الهمم العالية ومنزلة السابقين

فيصل بن جميل غزاوي

2022-10-07 - 1444/03/11
عناصر الخطبة
1/ أهمية التنافس في الخيرات 2/ فضل علو الهمة 3/ علو همة السلف الصالح وتسابقهم في الخيرات 4/ الحث على المنافسة في الأعمال الصالحة.

اقتباس

إن السائِرَ على طريق السابِقِين عبدٌ أبِيٌّ فريدٌ، يعلَمُ أن الخيرية لا تنقطِعُ في هذه الأمة، وهو مُتَّبِعٌ لمنهج الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، ومُتمسِّكٌ بدينِه، وقلبُه مُعلَّقٌ بالآخرة، لا يعيشُ من أجلِ نفسِه، ولا من أجلِ شهوتِه ولا من أجل رغَبَاته، بل يعيشُ من أجل دينِه ومن أجلِ أمَّته، يحمِلُ همَّ الدين، ويعملُ ما بوُسعِه من أجل ُصرتِه، ولا ييأَسُ لِما يحِلُّ بالأمة من المصائِبِ والنَّكَبَات؛ بل هو صامِدٌ ثابتٌ مُتفائِل، مُتيقِّنٌ أن النصرَ والتمكينَ لهذا الدين، وأن الغلَبَة والعاقبةَ لأولياء الله المُتقين.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمدُه ونستعينُه ونستغفِرُه، ونعوذُ بالله من شُرور أنفُسِنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهدِه الله فلا مُضِلَّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له، وأشهدُ أنْ لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبِهِ، وسلَّم تسليمًا كثيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70، 71].

 

أما بعد: فإن من الخِصال الجَميلَة، والصفات الحَميدة، والأخلاق الرَّفيعَة: الهِمَّةَ العالِية. والناسُ إنما تعلُو أقدارُهم، وترتفعُ منازِلُهم بحسَب علُوِّ هِمَمهم، وشريف مقاصِدِهم.

 

والمُؤمنُ العاقلُ الرَّشيد يحرِصُ على ما ينفَعُه، وما فيه خيرُه وصلاحُه، ويسعَى في طلبِ الرُّتَب العُليَا في الخير، والسَّبْقِ إلى مرضَاةِ الله تعالى، ومن لم يطلُبِ الكمالَ بقِيَ في النقص، ومن لم تكُن له غايةٌ سامِيَة قصَّر في السَّعيِ، وتوانَى في العمل.

 

روى الطبرانيُّ في "المعجم الكبير" من حديث الحُسين بن عليٍّ - رضي الله عنهما -، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى يُحبُّ معالِيَ الأمور وأشرافَها، ويكرَهُ سَفسَافَها».

وسَفسَافُ الأمور: الحقيرُ والرَّدِيءُ منها، وتوافِهُها التي تُنبِئُ عن الخِسَّة والدناءَة وعدم المُروءة.

 

وقد أخبَرَ الله - سبحانه - في كتابِه المُبين عن فِئةٍ مُؤمنةٍ مُبارَكة علَت نفوسُ أصحابها، وسمَت هِمَمهم، وقوِيَت عزائِمُهم، ذكَرَهم الله مُشِيدًا بهم، مُثنِيًا عليهم بقولِه: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) [الواقعة: 10، 11].

 

قال جماعةٌ من المُفسِّرين: "التكريرُ في قولِهِ تعالى: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) للتفخِيمِ والتعظيم".

كما خصَّ بعضُ العلماء معنى الآية بأشياء؛ فقال عُثمان بن أبي سَودَة: "هم السابِقون إلى المساجِد".

وقال ابنُ سِيرين: "هم الذين صلَّوا إلى القِبلَتَين".

وقال كعبٌ: "هم أهل القرآن". وقيل غير هذا مما هو جُزءٌ من الأعمال الصالحة.

 

والآيةُ أعمُّ من ذلك وأشمَلُ؛ فالسابِقُون هم الذين سبَقَت لهم السعادة، وكانت أعمالُهم في الدنيا سَبقًا إلى التوبةِ، وأعمالِ البرِّ، وتركِ المعاصِي، وهم المُبادِرُون إلى فعلِ الخيرات، كما قال - سبحانه -: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48]، وقال الله - جلَّ ثناؤُه-: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران: 133]، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الحديد: 21].

 

فمن سابَقَ في هذه الدنيا، وسبَقَ إلى فعلِ الخير كان في الآخرة من السابِقِين إلى الكرامَة، قال تعالى: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61].

 

والسابِقُون في الآخرة إلى الرِّضوان والجناتِ هم السابِقُون في الدنيا إلى الخيرات والطاعات، وعلى قَدر السَّبقِ هنا يكون السَّبقُ هناك؛ فإن الجزاءَ من جِنسِ العمل.

 

والسابِقُون هم الذين صدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عليه، وصبَرُوا على ما أصابَهم، وثبَتُوا على الدين، وكانوا دُعاةً للحقِّ والخير.

 

والسابِقُون هم أصحابُ مرتبةِ الإحسان التي بيَّنها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقولِه: «الإحسانُ: أن تعبُدَ اللهَ كأنَّك تراه، فإن لم تكُن تراه فإنه يرَاك».

 

والسابِقُون هم الذين وحَّدُوا اللهَ، ولم يقَع في عملِهم شِركٌ، ثم أدَّوا الفرائِضَ والواجِبات، وزادَ نشاطُهم فأدَّوا النوافِلَ والمُستحبَّات زيادةً على الواجِبات، وسارَعُوا إلى مرضَاة الله بأداء النوافِلِ، وترَكُوا المُحرَّمات واجتنَبُوها، وزادُوا على ذلك فترَكُوا المكرُوهات كراهةَ التنزيه، وترَكُوا أيضًا فُضُولَ المُباحات فلم يتوسَّعُوا فيها؛ خشيةَ الوقوعِ في المكرُوهات والمُحرَّمات.

 

أيها الإخوة: ومما يُلحَظُ في هذه الآيات: أن الله - جلَّ ثناؤُه - لم يذكُر الشيءَ الذي سبَقَ إليه هؤلاء السابِقُون؛ فلم يقُل: سبَقُوا إلى كذا، ولا إلى كذا، وهذا - كما ذكَرَ بعضُ العُلماء - لقَصد جعل وصفِ (السابِقُون) بمنزلَةِ اللَّقَبِ لهم، وليُفيدَ العُموم؛ أي: أنهم سابِقُون فيكل ميدانٍ تتسابَقُ إليه النفوسُ الزكيَّة، كقولِه تعالى: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].

 

وقولُه تعالى: (أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) [الواقعة: 11، 12]، أولئك: أي أصحاب الرَّتَب العلِيَّة من الذين هم أصحابُ المَيمَنة المُقرَّبُون، أي: الذين اصطفَاهم الله تعالى للسَّبق، ولولا فِعلُه في تقريبِهم لم يكُونوا سابِقِين.

 

وهؤلاء السابِقُون في أعلى الجِنان، وأعلى الجِنان أقرَبُ إلى الرحمن؛ لأن الفردوسَ - وهو أعلى درجاتِ الجنة - فوقَه عرشُ الله - عز وجل -.

 

(أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) ذكَرَ منزلتَهم قبل ذِكر منزلِهم؛ فبدأَ بذِكر الثوابِ؛ لأن قُربَهم من الله - عز وجل - فوقَ كل شيءٍ.

جعلَني الله وإياكم منهم، وأكرَمَنا بفضلِه ومِنَّتِه، ورزَقَنا الفردوسَ من الجِنان.

 

وقولُه: (فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) أي: الذي لا نعيمَ غيره؛ لأنه لا كدَرَ فيه بوجهٍ ولا مُنغِّص.

وكما ذكَرَ الله جزاءَ السابِقِين المُقرَّبين في أول سُورة الواقِعة، ذكَرَه في آخرها وذلك في قولِه: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ) [الواقعة: 88، 89].

 

والسابِقُون من هذه الأمة في الصَّدر الأول أكثرُ من مُتأخِّريها، قال الله - عز وجل -: (ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة: 13، 14]، وهذا يدلُّ على فضلِ صَدر هذه الأمة في الجُملة؛ لكَون المُقرَّبين من الأولين أكثرَ من المُتأخِّرين.

 

معاشر المسلمين: وأما إن سألَ أحدُنا عن إمكان الوصولِ إلى منازِلِ أولئك المُقرَّبين، والسَّبيل إلى اللِّحاق برَكبِهم، فإن ذلك يكونُ لمن وفَّقَه الله تعالى للعمل بعملِهم، والسَّير على نهجِهم في الاعتِقادات والأقوال والأعمال، والاتِّصاف بصِفاتهم الحميدة.

 

وقد بيَّن الله تعالى فضلَ السابِقين والذين اتَّبَعوهم بالإيمانِ والطاعةِ بقولِه: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].

 

فصرَّح تعالى في هذه الآية الكريمة بأن الذين اتَّبَعُوا السابِقِين الأولين من المُهاجِرين والأنصار بإحسانٍ، أنهم داخِلُون معهم في رِضوانِ الله تعالى، والوَعد بالخُلُود في الجناتِ والفوز العظيم.

 

وبيَّن في مواضِعَ أُخر: أن الذين اتَّبَعُوا السابِقِين بإحسانٍ يُشارِكُونَهم في الخير، كقولِه - جلَّ وعلا -: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ ..) [الجمعة: 3] الآية، وقولِه: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ ..) [الحشر: 10] الآية، وقولِه: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) [الأنفال: 75].

 

ومما يُستشهَدُ به في هذا البابِ: حديثَان أخرجَهما مُسلمٌ عن أبي هُريرة - رضي الله عنه -، وهما:

قولُه - صلى الله عليه وسلم -: «ودِدتُ أنا قد رأينَا إخوانَنا»، قالوا: أوَلَسنَا إخوانَك يا رسولَ الله؟ قال: «أنتم أصحابِي، وإخوانُنا الذين لم يأتُوا بعد ..» الحديث.

وقولُه - صلى الله عليه وسلم -: «من أشدِّ أمَّتي لي حُبًّا: ناسٌ يكونون بعدِي يَوَدُّ أحدُهم لو رآني بأهلِه ومالِه».

 

فانظُر - عبدَ الله - مدَى حبِّ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لأمَّتِه، وتمنِّيه رُؤية أتباعِه الذين أتَوا من بعدِه، ممن صدَقَ في محبَّته وبرهَنَ على ذلك بالتمسُّك بسُنَّتِه، واتِّباع هديِه، والثَّبات على دينِه.

 

وما أعظمَ أن يعملَ المرءُ بعملِ أولئك الأخيار الذين وصَفَهم الله تعالى بقولِه: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ) [المؤمنون: 61]؛ أي: يُسارِعون في الطاعات والعبادات كي ينالُوا بذلك أعلَى الدرجات والغُرُفات.

 

فسابِقْ - عبدَ الله - إلى ما ينفَعُك، ونافِسْ في طلَبِ العُلا.

قال وُهيبُ بن الوَرد: "إن استطعتَ ألا يسبِقَك إلى الله أحدٌ فافعَل".

وقال الحَسَن: "من نافسَكَ في دينِك فنافِسْه، ومن نافسَكَ في دُنياه فألقِها في نَحرِه".

واحسرَتاهُ تقضَّى العُمرُ وانصَرَمَت *** ساعاتُه بين ذُلِّ العجزِ والكسَلِ

والقومُ قد أخذُوا دربَ النجاةِ وقدْ *** سارُوا إلى المطلَبِ الأعلى على مهَلِ

 

أقولُ هذا القولَ، وأستغفِرُ الله لي ولكم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ لله وليِّ المُتقين، والصلاةُ والسلامُ التامَّان الدائِمان على رسولِ الهُدى وإمام التُّقَى المبعُوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبِه وتابعِيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن مُحمدًا عبدُه ورسولُه، وخليلُه وصفيُّه، أقوَى الناس عَزمًا، وأكثرُهم تقوًى وحَزمًا، وأسبقُ العباد إلى الخيرات، وأسرَعُهم في فِعلِ الصالحات.

 

أما بعد: فمن البشائِر التي يُبشَّرُ بها العامِلُون: ما ثبَتَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «في كل قَرنٍ من أمَّتي سابِقُون» (رواه أبو نعيم في "الحلية" عن ابن عُمر - رضي الله عنهما -، وهو حديثٌ حسنٌ).

 

وهذا الحديثُ يدُلُّ بمنطُوقِه على أن السابِقين من أمَّة محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في كل قَرنٍ جماعةٌ منهم، فلا يخلُو منهم قَرنٌ - بحمدِ الله -، وفي كل قَرنٍ يُعيدُ اللهُ اليقينَ إلى نفوسِ الأمة بأن يجعلَ فيها سبَّاقين في الخير، قد أحرَزُوا قَصبَ السَّبق، لا يُبالُون بالمِحَن، يتأسَّى الناسُ بهم، وعلى هذا سيبقَى في كل قَرنٍ صِدِّيقُون وشُهداءُ وصالِحون - بإذن الله تعالى -.

 

وفي هذا حثٌّ للمرءِ وهو في سَيره إلى مولاه أن يشحَذَ هِمَّتَه، ويطلُبَ العوالِي، وينشُدَ المعالِي، ويسعَى لها سعيَها، وفي المُقابِلِ لا يرضَى بالدُّون ويستسلِمُ للضَّعف والهُون.

 

قال ابنُ القيِّم - رحمه الله -: "اعلَم أن العبدَ إنما يقطعُ منازِلَ السَّير إلى الله بقلبِه وهِمَّته لا ببدنِه".

 

والتقوَى في الحقيقةِ تقوَى القلوب لا تقوَى الجوارِح، قال الله تعالى: (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج: 32].

 

فالكيِّسُ يقطعُ من المسافة بصحَّة العزيمة، وعلُوِّ الهِمَّة، وتجريد القَصد وصحَّة النيَّة، مع العمل القليلِ أضعافَ أضعافِ ما يقطعُه الفارِغُ من ذلك مع التعبِ الكثير، والسفَر الشاقِّ؛ فإن العزيمةَ والمحبَّة تُذهِبُ المشقَّة، وتُطيِّبُ السَّيرَ والتقدُّم.

 

والسَّبقُ إلى الله - سبحانه وتعالى - إنما هو بالهِمَم، وصِدق الرَّغبَة والعزيمة، فيتقدَّمُ صاحبُ الهِمَّة مع سُكُونه صاحبَ العمل الكثير بمراحِل؛ فالسَّيرُ سَيرُ القلوب، والسَّبْقُ سَبْقُ الهِمَم.

 

عباد الله: أصحابُ الهِمَّة العالِية يجُودُون بالنفسِ والنَّفيسِ في سبيلِ تحصيل غايتِهم، وتحقيق بُغيَتهم؛ لأنهم يعلَمون أن المكارِمَ منُوطةٌ بالمكارِه، وأن المصالِحَ والخيرات واللذَّات والكمالات كلَّها لا تُنالُ إلا بحظٍّ من المشقَّة، ولا يُعبَرُ إليها إلا على جسرٍ من التَّعب.

 

والمُؤمنون طُلاَّبُ المراتِبِ العُلَى يطمَحُون إلى أعلى ما في الجنَّة، وهو الفردوسُ الأعلى، وهذا هو الذي أرشدَنا إليه رسولُنا - صلى الله عليه وسلم - إذا سألنا اللهَ الجنةَ أن نسألَه الفردوسَ. وهذا يدُلُّ على أن الفردوس فوق جميع الجِنان. ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - تعليمًا للأمة، وتعظيمًا للهِمَّة: «فإذا سألتُم اللهَ فاسألُوه الفردوسَ».

 

أيها الإخوة: إن السائِرَ على طريق السابِقِين عبدٌ أبِيٌّ فريدٌ، يعلَمُ أن الخيرية لا تنقطِعُ في هذه الأمة، وهو مُتَّبِعٌ لمنهج الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، ومُتمسِّكٌ بدينِه، وقلبُه مُعلَّقٌ بالآخرة، لا يعيشُ من أجلِ نفسِه، ولا من أجلِ شهوتِه ولا من أجل رغَبَاته، بل يعيشُ من أجل دينِه ومن أجلِ أمَّته، يحمِلُ همَّ الدين، ويعملُ ما بوُسعِه من أجل ُصرتِه، ولا ييأَسُ لِما يحِلُّ بالأمة من المصائِبِ والنَّكَبَات؛ بل هو صامِدٌ ثابتٌ مُتفائِل، مُتيقِّنٌ أن النصرَ والتمكينَ لهذا الدين، وأن الغلَبَة والعاقبةَ لأولياء الله المُتقين.

 

ألا وصلُّوا وسلِّموا - رحِمَكم الله - على النبيِّ المُصطفى، والرسولِ المُجتبَى، أمرَكم بذلك ربُّكم - جلَّ وعلا -، فقال تعالى قولاً كريمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].

 

اللهم على محمدٍ وعلى آلِ مُحمدٍ، وعلى أزواجِه وذُريَّته، كما صلَّيتَ على آل إبراهيم، وبارِك على محمدٍ وعلى أزواجِه وذُريَّته، كما بارَكتَ على آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد.

 

اللهم أعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الكفرَ والكافرين، وانصُر عبادَك المُوحِّدين، ودمِّر أعداءَك أعداءَ الدين، واجعَل هذا البلدَ آمنًا مُطمئنًّا وسائرَ بلاد المُسلمين.

 

اللهم انصُر من نصرَ الدين، واخذُل من خذلَ عبادَك المُؤمنين.

اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلِح الأئمةَ ووُلاةَ الأمور، واجعَل ولايتَنا فيمن خافَك واتَّقاك، واتَّبع رِضاك يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، وخُذ بناصِيتِه للبرِّ والتقوَى.

اللهم ألِّف بين قلوبِ المُؤمنين، وأصلِح ذاتَ بينهم، واهدِهم سُبُل السلام، ووحِّد صفوفَهم، واجمَع كلمتَهم على الحقِّ يا رب العالمين، اللهم انصُر على عدوِّك وعدوِّهم يا قويُّ يا عزيز.

 

اللهم كُن لإخواننا المُستضعَفين والمُجاهدين في سبيلِك والمُرابِطين على الثُّغور، اللهم كُن لهم مُعينًا ونصيرًا، ومُؤيِّدًا وظَهيرًا.

 

اللهم أنجِ المُستضعَفين من المُؤمنين، اللهم ارفَع البلاءَ عن إخوانِنا في الشام، وفي اليمن، وفي العراق، وفي بُورما، وفي كل مكانٍ، اللهم ارفَع الظُّلمَ والطُّغيانَ عنهم، اللهم اكشِف كُربتَهم، اللهم اجعَل لهم من كل همٍّ فرِجًا، ومن كل ضيقٍ مخرَجًا، ومن كل بلاءٍ عافِية، اللهم استُر عوراتهم، وآمِن روعاتهم، وأنزِل السَّكينةَ عليهم، اللهم ارحَم موتاهم، واشفِ مرضاهم، وفُكَّ أسراهم.

 

اللهم أنزِل عذابَك الشديدَ وبأسَك الذي لا يُردُّ عن القوم المُجرمين على من تسلَّط عليهم وظلَمَهم يا قويُّ يا عزيز، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجِزونَك، اللهم زلزِلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلِّط عليهم من يسومُهم سُوءَ العذابِ يا قويُّ يا متين.

 

اللهم مُنزِلَ الكتاب، ومُجرِيَ السحاب، وهازِمَ الأحزاب، اهزِمهم وانصُر المُسلمين عليهم يا رب العالمين.

 

وآخرُ دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.

 

 

المرفقات

العالية ومنزلة السابقين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات