اليوم الوطني .. وقفات وتنبيهات

خالد بن عبد العزيز الباتلي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ حب الوطن غريزة في النفس 2/ الوطن في الكتاب والسنة 3/ تذكر النعم وحفظها بالشكر 4/ حقيقة الوطنية والمواطنة 5/ همسة في أذن الشباب 6/ الحنين إلى الوطن الأول

اقتباس

إن حقيقةَ الوطنيةِ النصيحةُ لهذا الوطن بما يكون فيه خيره وخيرُ من يعيش فيه. إن حقيقةَ الوطنيةِ والمواطنةِ الصالحة أن يقوم كل فردٍ بواجبه بإخلاص وأمانة وصدق. إن من مقتضيات المواطنة الصالحة: احترامَ أنظمة الوطن، والمحافظةَ على أمنه ومرافِقه ومواردِه، والحِرصَ على...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله...

 

اتقوا الله...

 

أيها الناس: هذا اليوم يوافق مناسبةً وطنية، وهي ذكرى توحيد هذه البلاد الطيبة، حيث جمع الله القلوب، ورفعت رايةُ التوحيد، وتوطد الأمنُ في أرجاء الجزيرة.

 

وأمام هذه المناسبة نقف بعض الوقفات:

 

الوقفة الأولى: حب الوطن غريزة في النفس: محبّةُ الوطن والانتماءُ للبلد؛ أمر غريزيّ وطبيعةٌ طبع الله النفوس عليها، فحينَ يولَد إنسانٌ في أرض وينشأ فيها، فيشرب ماءَها، ويتنفّس هواءها، ويتقلب بين جنباتها، ويعيش بين أهلها؛ فإنَّ فطرته وعاطفتَه ترتبط بها، فيحبّها محبة فطرية طبيعية، ويحن إليها، قال أهل الأدَب: "إذا أردتَ أن تعرفَ الرجلَ فانظُر كيف تَحنُّنه إلى أوطانه، وتَشَوُّقُه إلى إخوانه، وبكاؤه على ما مضى من زمانه".

 

ويقولُ الجاحظُ في كتابِه: "الحنينُ إلى الأوطانِ": "كانتِ العربُ إذا غزتْ وسافرتْ حملتْ معها من تُربةِ بلادِها رملاً وعَفْراً تستنشقُه عندَ نزلةٍ أو زكامٍ أو صداع".

 

بلادٌ ألفناها على كلِ حالةٍ *** وقد يُؤْلَفُ الشيءُ الذي ليسَ بالحَسنْ

وتُسْتعذبُ الأرضُ التي لا هواءَ بها *** ولا ماؤها عذبٌ ولكنها وَطَنْ

 

حبُّ الأوطان غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، يألف الإنسان مكانَه الذي نشأ فيه، ويحن إليه إذا غاب عنه، ويتكدر خاطرُه إذا طالت غربته عنه.

 

وهذا الميل للوطن أمر طبيعي لا محذور فيه، إذا لم يتعارض مع الولاء للدين وللمؤمنين، أو يترتب عليه عصبية أو قدح وسباب.

 

ولا مانع أن ينتسب الإنسانُ لوطنه، فقد اشتهر في الصحابة بلالٌ الحبشي وصهيبٌ الروميّ وسلمان الفارسيّ، وغيرهم، ولم يؤثر ذلك على ولائهم للدين.

 

إن المحذور أن ترفع الوطنيةُ شعارا مقدسا مقدما على كل مبدأ ولو كان من صميم الدين، كما قال قائلهم:

 

هبوني ديناً يجعل العرب أمةً *** وسيروا بجثماني على دين برهم

بلادك قدمها على كل ملة *** ومن أجلها أفطر ومن أجل صم

سلام على كفر يوحد بيننا *** وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم

 

وقد نشأنا في هذا الوطن على تقديم الدين على المليك والوطن، وهذه نعمة ومفخرة والحمد لله.

 

الوقفة الثانية: الوطن في الكتاب والسنة: قد اقترنَ حبُّ الأرض بحبِّ النفس في القرآن الكريم، قال الله -عزّ وجل-: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) [النساء: 66] هذان أمران من الأمور الشاقة على النفس: إخراج الروح من الجسد, وإخراج الجسد من الوطن.

 

ولا يدرك مرارةَ الإخراج من الوطن الذي نشأ فيه المرء إلا من ذاق ذلك كما يعانيه أهلنا في الشام -فرج الله عنهم-.

 

وقال تعالى في موضع آخر يبين عظم التهجير من الوطن: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].

 

وفي قصّة الملأ من بني إسرائيل: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا) [البقرة: 246].

 

ولما كان الخروجُ من الوطَن شديدا على النّفس فقَد كان من فضائلِ المهاجرين أنهم ضَحَّوا بأوطانهم هِجرةً في سبيل الله، فتركوا مكة وهاجروا إلى الحبشة، ثم هاجروا إلى المدينة.

 

وأما رسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- فقد كان له وطنٌ يحبه، ففي سنَن الترمذيّ بإسناد صحيح عن عبد الله بن عديّ بن حمراء قال: "رأيتُ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واقفًا على الحَزْوَرَة فقال: "والله، إنّكِ لخيرُ أرضِ الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجتُ منك ما خرجت" ابتلى الله -تعالى- نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- بفراق الوطن، فقدم محبة الدين على محبة الوطن.

 

ولما اتخذ المدينة وطنا؛ دعا ربه أن يغرس حبها في قلبه، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد" [البخاري ومسلم].

 

وصارت المدينة وطنَه الثاني المحبوبَ إلى قلبه؛ عن أنس بن مالك -صلى الله عليه وسلم- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا قدم من سفر فأبصر درجات المدينة أوضع ناقته -أي: أسرع بها- وإذا كانت دابة حركها" [رواه البخاري]. وزاد بعض الرواة: "حركها من حبها".

 

قال ابن حجَر -رحمه الله-: "فيه دلالة على فضلِ المدينة، وعلى مشروعية حبِّ الوطن والحنين إليه".

 

ولشدة مفارقة الديار على النفس رتب الله الثوابَ العظيم للمهاجرين في سبيله الذين فارقوا أوطانهم وأوطان أهليهم استجابةً لربهم.

 

وجعل الله من عقوبة الزاني البكر بعد جلده التغريبَ والإبعادَ عن وطنه سنةً كاملة.

 

وقد اشتهر بين الناس حديث: "حب الوطن من الإيمان"، وهذا موضوع مكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم- ولا يصح معناه؛ لأنه أمر غريزي كما سبق، يشترك في ذلك المسلم والكافر، والبر والفاجر.

 

الوقفة الثالثة: تذكر النعم وحفظها بالشكر: إن هذه المناسبة فرصةٌ للتذكر والتذكير بنعم عظيمة أنعم الله بها علينا في بلدنا هذا، وحقه علينا أن نجتهد في شكره، لتحفظ النعم وتزداد: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم 7].

 

فمن أعظم ذلك: نعمة التوحيد والسنة، حيث توحدت البلاد على كلمة التوحيد، وطمست مظاهر الشرك والبدع.

 

ومن ذلك: نعمةُ اجتماع الكلمة، فبعد أن كانت الجزيرة قبائلَ متناحرةً، أصبحت واحةَ محبةٍ وسلام، يجتمع أهلها على الأخوة الدينية، وتلاشت مظاهر العصبية والثاراتُ القبلية.

 

ومن ذلك: نعمة الأمن؛ فبعد أن كان الناس في خوف، وتغلق أبواب البلد مع غروب الشمس، ولم يكد يسلم أحد من اللصوص وقطاعِ الطرق حتى حجاج بيت الله الحرام؛ أصبحت هذه الجزيرة آمنةً مطمئنة، يسافر المرء بسيارته من شرقها إلى غربها، ومن شمالها إلى جنوبها، في الليل والنهار، ومعه ماله وأهله، وهو آمنٌ لا يخاف إلا الله.

 

ومن ذلك: نعمة الرغد في العيش، بما حباها الله من خيرات وكنوز في باطن الأرض.

 

ومن كان يعلم ما كانت عليه هذه البلاد، وما آلت إليه؛ علم عظيمَ النعمةِ الدينية والدنيوية عليها.

 

إن هذه النعم ابتلاءٌ من الله لنا لينظرَ أنشكرُ أم نكفر، فالحذر أن نكون كما ضرب الله في كتابه، فقال: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) [النحل: 112].

 

الوقفة الرابعة: حقيقة الوطنية والمواطنة: إن حقيقةَ الوطنيةِ النصيحةُ لهذا الوطن بما يكون فيه خيره وخيرُ من يعيش فيه.

 

إن حقيقةَ الوطنيةِ والمواطنةِ الصالحة أن يقوم كل فردٍ بواجبه بإخلاص وأمانة وصدق.

 

إن من مقتضيات المواطنة الصالحة: احترامَ أنظمة الوطن، والمحافظةَ على أمنه ومرافِقه ومواردِه، والحِرصَ على مكتسباته وعوامِلِ بنائه، والحذرَ من كلّ ما يؤدي إلى نقصه.

 

ليست المواطنةُ الصالحة برفع الشعارات والصور والأعلام، وليست بالتشدق في الكلام، ومخالفة ذلك بالأفعال.

 

وليست بالاحتفال به كل عام، وجعله عيدا يضاهي الأعيادَ الشرعية، فهذا لا يجوز كما أفتى به العلماء الناصحون المخلصون لهذا الوطن.

 

المواطنة الصالحة تكون بالجوهر لا بالمظهر، بالحقيقة لا بالصورة فقط.

 

لا يصح أن ينتسب إلى هذا الوطن من يسعى في الإفساد والتخريب، والتدمير والتفجير والجرائم على اختلاف أنواعها.

 

كما لا يصح أن ينتسب إلى هذا الوطن من يسعى في فساد عقائد أهل الوطن وأخلاقهم، عن طريق القنوات والصحف والمجلات والمقالات، التي تبث الشبهات، وتثير الشهوات.

 

كما لا يصح أن ينتسب إلى هذا الوطن من يسعى في استغلال مقدرات الوطن وأهله بنهب المال العام بغير حق، أو استغلال حاجة الناس باحتكار السلع والمبالغة في الأسعار جشعا في الأرباح الطائلة.

 

أين المواطنة ممن جمع الأموال الكثيرة من خيرات الوطن ثم هاجر بها إلى بلاد الغرب واستثمرها هناك، وحرم أبناء الوطنِ من خيراته؟

 

بارك الله...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الوقفة الخامسة: همسة في أذن الشباب: إلى كل شاب ينتسب إلى هذه الأرض الطيبة أدعوه أن يتخلق بأخلاق الإسلام في هذه المناسبة وفي غيرها، وما حصل من بعض الشباب في الأعوام السابقة أمر دخيل ومؤسف.

 

لا يكون حب الوطن بالفوضى والتفحيط والتهور، أو الإخلال بالأمن بالاعتداء على الآمنين أو التعدي على الممتلكات، أذكركم بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا) [الأحزاب: 58].

 

وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من آذى المسلمين في طرقهم وجبت عليه لعنتهم" [رواه الطبراني وحسنه الألباني].

 

كما أنبه على مظهر مؤسف يقع في هذه المناسبة من بعض الشباب والأطفال وربما الكبار، ألا وهو امتهان العلم وما فيه من كلمة التوحيد، فالبعض يلفه على وسطه ويرقص على صخب الغناء، والبعض يجلس عليه، والبعض يرميه في الشوارع والميادين.

 

الوقفة السادسة: الحنين إلى الوطن الأول: نعم -أيها الإخوة- فثمة وطنٌ سكنه أبونا آدمُ -عليه السلام-، وهو أول وطن له، وهو خير الأوطان وأفضلُ الأماكن، ألا وهو الجنة دار النعيم المقيم، فالمسلم يتعلق قلبه بذاك الوطن، ويحن ويشتاق إليه، ويعمل بجد للرجوع إليه.

 

فحيّ على جنات عدنٍ فإنها *** منازلك الأولى وفيها المخيَّم

ولكننا سبي العدوّ فهل ترى *** نعود إلى أوطاننـا ونسلم؟

 

ولهذا كان المؤمن غريبا في هذه الدار، أينما حلّ منها فهو في دار غربة، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل" [أخرجه البخاري] فهو في انتظار وترقب للرجوع إلى وطنه الأول.

 

اللهم...

 

 

المرفقات

الوطني .. وقفات وتنبيهات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات