رسائل من ولد إلى والده

سلطان بن عبد الله العمري

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ من صور التقصير والسلبية لدى الآباء 2/ سبل علاج ذلك التقصير وتلك السلبية

اقتباس

جاء الليلُ بسكونهِ، دخل ذلك الأبُ إلى غرفتهِ وتفاجأ برسالةٍ طويلةٍ كتبها أحدُ أبنائه يقولُ فيها: والدي الغالي، أنا أحبك، وأشعرُ أن عليَّ واجبا تجاهك، يجب عليَّ أن أُطيعَكَ وأستجيب لك، وأن أبذلَ ما بوسعي لتحقيقِ رضاك عني. ولكن؛ هناكَ أمورٌ لاحظتها عليكَ أحببتُ أن أنثرها بين يديك، هي عشرونَ ومضة، فأرجوكَ أن تقبلها بكلِّ حبٍّ.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الذي بيده مفاتيح الخيرات، والصلاة والسلام على نبي الهداية والبركات.

 

أما بعد: جاء الليلُ بسكونهِ، دخل ذلك الأبُ إلى غرفتهِ وتفاجأ برسالةٍ طويلةٍ كتبها أحدُ أبنائه يقولُ فيها:

 

والدي الغالي، أنا أحبك، وأشعرُ أن عليَّ واجبا تجاهك، يجب عليَّ أن أُطيعَكَ وأستجيب لك، وأن أبذلَ ما بوسعي لتحقيقِ رضاك عني.

 

ولكن؛ هناكَ أمورٌ لاحظتها عليكَ أحببتُ أن أنثرها بين يديك، هي عشرونَ ومضة، فأرجوكَ أن تقبلها بكلِّ حبٍّ.

 

يا أبتِ، لماذا تنامُ عن صلاةِ الفجرِ وتضبطُ المنبه فقط لموعدِ الدوام لتنهض بكل خفةٍ ومبادرة؟ لِم يا أبتِ أصبحت الدنيا عندك أهمّ من الآخرة؟ هل أنت تخاف من التأخر عن الدوام ولا تخاف من عقوبة الله لك بسبب تأخرك عن الصلاة؟ إنِّي أخافُ عليكَ يا والدي، تأكد أَنَّ صلاةَ الفجرِ بدايةُ سعادتك في كل يوم، وهي بوابةُ الرزق لك، قال -تعالى-: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]...

 

يا أبت،كم أشتاق لتلك اللحظة التي أراك فيها وقد تركت التدخين! إن رائحة التدخين تؤذينا، ووالله! إني لأرحم أمي التي تعاني أشد منا بسبب تلك الرائحة.

 

يا أبت، لقد مات الكثير بسبب التدخين ونحن نحبك ولا نريد أيَّ ضرر يلحق بك، أرجوك يا أبت، ارم بالدخان بلا عودة، واتركه لأجل الله، وسيعوضك الله خيراً منه.

 

يا أبت، لقد انتهيتُ من الجامعةِ وها أنا قد توظفتُ وأرغبُ في الزواج، فكن معي بحكمتك، وأرشدني إلى أُسُسِ النجاحِ في الحياةِ الأسريةِ.

 

إنَّ الزواجَ مرحلةٌ جديدةٌ من مراحلِ الحياةِ ولا أعرفُ عنها شيئا، اجلس معي وأخبرني ووجهني في كيفيةِ إدارةِ الحياةِ الأسريةِ.

 

يا أبتِ، أنت تحدِّثُنا عن الدُّنيا كثيراً حتى جعلتها كلَّ شيءٍ في حياتنا، نتمنى أن تحدّثَنا يوماً عن الجنةِ ونعيمِها، والنار وَسَمومِها، حدِّثْنا عن رحمةِ الله، عن أسمائه وصفاته، تكلَّم مَعَنا عن خبراتك في الحياةِ بطريقةٍ تشوِّقُنا للجلوسِ معك. بصراحةٍ يا أبتِ، كلَّما أردتُ الجلوسَ معك أقولُ في نفسي: سيقولُ لي ذاكر واجتهد في دراستك! لماذا تحرمنا من الجلوسِ معك بسبب كلماتك؟.

 

يا أبت، نراكَ في لَحَظاتٍ كثيرةٍ وأنت جالسٌ معنا تقلبُ جوالك وتدخل المواقع وكأننا لسنا حولك! أمي تنتظر منك ابتسامةً صادقة، ونحن نترقب كلمةً طيبة وقصةً نافعة، ولكنك مشغول عنا بجوالك، تراسل هذا وترد على هذا، فمرةً مع تويتر ومرةً مع الفيس ومراتٍ كثيرة مع الواتساب.

 

يا أبت، نحن نحبك؛ فلماذا تهمل وجودنا بينك؟ اترك الجوال جانباً وخذ أخي الصغير وأجلسه على فخذك وقبله وضمه لك.

 

انظر لنا بكل حبٍ وحنان، انشر بسمتك وعواطفك، لديك وقت آخر لتتصفح الجوال وبرامج التواصل.

 

يا أبت، في بيتنا مجموعةٌ لتلك القنوات المحرمة، يتابعها إخوتي خلسةً في غيابك، قنوات الرقص والغناء والمناظر السيئة، حرام عليك يا أبت أن تُدخل تلك القنوات لبيتك، أنت محاسب يوم القيامة عنا، هل نسيت قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"؟.

 

يا أبت،كم نفرحُ حينما نخرجُ معك للنزهة، نتمنى منك أن تعتني بهذا جيداً، اجعل لنا وقتاً كلَّ أسبوعٍ لنزهةٍ جميلةٍ هنا أو هناك، إن خروجنا معك يجددُ الحياةَ، وينمي الحب، ويزرع المودةَ في أسرتنا؛ وحينما نخرج، اخرج أنت بكل شوق ورغبة ولا تشعرنا بأنك مشغول وتستعجل علينا في الرجوع من تلك النزهة، إنما هي لحظاتٌ يسيرةٌ ونعود للبيت وتعودُ أنت لاهتماماتك.

 

يا أبت، يعجبني أنك تحترم أصدقائي حينما تقابلهم معي، فتسلم عليهم وتحادثهم وتضاحكهم، أنت يا أبت أفضل من والد صديقي الذي يقسو علينا بنظراته حينما يشاهدنا وكأننا أعداءٌ له! حتى إننا نبتعد عنه حينما نراه في الطريق.

 

يا أبت، أختي الكبرى قاربت الثلاثين وأنت لازلت مصراً على أن تزوجها من ابن أخيك، مع أنها لا تريده، فضلاً عن سلوكه السيئ وضعفِ دينه. يا أبت، لماذا تمنَعُها من حريتها في اتخاذ قرار الزواج ممن ترضى؟ إن إجبارك لها ليس في صالحك أنت، إذ ربما توافق مجاملةً لك ثم تعود لك بعد أشهر وهي تحمل لقب "مطلقة"؛ والسبب أنت!.

 

نعم، ليس المعنى أن نتركها تختار من تشاء، لا، ولكن نستأذنها في من يأتي لها ونسمع رأيها. عذراً يا أبي! فالزواج مستقبلها وهي التي ستعيش مع الزوج بحلوه ومره.

 

يا أبت، نتمنى أن تمارس معنا التحفيز وزرع الأمل في نفوسنا، إن كلماتك لها أثر كبير في دفعنا للمزيد من التقدم والنجاح، رُبَّ كلمةٍ منك صنعت في نفسي الطموحَ والأمل، وُرب كلمةٍ منك كانت سبباً في فشلي في حياتي، "إن الكلمة الطيبة صدقة"، ولكنها منك صدقةٌ ونور.

 

يا أبت، نحن وإخوتي من البشر الذين لا بد أن يقع منهم الخطأ، فنرجو أن تكون حكيماً في تعاملك معنا حينما نخطئ.

 

إن إدارةَ الموقفِ تحتاجُ منك للهدوء والتأني وحسنِ القرار، ليس الغضب هو الحل دائماً، بل ربما كان الغضب والضرب هو بداية الانحراف، لعلك تعلم بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما كان الرفقُ في شيء إلا زانه، ولا نُزع من شيء إلا شانه".

 

والدي الحبيب: ادع لنا في سجودك، اذكرنا في دعائك بين الأذان والإقامة، ولا تكن ممن يدعو على أولاده لأجل أخطاء يقع فيها كل الأولاد، وتأمل قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لا تدعو على أولادكم ولا أموالكم، لا توافقوا من الله ساعةً فيستجيب لكم".

 

يا أبت، أنت قدوةٌ لنا في أخلاقك وأقوالك وصلاتك، فاحفظ ذلك جيداً، نحن نترقب كلماتك وسنقلدك فيها، وننظر لأفعالك ونتابعك عليها، حينما تنام عن الصلاة سننام وحينما تقوم سنقوم. كن خيرَ قدوةٍ لنا في أخلاقك وعبادتك.

 

يا أبت، نتمنى أن تكون ذكرياتُنا معك جميلة لنحكيها لأطفالنا بعد زمن، إن بعض الآباء لم يحفظ أولادهم عن والدهم إلا أنه كان بخيلاً، وكان يضربهم، وكان يمنعهم من اللعب، وكان وكان... سوف تغادر الحياة يا أبي عاجلاً أو آجلاً، فلتكن ذكرياتنا عنك جميلة.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله.

 

وبعد: والدي الغالي، والدتي من جنس البشر، تخطئ وتقصر وتسهو وتغضب وتمرض، فلماذا نراك قاسياً عليها، تعاملها بكل شدة؟ رفقاً يا أبي! أين الرحمة بأمي؟ إنها شريكة حياتك منذُ سنوات، لقد خدمتك طوال حياتك معها وكانت معك في السراء والضراء، هل من الوفاء أن تكون معها بهذه القسوة؟ يا أبي، كن رحيماً ليرحمك الرحمن، لا تنس حسنات والدتي بسبب أخطاء يمكنُ إصلاحها. إنك حينما تقسو عليها تضع بغضك في قلوبنا، حافظ على مشاعرِ أمي، أرجوك يا أبي!.

 

إني أقترحُ عليكَ أن تشتري لها هديةً هذا اليوم لتجدد الحب بينكما، وتغسل ما جرى من الخلافات.

 

يا أبت، خذنا معك لنؤدي العمرة سوياً في رحلةٍ إيمانية جميلة، إن العمرة لها فضل كبير، لقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد".

 

إني لأتعجب منك يا أبي، تسافر مع أصحابك للبلد الذي يعجبكم ونحن تمضي علينا السنوات ونحن لم نتمتع بالطواف حول البيت الحرام! نتمنى أن تضع أسرتك في مقدمة اهتماماتك يا أبي، ليس فقط في النواحي المالية؛ بل حتى في النواحي النفسية والترفيهية.

 

والدي الحبيب، إن التربية ليست فقط في شراء الملابس والجوالات والكتب والدفاتر والطعام لنا، إن التربيةَ مسؤوليةٌ كبيرة، وحملٌ ثقيل، اعتنِ بنا، خاصةً في طفولتنا؛ لننشأ في تربيةٍ صالحة، إن التربية في الصغر كالنقش في الحجر.

 

حذارِ يا أبي أن تشتغل بتجارتك وهمومك عن تربيتنا! ولا يصح أن تضع همّ التربية كله على والدتنا، شارك والدتي في رعايتنا وتوجيهنا وتربيتنا؛ لنكون أسرةً صالحةً.

 

أبي، إنَّ من الجميلِ أن تقرأَ في كتبِ التربيةِ لتزدادَ ثقافةً في التربية، ولعل من الأفضل أن تستمع لبعض الصوتيات التي تهتم بمواضيع التربية.

 

إن الزمن يتغير، والمفاهيمُ تختلف، وأنت بحاجة لفنونٍ جديدة في تربية الأبناء والبنات.

 

يا أبي، أخواتي بحاجة لعواطفك وأنا ألحظُ انصرافكَ عنهم. سؤالك دائماً: كيف دراستكم؟  فقط! هم بحاجة لقبلةٍ منك، إلى لمسةٍ هادئة، لكلمة حب صادقة، أخواتي ينتظرن منك أن تشبع عاطفتهم كما تشبع بطونهم.

 

يا أبت، اقترب من أخواتي أكثر، خذهم معك في سفر خاص بينكم، اذهب بهم للسوق ولا تعتذر عن ذلك بأشغالك، خذ لهم هديةً بين وقتٍ وآخر.

 

يا أبت، اعدل بيني وبين إخوتي ولا تفضل أحداً على أحد، أراك تعطي أخي من الحب أكثر مني، وتمنحه من المال أكثر مني، وتثني عليه في المجالس وكأنني لست ولدك، مع أنني أبذل ما أستطيع لأجل برِّك؛ لقد قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم".

 

إن عدم العدل يسبب العداوة بيني وبين أخي، ويوقع بغضك في قلبي، إن العدل طريق لزرع الحب بين أسرتنا يا أبي.

 

والدي الغالي: إن مما يؤلمني تلك الساعة التي أراك فيها تقلب القنوات الآثمة، إن هذا من المنكرات يا أبي، تذكر يا أبي أنك حينما تغلق الباب لكي لا نراك، أنك لن تغلق الباب الذي بينك وبين الله.

 

والدي الحبيب، (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) [آل عمران:5]. إن غض البصر عن المحرمات من أوجب الواجبات، ورسولنا -صلى الله عليه وسلم- يوصي علياً ويقول: "لا تتبع النظرة النظرة". إن النظرات تجلب الحسرات وتملأ القلب بالشهوات.

 

احفظ بصرك -يا أبي- لتبقى عزيزاً عند الله، واحذر الذنوب التي تصغرك عند الله، (وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ) [الحج:18].

 

ختاماً يا أبي، أعتذرُ إن كنتُ قد قسوتُ عليك في رسائلي؛ فوالله! ما دفعني لكتابَتِها إلا الحب لك، والخوف عليك، ورغبتي في أن تكون أباً متميزاً.

 

يا رب، كما جمعتني بوالديَّ في هذه الحياة فاجمعنا غداً في جنات الخلود.

 

 

 

المرفقات

من ولد إلى والده

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات