التيسير في الفتاوى

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2022-10-08 - 1444/03/12
عناصر الخطبة
1/ الإنسان بطبعه يحب السهل 2/التحذير من اتباع الهوى 3/الإفتاء مسؤولية عظيمة 4/صفات من تطلب منه الفتوى 5/التحذير من تتبع زلات العلماء 6/التوسع في الضرورات طريق للتفلت من الأحكام.

اقتباس

الفتوى إنما تكون بحسب منهج الله ودينه وشرعه، ولا يصح أبداً الاجتهاد مع وجود النص الشرعي، وإنما يكون الاجتهاد عند عدم وجود نص، ولهذا من يطلب الترخص في أمور قد قطع الله فيها وبيّن حكمها إنما يطلب الأعذار والتملق عن الحق...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي هدانا للدين القويم، ومنّ علينا بأن جعلنا من أمة وسط؛ هي خير أمة أخرجت للناس، وأصلي وأسلم على خير مبعوث بعث لخير أمة, نبي الهدى والرحمة، حبيب الله أبي القاسم سيد بني هاشم، الذي تركنا على المحجة البيضاء, ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه وأزواجه أجمعين.

 

وبعد:

 

عباد الله: قضية من القضايا الشائكة التي تطرق كثيراً على مسامعنا في هذا الزمان، ويقف كثير من المسلمين تجاهها حيارى لا يعلمون صوابها من خطئها، وما هي حدودها؟ وما ضوابطها؟ إنه موضوع التيسير في الفتوى.

 

إن الإنسان بطبعه يحب الراحة والدعة، ويجنح إلى التسهيل والتيسير، ويأنف من التشديد والتعسير، ولهذا فإن كثيرا من الناس يبحث عن الرخص والفتاوى السهلة، والأحكام التي يرى في نفسه أنها توافقه، أو بالأصح توافق هواه وشهوته.

 

كم من الناس اليوم من نراه يبحث عن المفتي الذي يعتقد في نظره أنه يتسم بالتساهل واللين، ويبحث عن الفتاوى التي يرى أن فيها متنفس له، وإذا وقع في أمر تحيّر فيه وقالوا له أن الحكم كذا وكذا؛ قال ألا يوجد هناك حكم آخر أو فتوى أسهل؟؟!.

 

إن هذا الشخص في الحقيقة لا يبحث عن الحق، ولا يريد الحكم الشرعي الصائب، ولا يتطلع إلى البحث عن الخلاص الذي يُخلّصه فعلاً من عذاب الله وأليم عقابه بإرادة الحق، والإذعان له، والقبول به، وإنما يبحث عن هوى في نفسه، وتخلص من أحكام الله إلى أحكام البشر وأقوالهم ورخصهم.

 

وهذا هو الهوى الذي حذر الله -سبحانه وتعالى- منه، ونهى عن مجالسة أهله، واعتبره نوع من أنواع الشرك والعبودية لغير الله، يقول الله -جل وعلا-: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا) [الفرقان : 43] وقال: (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [القصص : 50]، ويقول: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [الجاثية : 23].

 

عباد الله: إن الإفتاء منصب كبير، ومسؤولية عظيمة، ولَّاها الله -سبحانه وتعالى- من هو أهلاً لها، وجعل العلماء ورثة الأنبياء وموقعين عنه -جلّ وعلا-، ولذلك يجب على المفتي عند الإفتاء أن يتحرى الحق, ويعتمد القول الأصوب الذي يبرئه أمام الله -جل جلاله-، وليس القول الأسهل الذي يجعل الناس يلتفون حوله ويعجبون من أقواله وفتاويه.

 

إن المتأمل لسير سلف الأمة وعلمائها الأعلام يجد أنهم كانوا يتورعون عن الإفتاء، ويحيل بعضهم على بعض عند الفتوى، وكل واحد منهم يرى أن الآخر هو أعلم منه، فلذلك لا يفتي عند وجوده، بعكس ما نراه اليوم من تسابق كثير من الصغار وطلاب العلم على الفتوى في القنوات، وتصدر المجالس للقول على الله بعلم أو بغير علم.

 

تأملوا في قول الله -سبحانه وتعالى-: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ) [النساء : 127]، فالفتوى لله، والحكم له، والأمر من عنده، والمفتي إنما يفتي عن الله؛ فلذلك لايجوز أن يستفتي الإنسان إلا من اتصف بالعلم والصدق، وكان مرضيّ السيرة حسن الطريقة، عدلاً في أقواله وأفعاله، متشابه السر والعلانية في مدخله ومخرجه وفي كل أحواله.

 

يقول ابن أبي ليلى -رحمه الله-: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أحدٌ منهم يُحَدِّث إلا وَدّ أن أخاه كفاه الحديث، ولا يُسأل عن فتوى إلا وَدّ أن أخاه كفاه فتياه" [سنن الدارمي (1/52) ]. وقال الأعمش: "ما سمعت إبراهيم النخعيّ قَطّ يقول حلال ولا حرام، إنما كان يقول: كانوا يتكرّهون، وكانوا يستحبون" [سنن الدارمي (1/64)].

 

بعض الناس ربما يتعلل بقولهم: "إن الدين يسر"، وأن مزايا الشريعة الإسلامية التيسير وليس التعسير، ويستدلون بقول الله -سبحانه وتعالى-: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : 185]، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ دِينَ الله يُسرٌ، ولَن يُشَادّ الدِّين أَحدٌ إلاَّ غَلَبَهُ" [صحيح البخاري (39) ، صحيح مسلم (2816)].

 

وهذا حق بلا شك، والإسلام دين السماحة واليسر، ولكن هذه السماحة واليسر إنما تكون في حدود الشريعة وداخل النص الشرعي، وليس في التفلت عن أحكام الله والتهرب منها، والبحث عن الرخص والفتاوى الشاذة بحجة أن الدين يسر.

 

لقد أمرنا الله تعالى باتباع الحق والتزام طاعة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ونهى عن اتباع الهوى، وتتبع الرخص فقال: ( فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص : 26]، وقال: (ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [الجاثية : 18]. وقد نقل ابن عبد البر -رحمه الله- الإجماع على المنع من تتبع الرخص. [جامع بيان العلم وفضله (2/92) ]، وعدَّه جمع من الفقهاء مما يفسق به فاعله. ويقول الإمام الذهبي -رحمه الله-: "من يتبع رخص المذاهب، وزلاّت المجتهدين فقد رَقَّ دينه" [سير أعلام النبلاء (8/81)].

 

إن العجيب من بعض الناس أنه يستنكر بفطرته مثل هذه الفتاوى، ويرى بعقله أنها غير صحيحه ومخالفة لمنهج الإسلام وشريعته، ولكنه يتقبل ذلك بحجة أن المفتي هو من يتحمل هذه الفتوى، وينسى أنه شريكه في الإثم، ومعين له على الباطل، وأن هذا الحكم الذي أصدره له أو أفتاه به إنما هو حكم باطل لا قيمة له، ولا اعتبار به، ولا تعتبر فتوى شرعية صحيحه.

 

ويوم القيامة سيندمون على ذلك ويتأسفون عليه، يقول الله -جل جلاله-: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ) [الأحزاب 66: 68].

 

فاتقوا الله في فتاواكم، واسلكوا سبيل الجادة والصواب، واعلموا أنكم ستقابلون الله بأنفسكم، ولن يغني أحد يومئذ عنكم من الله شيئاً، فاختاروا المفتي الذي يقضي بالحق وبالحق يفتي، ولا تتبعوا الهوى فيضل بكم عن سبيل الله، (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ) [الزمر : 23].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله الذي خلق فسوَّى، والذي قدَّر فهدى، والذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ نبينا محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-.

 

أما بعد:

 

أيها المسلمون: روى الترمذي في سننه: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ مُعَاذًا إِلَى اليَمَنِ، فَقَالَ: كَيْفَ تَقْضِي؟، فَقَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟، قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟، قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، قَالَ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ" [ الترمذي (1377 ) ].

 

إن هذا الحديث العظيم يبين للناس أن الفتوى إنما تكون بحسب منهج الله ودينه وشرعه، ولا يصح أبداً الاجتهاد مع وجود النص الشرعي، وإنما يكون الاجتهاد عند عدم وجود نص، ولهذا من يطلب الترخص في أمور قد قطع الله فيها وبيّن حكمها إنما يطلب الأعذار والتملق عن الحق، إذ كان يريد الحق لما جنح عن الحق المعلوم المحدد الذي أوضحه الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-!!.

 

عباد الله: لقد كثر في عصرنا هذا التعلل بالضرورات على غير وجهها الشرعي، وجعلت بعض الضرورات ذريعة لفعل كثير من المحظورات وترك الواجبات، تحت ستار مبدأ التخفيف والتيسير على الناس، دون التقيد بضوابط الضرورة الشرعية والجهل بأحكامها وبالحالات التي يصح التقيد بها عند وجود مقتضياتها، ولهذا يحاول بعض الناس التملص عن الدين والتخلص من أداء الفرائض الدينية لأسباب تافهة يعدونها من باب الضرورة!!.

 

وقد يبادر التاجر أو المزارع أو الصانع أو الموظف إلى الاقتراض بفائدة من المصارف العقارية أو التجارية أو الصناعية، ويتمسكون بمبدأ الضرورة في الإسلام، ويفتون لأنفسهم ولغيرهم بكل جرأة بإباحة ما حرم الله -سبحانه وتعالى- بحجة التيسير.

 

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرِّق عليهم بيوتهم بالنار" [البخاري (657) ، مسلم (651)]. هذا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- أراد أن يُحرق على هؤلاء المتخلفين عن صلاة الجماعة بيوتهم بسبب ربما يستصغره بعضنا، ويتخلف عن الجماعة بأعذار واهية بحجة التسهيل والتيسير، حتى أن بعضهم يترك صلاة الجماعة من أجل مشاهدة حفل وحضوره ثم يتعلل بهذه الحجة!!.

 

فاتقوا الله -عباد الله- وتمسكوا بالدين الحق، وخذوا به بقوة وحزم، فإن هذا الدين دين حق، ومنهج عدل وسط، من تمسك به فاز ونجا، ومن تملص عنه وحاول أن يلف ويدور فيه خاب وخسر.

 

هذا وصلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فبدأ بنفسه، وثنى بالملائكة المسبحة بقدسه، وثلث بكم -أيها المؤمنون- من جنه وإنسه، فقال عز من قائل –كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

 

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.

 

 

 

المرفقات

في الفتاوى

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات