فضل مواساة المؤمنين

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ الإنسان كائن اجتماعي 2/مفاضلة الله بين خلقه 3/أنواع البر كثيرة ومتعددة 4/قضاء الحوائج مبدأ رائد 5/الحث على خدمة الناس 6/ثمرات قضاء الحوائج 7/معونة الله للمتعاونين.

اقتباس

إن خدمة الناس، وتلمس حاجات المستضعفين، دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحسن السريرة، وإنما يرحم من عباده الرحماء، والساعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة، مؤيد بالتوفيق، وفي بذل الجاه للضعفاء ومساندة ذوي العاهات والمسكنة نفعٌ في العاجل والآجل...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي رضي من عباده باليسير من العمل، وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل، أحمده -سبحانه- أفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, دعا عباده إلى دار السلام، فعمهم بالدعوة حجة منه عليهم وعدلاً، وخص بالهداية والتوفيق من شاء نعمة منه وفضلاً. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله بشَّر وأنذر، ودعا وحذَّر، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

 

أمّا بعد: فاتّقوا الله حقَّ تقواه، واخشَوه وراقبوه مراقبةَ من يعلَم أنّ الله مطَّلعٌ على سرِّه ونجواه، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].

 

عباد الله: الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، فهو لا يستطيع أن يحيا في هذا الكون بمفرده، وهو في بعض شؤون حياته مجبر على التعاون مع الآخرين لتستمر الحياة، وأبسط مثال على ذلك رغيف الخبز، فمن نظر في الخبز حتى يصله يجد آلاف الأيدي عملت فيه قبل أن يصله، فمن يد زارع، وحاصد، وناقل، وموزع، وطاحن، وخابز، وموزّع، وهذا مثال واحد لا يستغني الناس فيه بعضهم عن بعض.

 

وقد خلق الله الناس مختلفين ليتعاونوا, إذ التعاون يعد من أفضل السلوكيات بين بني البشر فهو أساس البناء الفعّال، وكثيرًا ما يكون النجاح والسعادة من نصيب المتعاونين.

 

وقد يفوق ثواب التعاون بعض الأمور التعبدية وخاصة في غير الواجبات العينية؛ لأن التعبد نفعه شخصي، أما التعاون فنفعه عام، يقول الله تعالى مؤكداً أهمية التعاون في حياتنا: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ) [المائدة: 2].

 

عباد الله: لقد فاضَل الله بين عباده فيما منحهم، في العلم والعبادة، وفي الشرف والجاه، وسخّر بعضهم لبعض ليتحقق الاستخلاف وتُعمر الأرض، وقد جرت سنة الله تعالى في البشر أن رفع بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرياً، قال -سبحانه-: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)  [الزخرف: 32].

 

فالأحوال متفاوتة، والأرزاق متباينة، والهبات مختلفة، والمواقف متغايرة، والحظوظ متنوعة، ولكن السعادة تكمل، والغبطة تتم، إذا ساد خُلق التعاون، وفشت روح المودة، وعظمت روابط المحبة، وقامت سوق الأخوة، وهبّت نسائم الرحمة، وفاح عبير التعاطف، فيرفق القوي بالضعيف، ويجود الغني على الفقير، ويعطف الكبير على الصغير، وعندها تحلو الحياة في طاعة الله.

 

إن دروب الخير كثيرة، وأنواع البر متعددة، ومجالات الإحسان متنوعة، ومن أعظم ذلك: السعي في حوائج المسلمين، والإحسان إلى المؤمنين؛ من إطعام للجائع، وكسوة للعاري، وعيادة للمريض، وتعليم للجاهل، وإنظار للمعسر، وإعانة للعاجز، وإسعاف للمنقطع، وكفالة لليتيم، وتفريج للهمّ، وشفاعة في الخير، وخير الناس أنفعهم للناس.

 

وتأمل معي -أخي الكريم- ما صح  عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ، يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا، سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ" [مسلم (2699)].

 

عباد الله: إن قضاء الحوائج مبدأ رائد، وخلق ماجد، وفعل مأجور، وعمل مبرور، وسعي مشكور، يُفرّج بها الهم، ويُحقن بها الدم، ويُنفَّس بها الكرب، ويُفكّ بها الأسير، وإن هنالك أناساً اختصهم الله تعالى بقضاء حوائج عباده، والسعي في مصالحهم، وجعلهم للمعروف أهلاً، وللإحسان مقصداً، حبَّبَه إليهم، وحبَّبهم إليه، مفاتيح للخير، مغاليق للشر، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ لِلَّهِ عَبَّادًا اخْتَصَّهُمْ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ، يُقِرُّهُمْ فِيهَا مَا بَذَلُوهَا، فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ، فَحَوَّلَهَا إِلَى غَيْرِهِمْ" [الطبراني وحسنه الألباني في صحيح الترغيب(2617)]. قال بعضهم: "اصنع الخير عند إمكانه، يبقَ لك حمده عند زواله، وأحسن والدولة لك، يحسن لك والدولة عليك، واجعل زمان رخائك عدةً لزمان بلائك".

 

عباد الله: إن نفع الناس، والسعي في كشف كروبهم، وقضاء حوائجهم شأن نبلاء الإسلام، وأعلام الأمة، فالكريم يوسف -عليه السلام- مع ما فعله إخوته جهَّزهم بجهازهم، ولم يبخسهم شيئًا منه، قال تعالى: (فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ) [يوسف: 70].

 

وموسى -عليه السلام- لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون، ووجد من دونهم امرأتين مستضعفتين، سقى لهما حتى رويت أغنامهما، قال -سبحانه-: (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ) [القصص: 23، 24].

 

وأشرف الخلق محمدٌ كان إذا سئل عن حاجة لم يردَّ السائل عن حاجته، يقول جابر -رضي الله عنه-: "ما سُئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا قط فقال: لا" [البخاري(6034) ومسلم(2311)]، والدنيا أقل من أن يُردَّ طالبها، وخديجة -رضي الله عنها- تقول في وصف نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم-: "إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق" [البخاري(4953) ومسلم(160)].

 

وعلى هذا النهج القويم سار الصحابة والصالحون، فقد كان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يتعاهد الأرامل، يسقي لهن الماء ليلاً، وكان أبو وائل -رحمه الله- يطوف على نساء الحي وعجائزه كل يوم، فيشتري لهن حوائجهن وما يُصلحهن، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أخِيهِ" [مسلم (2699)].

 

ولقد رأى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- وهو خليفة المسلمين يتردد على بيت من بيوت المسلمين فتبعه وهو لا يشعر به، ثم بعد ما انصرف الخليفة دخل المنزل، فوجد امرأة كبيرة في السن ضريرة لا تبصر، فسألها: ماذا يصنع هذا الرجل عندكم؟ فقالت: هو يعتني بنا، فيقمُّ المنزل، ويعجن العجين ويعد لهم الطعام، ثم ينصرف. فقال عمر: "لقد أتعبت من خلفك يا أبا بكر". وهذا العمل من الأعمال الخفية التي لا يعلم بها الناس، ولولا تتبع عمر لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-ما ما علم الناس بها!!

 

ويروى أن الخليفة الفاروق مر بمنزل من منازل المسلمين في الليل فسمع أصوات الصبيان الصغار يبكون فطرق الباب ودخل، وقال: ما بال هؤلاء الصبية يبكون؟ قالت: من الجوع ولا أجد ما أطعمهم، فذهب مسرعًا إلى بيت المال وأخذ طحينًا وغيره من قوت وحمله على ظهره وغلامه يتبعه إلى منزل المرأة، وأوقد النار وصنع لهم طعامًا حتى أكلوا جميعًا وشبعوا ثم ناموا, فلما أراد أن ينصرف شكرته المرأة، وقالت: والله إنك خير من عمر، قال لها: وما أدرى عنك عمر، أي لما لا ترفعوا حاجتكم إلى عمر حتى يسد حاجتكم.

 

ومع ذلك لم يخبرها أنه الخليفة عمر الفاروق، بل جعل هذا العمل سرًّا يرجو ثوابها، ولو لم ينقل الغلام الذي صاحبه تفاصيل هذه القصة لم نعرف عنها شيئًا, فإحسان الصالحين وصدقاتهم بالسر كثيرة ولا يعلم عن أكثرها إلا الله، ولن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.

 

وقد دخلوا على بشر الحافي في يوم شديد البرد، وقد تجرد وهو ينتفض، فقالوا‏:‏ ما هذا يا أبا نصر‏؟‏ فقال‏:‏ "ذكرت الفقراء وبردهم، وليس لي ما أواسيهم، فأحببت أن أواسيهم في بردهم".‏

 

عباد الله: كثير منا أشغلته الدنيا وأمورها عن تلمس حاجة إخوانه وجيرانه المسلمين وتفقد أحوالهم وكأننا لم نسمع بحديث: "مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، وكثير من الناس لا يعرف حاجة جاره أو صديقه المحتاج، وقد ورد في حديث زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "صَنَائِعُ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعَ السُّوءِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ، وَصَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضِبَ الرَّبِّ" [ صحيح الترغيب (881)].

 

وإليك قصة عجيبة غريبة وقعت حول صنع المعروف وثمرته العاجلة والآجلة وأحببت أنقلها لكم, ذكرت إحدى الأخوات أنها تنفق من راتبها الشهري مبلغاً وقدره 1500 ريال، تعطيه شهرياً لأسرة فقيرة، وهم لا يعلمون من يعطيهم هذا المال كل شهر، فتقول: أذهب أنا وزجي نهاية كل شهر إلى ذلك البيت، وأضع المبلغ في ظرف وأدخله من تحت عقب الباب، وتقول: الحمد لله رأيت بركة في مالي ومال زوجي، فاشتريت أرضاً وبيتاً، وبنيناً عمارة ولله الحمد، وكل ذلك بفضل تلك الصدقة التي منَّ الله بها علينا، وألهمنا ذلك الباب العظيم الذي نستطيع من خلاله مساعدة إخواننا الفقراء والمساكين، وتزكية لأموالنا ولنفوسنا، وتطهرينا لقلوبنا، قال تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [التوبة: 103].

 

وعن سالم عن أبيه، أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، قال: "المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة، فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة" [مسلم (2580)]، فالجزاء من جنس العمل والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.

 

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال -عليه الصلاة والسلام-: "الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل الصائم النهار"[البخاري (5353) ومسلم (2982)].

 

اللهم إنا نسألك فعلَ الخيرات وترك المنكرات وحبَّ المساكين، اللهم خذ بأيدي أغنيائنا لعون فقرائِنا، وكن للفقراء واليتامَى والأرامل والأيامَى؛ إنك جواد كريم.

 

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولكافّة بني الإسلامِ مِن جميع الخطايا والآثام، فاستغفروه وتوبوا إليه على الدّوام، فيا لَفَوز المستغفرين، ويابشرى للتائِبين، جعلنا الله وإيّاكم منهم بفضلِه وكرمه، اللّهم آمين.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله، وفّق من شاء للإحسان وهدى، وتأذن بالمزيد لمن راح في المواساة أو غدَا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريك له شهادةً نرجو بها نعيمًا مؤبَّدا، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله أندى العالمين يدًا وأكرمهم محتِدا، صلّى الله عليه وعلى آله وصحبِه أهل التراحم والاهتداء وبذل الكف والندى، ومن تبعهم بإحسان ما ليلٌ سجَى وصبح بدَا، وسلّم تسليمًا سرمدا أبدًا.

 

أما بعد: فاتقوا الله ومدُّوا لإخوانكم المحتاجين رِفدًا ويدًا، تُفلِحوا في دنياكم وآخرتكم غدًا.

 

عباد الله: إن خدمة الناس، وتلمس حاجات المستضعفين، دليل على طيب المنبت، ونقاء الأصل، وصفاء القلب، وحسن السريرة، وإنما يرحم من عباده الرحماء، والساعي لقضاء الحوائج موعود بالإعانة، مؤيد بالتوفيق، وفي بذل الجاه للضعفاء ومساندة ذوي العاهات والمسكنة نفعٌ في العاجل والآجل.

 

عباد الله: إن الدنيا محن، والحياة ابتلاء، فالقوي فيها قد يضعف، والغني ربما يُفلس، والحي فيها يموت، والسعيد من اغتنم جاهه في خدمة الدين ونفع المسلمين، والمعروف ذخيرة الأبد، والسعي في شؤون الناس زكاة أهل المروءة، ومن المصائب عند ذوي الهمم عدم قصد الناس لهم في حوائجهم. يقول حكيم بن حزام -رضي الله عنه-: "ما أصبحت وليس على بابي صاحب حاجة إلا علمت أنها من المصائب".

 

وأعظم من ذلك أنهم يرون أن صاحب الحاجة منعِم ومتفضل على صاحب الجاه حينما أنزل حاجته به، يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "ثلاثة لا أكافئهم: رجل بدأني بالسلام، ورجل وسَّع لي في المجلس، ورجل اغبرت قدماه في المشي إليَّ إرادة التسليم عليَّ، فأما الرابع فلا يكافئه عني إلا الله. قيل: ومن هو؟ قال: رجل نزل به أمرٌ فبات ليلته يفكر بمن يُنزِله، ثم رآني أهلاً لحاجته فأنزلها بي".

 

عباد الله: في خدمة الناس بركةٌ في الوقت والعمل، وتيسيرُ لما تعسَّر من الأمور، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "من يسر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة" [مسلم(2699)].

 

فيا أيها الناس: اتقوا الله في إخوانكم الفقراء والمحتاجين، فهم بأمس الحاجة لكم، مدوا لهم يد العون، وحصّنوا فروجهم، واحفظوا أهليهم من الضياع، وكرامتهم من التدنيس، ارعوا حق عائلهم، فمنهم المتعفف الذي لا يبوح لأحد بمسكنته وحاجته، ومنهم من لا تعرف فقره وخلته؛ لأنك إذا رأيته فربما حسبته من الأغنياء من التعفف، قال تعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) [البقرة: 273].

 

فمن أراد أن يفرّج الله همه، وينفّس كربه، فليجتهد في تفريج همّ المهمومين، وتنفيس كرب المكروبين، واعلموا أن صنائع المعروف تقي مصارع السوء، والصدقة تطفئ غضب الرب، وصلة الرحم تزيد في العمر، وكل معروف صدقة.

 

فعلى المسلم أن يكون سنداً لإخوانه، عوناً لهم على نوائب الدهر، ومصائب الزمان، ولا يتركهم فقراء محتاجين، وهو يتقلب في نعيم الدنيا ومتاعها.

 

وعلينا -معاشر المسلمين- أن نسعى جاهدين لمعرفة المحتاجين والمعوزين، ونبتدرهم نحن بالعطاء حتى لا نُلجئهم إلى السؤال، ونحوجهم للحاجة، لنسد حاجاتهم، ونعطيهم من مال الله الذي آتانا، قال تعالى: (وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ) [النور: 33]، فالله تفضل علينا من فضله العظيم، وجاد علينا من بحر جوده العميم، فيجب علينا أن نُري الله من أنفسنا خيراً، ونعلم أن هذه الأموال والنعم التي بأيدنا إن لم نؤد حقها فستكون وبالاً وعذاباً نصلاه يوم القيامة، قال تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) [الليل: 8 - 10]. وقال تعالى: (هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) [محمد: 38].

 

وكان الإحسان إلى الناس صفة من صفاته -صلى الله عليه وسلم-، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- يحب إعانة المسلمين، ويسعى في قضاء حاجاتهم؛ ولهذا وصفته خديجة -رضي الله عنها- بعد نزول الوحي بأنه يعين على نوائب الحق، وهي من أشرف الخصال وأجلّ الخلال.

 

عباد الله: إن من مواساة المسلمين أن يسعى المؤمن في خدمة إخوانه؛ سواء بفعل فيه نفعهم وسعادتهم، أو بإزالة ما يؤذيهم ويضيّق عليهم, ولذا كان إماطة الأذى عن طريق المسلمين تعاونا يحبه الله ويشكر لصاحبه صنيعه، ويحبه رسوله ويحبه الناس.

 

ولما كان أصل التعاون هو إحساس المرء بالآخرين، وشعوره بآلامهم وأفراحهم ومشاركته لهم فيها؛ فإن هذا الإحساس مثاب عليه ولو كان في البهائم، فإعانته لها في مأكلها ومشربها له فيه أجر، وليس أعظم دلالة وأكبر شاهد من حديث أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان على الطريق غصن شجرة يؤذي الناس فأماطها رجل، فأدخل الجنة" [ابن ماجه (3682) وصححه الألباني].

 

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ" [ البخاري (3467)].

 

عباد الله: مواساة الناس تنجّي من كرب يوم القيامة، ومهما تعاظمت كروب الدنيا على الإنسان؛ فإنها لن تبلغ معشار كربة من كرب يوم القيامة الذي يُحشر فيه الناس حفاة عراة غُرلاً, وقد جعل الله جزاء من أعان أخاه على كربة من كرب الدنيا فنفّسها أو فرّجها عنه أن ينفّس عنه كربة من كرب يوم القيامة، وذلك -والله- أعظم كرب وأفضل جزاء وأهمه.

 

وإن من أفضل المواساة إدخال الفرح على أخيك وتبشير بما يفرحه وبما يسعده، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ : سُئِلَ رَسُوْلُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: "أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيْكَ الْمُؤْمِن سُرُوراً ، أَوْ تَقْضِي لَهُ دَيْناً ، أَوْ تُطْعِمْهُ خَبْزاً" [قضاء الحوائج لابن أبي الدنيا (112) وحسنه الألباني في صحيح الجامع (1096)]. والله تعالى يكون في عون من يواسون الناس، قال -صلى الله عليه وسلم-: "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه".

 

وتأمل معي -أخي الكريم- عظمة هذا الحديث الشريف، حيث جعل -سبحانه- إحسانك لعباده هو إحسان له، فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -عز وجل- يقول يوم القيامة: يا ابن آدم مرضت فلم تعدني، قال: يا رب كيف أعودك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أن عبدي فلانًا مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده؟ يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني، قال: يا رب وكيف أطعمك؟ وأنت رب العالمين، قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان، فلم تطعمه؟ أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم استسقيتك، فلم تسقني، قال: يا رب كيف أسقيك؟ وأنت رب العالمين، قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته وجدت ذلك عندي" [مسلم (2569)]، وكل هذا يصدقه قول الله تعالى: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً) [المزمل: 20].

 

نسأل الله أن يجعلنا من المحسنين المصلحين، ونعوذ بالله أن نكون من الفاسدين أو المفسدين، اللهم يا حي يا قيوم، يا عظيم المن، يا كريم العطايا، يا واحد يا أحد، يا ذا الجلال والإكرام نسألك صحة في إيمان، وعافية في حسن خُلق، اللهم انفعنا وانفع بنا، واهدنا واهد بنا واجعلنا سببا لمن اهتدى.

 

 

المرفقات

مواساة المؤمنين

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات