجاد؟ فأين اليائسون من واقع الأمة عن هذا الموقف، وموقفه يوم الأحزاب، وغيرها من المواقف التي تهدّ الصم الصلاب؟

 

أيها الإخوة: وعلى المستوى الشخصي تبرز الحاجةُ إلى التذكير بخطورة اليأس والاستسلام للإحباط، حتى لا يكون الإنسان ضحيةً للتشاؤم، فإنّ من ابتُلي بأسئلة الناس، أو تابع بعضَ مواقع التواصل؛ عرف أن لغة اليأس في ظهور وانتشار، يقرؤها الإنسانُ فيما يَرِدُه، ويشاهدها في تغريداتِ ومنشوراتِ المفسبكين، وفي غيرها من مواقع التواصل! وهذا أثرٌ من آثار ضعف الإيمان، وكثرةِ الذنوبِ والعصيان، ولهؤلاء وأولئك يقال: ماذا صنع اليأس بكم؟ وماذا جلب لكم؟ هل تغيرت المقادير للأحسن؟ هل اتسعت صدوركم؟ هل دخل السرورُ إليها؟ هل جلب اليأسُ للعاطل وظيفة؟ أم زوّج العانسَ بفارسِ الأحلام؟ هل جلبَ اليأسُ والتشاؤم لصاحبه غنىً بعد ألم الفقر؟ أم تسبّب في حمْلٍ لعاقر؟ أم جلب اليأسُ علماً لجاهل؟ أو قضى دينَ مُعسر؟ أم أصلح ولداً طالحا؟ أجيبوا أيها اليائسون؟ فإن لم تفعلوا أجبنا عنكم: لا وألف لا! لن يجلب لكم اليأسُ والتشاؤمُ إلا مزيداً من الإحباط والأمراض النفسية والقعود عن الأخذ بالأسباب الشرعية والقدَرية!

 

والنتيجةُ: رسوبٌ وخسران، ولا دواء لذلك إلا بالفأل الحسن، وفعلِ كل الأسباب الممكنة، والتوكلِ على الله، وتطهيرِ القلب من الحسد، والرضا بما قسم الله لك، واليقينِ بأن "خيرة الله خيرٌ من خيرتك لنفسك" [هذه العبارة لا تصح حديثًا مرفوعًا، لكن معناها صحيح، ويستأنس لها بقوله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة: 216]، [انظر: كشف الخفاء، للعجلوني (1/ 456)].

 

هنا ستنقشع غيومُ اليأس، وتنهال عليك سحائبُ الفأل بالسعادة والسرور.

 

املأ قلبَك -أيها اليائس المحبَط- من معاني هذه الآية، التي تبدِّد غواش اليأس: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْن) [الرحمن: 29].

 

سل هذا الرب الكريم، الذي: "يغفر ذنباً، ويُفرج هماً، ويكشف كرباً، ويجبر كسيراً، ويغني فقيراً، ويعلّم جاهلاً، ويَهدي ضالاً، ويرشد حيران، ويغيث لهفان، ويَفُك عانياً، ويشبع جائعاً، ويكسو عارياً، ويَشفي مريضاً، ويعافي مبتلىً، ويَقبل تائباً، ويَجزي محسناً، وينصر مظلوماً، ويقصم جباراً، ويُقيل عثرة، ويستر عورة، ويؤمّنُ روعة، ويرفع أقواماً، ويضع آخرين، يُعز ذليلاً، ويُذل عزيزاً، ويعطى سائلاً، ويَذهب بدولة ويأْتي بأُخرى، ويداول الأَيام بين الناس" [الوابل الصيب، ص: 62)، طريق الهجرتين، ص: 123)].

 

ولك في رسل الله الأسوة الحسنة؛ فهذا نبي الله يعقوب -عليه السلام- تتابع عليه الألم، فيفقد ولدَه الأول، ثم الثاني، ثم الثالث، ولم يجعله ذلك يقنط من رحمة الله، أو يستبعد فرَجَ الله، بل قال محذرًا لبنيه حين أرسلهم في طلب اثنين من أبنائه: (يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُون) [يوسف: 87]، وكأن يعقوب يقول:

 

وَإِنِّي لَأَرْجُو اللَّهَ حَتَّى كَأَنَّنِي *** أَرَى بِجَمِيلِ الظَّنِّ مَا اللَّهُ صَانِعُ

 

ومع كل التغيرات العصيبة التي عصفت بيعقوب إلا أن حسن ظنه بالله لم يتغير، وهكذا يثمر التوحيد، وتأمل هذا المشهد العجيب، الذي يَرصد لحظات سَفَر قميص يوسف من مصر إلى الشام: (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) [يوسف: 96].

 

الله أكبر! هذا هو اليقين، وهذه هي ثمرة التعلق بالله، وحسن الظن به.

 

ولسان حال يعقوب ومن سار في ركبه من المتفائلين يقول:

 

سيفتحُ الله باباً كنت تحسبهُ *** من شدة اليأسِ لم يخلق بمفتاحِ

 

بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله...

 

أما بعد:

 

فمع ما سبق تقريره وبيانه يأبى بعضُ الناس إلا أن يُردِّد مفردات اليأس والقنوط، سواء فيما يخصّه أو يخص واقع الأمة، وأننا حالةٌ استثنائية من موضوع الفأل، فهو يعيش اليأس في كل تصرفاته، ولا يكاد يفرح بشيء، ولا ينتظر شيئاً حسناً، بل حتى الأشياء الحسنة تنقلب في عينه سيئةً! ولسانُ حاله يتمثل قول ذاك اليائس: لو اتجّرتُ ببيع الطواقي والكوفيات، لخلق الله أناساً بلا رؤوس!

 

قارن بين هذه النفوس الغارقة في اليأس وبين قول مُوَرّق العجلي -رحمه الله-: "قد دعوتُ الله بحاجةٍ منذ أربعين سنة، فما قضاها لي، فما يَئستُ منها" [الورع لابن أبي الدنيا، رقم (47)].

 

ومن شؤم التشاؤم أن بعض هؤلاء إذا حدّثته بنصوص حسن الظن، وسيرة يعقوب ويوسف ونبينا -عليهم الصلاة والسلام-، قال لك: هؤلاء أنبياء! يعني: لا مجال للمقارنة بيننا! وكأنه يقول: إنها مجرد قصص للتسلية فحسب! ونسي أو تناسى أن الله -تعالى- ختم سورة يوسف بقوله: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) [يوسف: 111]، وأن الله قال لنبيه: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90].

 

إن كثيراً من الأمراض النفسية التي قيّدت بعض الناس -عافانا الله وإياكم منها-، هي ذاتها أصابت آخرين، ولكنها لم تقيّدهم ولم تُقعدهم، بل انطلقوا في فسحة الحياة، ومشوا في مناكب الأرض، والفرق بين الفريقين: هو كيفية التعامل معها، فالأول استسلم، والآخر هزم اليأس بالتوكل على الله، وذبحه بحسن الظن، والفأل الجميل.

 

فيا كل من أوجعته سياط المصائب! هل ترى مَن حولك من السعداء؟ إنهم يعيشون ذات الوقت والزمان الذي تعيشه، يكابدون ما تُكابِد، ويعانون ما تعاني -بل ربما أشدّ- فلستَ وحدك!

 

لكن الفرق بينك وبينهم: أنهم نظروا إلى الحياة بعين التفاؤل، فرأوا الجمال شائعاً في كل ذراته، وأحسنوا الظنّ بالله، وأيقنوا أن خيرته لهم خيرٌ من خيرتهم لأنفسهم، وأن قدَرَه فيهم أحسن من تقديرهم لأنفسهم.

 

إنك تستطيع -إذا أردت التغيير، وتوكلت على الله، وفعلت ما بوسعك من أسباب- أن تستبدل الأحسن بالأسوأ؛ إذا لم ترضَ بالأسوأ، وعملت لتغييره بروح التفاؤل.

 

اللهم املأ قلوبنا ثقةً وحسن ظن بك، وتوكلاً عليك...

 

 

المرفقات

إلى يائس

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات